اخترقت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية جدار التأييد الأمريكى الأعمى للعدوان الإسرائيلى أمس الأول الجمعة، حينما نشرت تقريرا عن قطاع غزة أشارت فيه إلى أنه أصبح «مقبرة للأطفال».
نقلت الصحيفة عبر موقعها الإلكترونى قصة أب فلسطينى، يدعى يوسف شرف، الذى فقد أبناءه الأربعة وزوجته ووالديه وأشقاءه الثلاثة وشقيقتيه وأعمامه وزوجاتهم، والعديد من أطفال العائلة.
وعبر الهاتف، تحدث الأب الفلسطينى مع الصحيفة، وحكى قصته التى هى صورة طبق الأصل لآلاف الفلسطينيين الأبرياء الذين فقدوا ذويهم وأبناءهم وأسرهم بفعل آلة الحرب الإسرائيلية التى تحصد الأرواح، وتقتل دون تمييز فى أسوأ كابوس تعيشه البشرية فى العصر الحديث.
أوضح الأب الفلسطينى أن أسرته كانت تعيش بمخيم اللاجئين فى خان يونس، وكانوا يظنون أنهم يعيشون حياة بسيطة فى مكان آمن، وكان هو يوزع الطعام على النازحين فى مهمة تطوعية. وفى أثناء قيامه بذلك، تلقى مكالمة هاتفية بشأن غارة إسرائيلية على برج سكنى تسكنه عائلته، فعاد مسرعا، ليجد تلك المأساة المفجعة التى هى نموذج طبق الأصل لآلاف القصص المشابهة.
حاولت الصحيفة الاتصال بالجيش الإسرائيلى، لكنه لم يرد، لأنه لم يعتد الصراحة، واقتصر دوره على نشر الأكاذيب.
هى إذن صحيفة أمريكية تخترق جدار أكاذيب الدعاية الأمريكية والغربية، وتقدم مشهدا حيا للمأساة التى يعيشها سكان غزة فى أسوأ كابوس بشرى عنصرى، وأكبر جريمة للإبادة الجماعية فى العصر الحديث.
رسالة مصر القوية والواضحة
أوضحت الصحيفة أن هناك أكثر من 3700 طفل قتلوا فى غزة بحسب بيانات وزارة الصحة فى غزة، مما يبدو كأنه استهداف لجيل كامل من الأطفال، حيث تجاوز عدد الأطفال الذين قتلوا فى غزة إجمالى عدد قتلى الأطفال فى جميع مناطق النزاع بالعالم منذ 2019، حسبما ذكرت منظمة «إنقاذ الطفولة» الخيرية العالمية فى تقريرها.
على الرغم من كل هذه البشاعة، لاتزال الإدارة الأمريكية تقدم دعما غير مسبوق للجيش الإسرائيلى فى عدوانه على قطاع غزة، وهو ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، فى أثناء زيارته المنطقة، التى بدأها أمس الأول الجمعة، حينما زار إسرائيل، وجدد دعم بلاده العدوان الإسرائيلى دون قيود بعد لقائه الرئيس الإسرائيلى، مشيرا إلى أنه «ليس لإسرائيل الحق فحسب، بل واجب عليها الدفاع عن نفسها»، وهو ما يؤكد الموقف المنحاز وغير الأخلاقى وغير القانونى للإدارة الأمريكية فى مساندة العدوان الإسرائيلى داخل الأراضى المحتلة منذ 56 عاما.
كان من المتوقع أن يبحث وزير الخارجية الأمريكى فى زيارته الأخيرة وقفا شاملا لإطلاق النار، لإنقاذ من تبقى من المدنيين، وإتاحة كل أشكال المساعدات، من أدوية وأغذية ووقود، خاصة بعد أن توقفت مولدات المستشفيات وسيارات الإسعاف ونقل الموتى، ولم تعد هناك وسيلة لحمل جثامين الشهداء ولا المصابين سوى عربات الكارو.
للأسف الشديد، تغامر الإدارة الأمريكية بما تبقى من سمعتها المنهارة على مستوى منطقة الشرق الأوسط والعالم كله نتيجة موقفها اللا أخلاقى واللا إنسانى وغير القانونى نحو دعم ومساندة العدوان الإسرائيلى بلا حدود، وتصر على أن تقف داعمة ومساندة لقتل الأطفال والنساء والأبرياء فى قطاع غزة.
على الجانب الآخر، فقد تورط الجيش الإسرائيلى فى حالة من الجنون و«السعار»، وأصبح لا يفرق بين ما هو مدنى وما هو عسكرى، حيث يقوم بتدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها كما حدث فى مخيم جباليا، وأزال أحياء سكنية كاملة فى العديد من مناطق غزة، بل إنه لم يتورع عن قصف المستشفيات وقتل المرضى كما حدث فى مستشفى المعمدانى، وامتدت العدوانية والسادية إلى استهداف سيارات الاسعاف وأمتد الجنون إلى المارة فى الشوارع، حينما استهدف مجموعة من النازحين أمس الأول فى أثناء ترجلهم على طريق الرشيد الساحلى بغزة، فتحولوا إلى أشلاء، بينما أثبتت التقارير والصور أنه لم تكن معهم أية أسلحة أو ذخائر، وإنما كانوا مجموعة من النازحين الباحثين عن مكان آمن للإيواء.
للأسف الشديد، ليس هناك تغيير ملموس فى لغة خطاب الإدارة الأمريكية حتى الآن تجاه الصراع الدائر الآن فى غزة، ولا يزال «النهج الأعمى» المساند لإسرائيل وعدوانها سائدا فى السياسة الأمريكية.
حتى الآن ليس هناك حديث من الجانب الأمريكى عن وقف شامل لإطلاق النار، على الرغم من ملامسة أعداد القتلى من الفلسطينيين حاجز الـ١٠ آلاف قتيل، وربما وقت قراءة هذا المقال يكون قد تم تجاوز هذا الرقم بكثير، فلا تكاد تمر ساعة دون سقوط ضحايا جدد من الشهداء والمصابين فى الجانب الفلسطينى.
ولأن مصر تعى المشهد كاملا، فقد أعلنت بوضوح منذ بداية تدهور الأوضاع فى ٧ أكتوبر الماضى ضرورة وقف فورى لإطلاق النار، والبحث عن جذر المشكلة، كما أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته أمام مؤتمر القاهرة للسلام، الذى دعت إليه القاهرة منذ أكثر من أسبوعين، وحذرت فيه من خطورة الصراع، وضرورة نبذ أوهام القوة، ووقف الإجراءات الأحادية، والاستيطان، وتدنيس المقدسات، وخلع الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم، ومن القدس الشريف.
أكثر من أسبوعين مضيا على نداء القاهرة للسلام، الذى خرج مدويا للبحث عن الأمن والسلم لكل شعوب المنطقة، لكن «جنون القوة» للجيش الإسرائيلى، والدعم اللامحدود من الإدارة الأمريكية لايزالان يقفان حائلا دون الاستماع إلى صوت العقل والحكمة والخبرة الذى يخرج من مصر، لضمان السلام الدائم والعادل لكل شعوب المنطقة.
مصر هى أكثر الدول التى تحملت فاتورة ضخمة فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وهى أكثر الدول المستهدفة بالمؤامرات منذ عدوان ١٩٥٦ حتى العدوان الأخير على غزة، بعد أحداث ٧ أكتوبر الماضى، حيث أجهضت مصر المخطط الشيطانى الإسرائيلى لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كمرحلة أولى لتصفية القضية الفلسطينية، تمهيدا لبدء مرحلة جديدة من الأوهام الإسرائيلية فى قيام إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
وقفت مصر، ولاتزال، على قلب رجل واحد خلف قائدها الرئيس عبدالفتاح السيسى وجيشها فى رسالة قوية واضحة على ثبات الموقف المصرى فى دعم ومساندة الأشقاء فى فلسطين، وحقهم الشرعى فى إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض أية محاولات لتهجير الفلسطينيين قسرا إلى مصر أو الأردن، أو غيرهما تحت أى مسمى، حفاظا على القضية الفلسطينية، وضرورة حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة فى تقرير المصير والعيش بكرامة وأمان فى دولة مستقلة على أرضهم، مثلهم مثل باقى شعوب الأرض.
أتمنى أن تراجع الإدارة الأمريكية مواقفها المنحازة بشكل أعمى إلى إسرائيل قبل أن تنفجر المنطقة بالكامل، وتتحول إلى برميل بارود يحترق فيه الأخضر واليابس، وتتضرر المصالح الأمريكية بشدة فى المنطقة وخارجها دون أن يتحقق السلام والأمن لأى طرف، ولكل شعوب المنطقة بالكامل، بما فيها الشعبان الإسرائيلى والفلسطينى.