جاء مؤتمر القاهرة للسلام، الذى دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى الأسبوع الماضى، ليكون بمثابة حجر ضخم «ألقته مصر» لتصحيح المسار «المختل» الذى تصر عليه «إسرائيل»، مدعومة بدعم أمريكى لا نهائى، وتسير معهما فى الطريق نفسه معظم الدول الغربية، وهى معصوبة العينين.
ميزة مؤتمر القاهرة للسلام أنه أكد رشد الرؤية المصرية، وقدرتها على تشخيص الأزمة وأسبابها ومسبباتها وأعراضها وتداعياتها، فالأحداث الأخيرة التى انطلقت 7 أكتوبر بعملية «طوفان الأقصى»، وما تبعها من مجازر وحشية غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى، من جيش الإحتلال الاسرائيلى ما هى إلا مجرد عرض لمرض أصيل، ولن تهدأ الأوضاع أو تستقر إلا بعلاج المرض الأصلى، ألا وهو إزالة الاحتلال الإسرائيلى من الأراضى الفلسطينية، وفى هذه الحالة فقط سوف تسكت أصوات البنادق، ويعود إلى المنطقة أمنها واستقرارها المفقود منذ 75 عاما بالتمام والكمال.
مصر أرادت خلال مؤتمر القاهرة للسلام توضيح مسببات الأزمة، وأنه لن يكون هناك حل على الإطلاق، طال الوقت أم قصر، إلا بالحل العادل للقضية الفلسطينية، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
مصداقية الرؤية المصرية
تساءل الرئيس فى كلمته القوية أمام الحاضرين فى قمة القاهرة للسلام قائلا: هل كتب على هذه المنطقة أن تعيش فى هذا الصراع للأبد؟ ألم يأن الوقت للتعامل مع جذر مشكلة الشرق الأوسط؟ ألم يأت الحين لنبذ الأوهام السياسية بأن الوضع القائم قابل للاستمرار سواء فيما يتعلق بالإجراءات الأحادية، والاستيطان، وتدنيس المقدسات، وخلع الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم، ومن القدس الشريف؟.
تساؤلات حاولت اختراق الآذان الصماء، والعيون العمياء والتى كان بعضها حاضرا للمؤتمر عن أسباب المشكلة الحقيقية، ولم يكتف الرئيس عبدالفتاح السيسى بطرح تلك التساؤلات، لكنه طرح الإجابة عنها بكل وضوح، قائلا: «اليوم تقول لكم مصر بكلمات ناصحة أمينة إن حل القضية الفلسطينية ليس التهجير، وليس بإزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى، بل إن حلها الوحيد هو العدل بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة فى تقرير المصير، والعيش بكرامة وأمان فى دولة مستقلة على أرضهم مثلهم مثل باقى شعوب الأرض».
على الجانب المقابل، وبالعودة إلى جذور المشكلة، نجد أن التاريخ لم يسجل قديما قيام دولة يهودية على أرض فلسطين أو غيرها من دول العالم، وإنما قامت إسرائيل بوعد من «من لا يملك لمن لا يستحق»، حينما قامت الحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد فى ٢ نوفمبر ١٩١٧ بإعلان وعد بلفور المشئوم لإقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين التى كانت تقع ضمن الدولة العثمانية، وتسكنها أقلية يهودية تتراوح ما بين 5:3٪ من إجمالى عدد السكان مثلها مثل الدول الأخرى التى توجد بها أقليات من اليهود فى كل دول العالم، بل ربما كانت فلسطين من الدول الأقل فى التواجد اليهودى مقارنة بغيرها من الدول الأخرى فى أوروبا أو أمريكا أو روسيا أو غيرها.
تحول وعد بلفور من مجرد وعد إلى حقيقة مؤلمة بعد نكبة ١٩٤٨ التى تمكنت فيها العصابات اليهودية المدعومة بالحماية البريطانية والدعم الأوروبى من إقامة الدولة اليهودية بعد طرد الفلسطينيين من بيوتهم ومنازلهم، وتحويل أكثر من ٧٥٠ ألف فلسطينى إلى لاجئين، بعد ارتكاب عشرات المجازر والفظائع، وأعمال النهب والسلب للممتلكات الفلسطينية، وارتكاب فظائع وصلت إلى أعمال تطهير عرقى وإبادة جماعية منظمة ضد الفلسطينيين.
منذ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل فى ١٤ مايو ١٩٤٨، أى منذ أكثر من ٧٥ عاما حتى الآن، تحولت إسرائيل إلى بؤرة سرطانية مدمرة، تنشر الخراب والدمار فى المنطقة العربية، ولا تكتفى بحدودها، وإنما دائما تجرى وراء السراب، متدثرة بعباءة الدول الاستعمارية الكبرى فى البداية (إنجلترا وفرنسا)، ثم قادت الولايات المتحدة الأمريكية هذا التحالف الشيطانى الذى يستهدف «تفتيت» المنطقة العربية وتخريبها، وتركيعها اقتصاديا وسياسيا لمصلحة المخططات الصهيونية، حيث اعترف الرئيس الأمريكى جو بايدن، فى تصريحاته، بأنه «صهيونى»، وأن إسرائيل خيار إستراتيجى لهم، قائلا: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخلقها، لحماية مصالحها».
كانت مصر وما زالت هى المتضرر الأكبر طول الـ٧٥ عاما الماضية من الصراع العربى ــ الإسرائيلى، حيث خاضت ٤ حروب، كانت بدايتها حرب ١٩٤٨، ثم العدوان الثلاثى (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) فى ١٩٥٦، ثم حرب ١٩٦٧ العدوانية التوسعية التى أطلقتها إسرائيل فى وقت كانت تزعم فيه رغبتها فى السلام والبقاء الآمن فى المنطقة العربية، لكنها فعلت عكس ذلك، وقامت بأكبر حرب عدوانية فى تاريخ المنطقة، والتهمت بها كامل الأراضى الفلسطينية التى حددها قرار التقسيم، بما فيها الضفة العربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إلى جانب احتلالها شبه جزيرة سيناء فى مصر، والجولان فى سوريا، وبعض مناطق الأردن ولبنان.
جاءت حرب ١٩٦٧ لتؤكد العقلية الاستعمارية المتحكمة فى قادة إسرائيل، وأنها دولة لا تبحث عن السلام، لكنها تبحث دائما عن العدوان والتوسع، والتهام أراضى الغير.
اضطرت مصر إلى خوض حرب أكتوبر المجيدة فى ١٩٧٣، لتحرير أراضيها المحتلة فى شبه جزيرة سيناء، ونجح الجيش المصرى العظيم فى تغيير المعادلة الإستراتيجية بالشرق الأوسط، وهزيمة الجيش الإسرائيلى، وكسر شوكته، وإنهاء أسطورته الزائفة «بأنه جيش لا يقهر».
من منطق القوة والانتصار، دعت مصر إلى السلام، وكانت صاحبة الطلعة الأولى فى هذا المجال، كما كانت صاحبة الانتصار الأعظم والأول على الجيش الإسرائيلى، وتم توقيع اتفاقية السلام المصرية ــ الإسرائيلية التى استردت فيها مصر كامل الأراضى المصرية، وانتهى ذلك الماراثون الصعب بالتحكيم الدولى فى قضية طابا، لتعود إلى أحضان مصر بعد أن صدر الحكم لمصلحة مصر فى ٢٩ سبتمبر ١٩٨٨.
بعد ذلك التاريخ بنحو ٥ سنوات، وقع الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات اتفاقية أوسلو مع رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين، وذلك فى 13 سبتمبر 1993، بحضور ورعاية الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون.
بموجب هذه الاتفاقية، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى، بحق دولة إسرائيل فى الوجود. كما اعترفت إسرائيل بحق إقامة دولة فلسطينية من خلال مفاوضات «الحل النهائى».
كان من المفترض أن تؤدى تلك الاتفاقية إلى إحلال السلام فى الشرق الأوسط، وقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية طبقا لقرارات الشرعية الدولية، لكن ــ للأسف الشديد ــ انتصر التطرف على السلام فى إسرائيل، حيث تم اغتيال إسحق رابين على يد إرهابى إسرائيلى، هو إيجال أمير، حينما أطلق النار على رئيس الوزراء خلال مهرجان مؤيد للسلام فى ميدان رابين بمدينة تل أبيب فى 4 نوفمبر 1995.
مات السلام فى إسرائيل بموت إسحق رابين، وبدأت التيارات المتطرفة الإرهابية منذ ذلك الحين فى الاستيلاء على مقاليد الحكم هناك، لتشتعل الانتفاضة الفلسطينية الثانية باقتحام أرئيل شارون، رئيس وزراء إسرائيل الراحل، ساحات المسجد الأقصى، لتنطلق إثر ذلك الانتفاضة الثانية التى كان أشهر ضحاياها هو الطفل محمد الدرة «11 عاما»، الذى تم اغتياله وهو يحتمى بحضن أبيه خلف برميل أسمنتى فى شارع صلاح الدين بغزة.
منذ ذلك الحين والعقلية الإرهابية المتطرفة تسيطر على قادة إسرائيل، وتساندهم فى ذلك بكل «بجاحة» ومن دون سقف الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، والدول الغربية بشكل عام، حيث يتم تقديم المخصصات المالية والمساعدات العسكرية اللامحدودة للجانب الإسرائيلى، ومن دون ضوابط، إلى جانب استخدام أمريكا حق «الفيتو» فى حماية إسرائيل وقت اللزوم من العقاب فى مجلس الأمن، وإفشال كل مخططات وقف عدوانها السافر، كما حدث فى اجتماعات مجلس الأمن الأخيرة، حينما أفشلت أمريكا مشروع القرار الروسى بإيقاف الحرب على غزة الدائرة الآن، والمطالبة بحل سياسى يضمن إقامة الدولة الفلسطينية طبقا لمقررات الشرعية الدولية.
هنا «مكمن الخلل» و«سر الأزمة» الذى لابد من حل دائم له، ولن يكون ذلك إلا بإعطاء الشعب الفلسطينى حقه فى إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.
تلك هى الرسالة التى أكدها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى ختام كلمته أمام قمة القاهرة للسلام، حينما طالب بوقف فورى لإطلاق النار، ثم البدء بشكل عاجل فى مفاوضات، لإحياء عملية السلام وصولاً إلى حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
أعتقد أنه إذا كان العالم راغبا فى السلام الحقيقى والدائم فلا بديل أمامه سوى المسار المصرى القائم على إنهاء الاحتلال أولا، وقبل كل شىء، ليسود بعده السلام والعدل كل دول المنطقة، ودون ذلك فهو مجرد أوهام كاذبة تعيشها إسرائيل، وتحميها ــ للأسف الشديد ــ أمريكا وحلفاؤها.