فى خطوة غير متوقعة أصبحت تلوح فى الأفق على أعتاب الانتخابات الأمريكية بعزل الرئيس الأمريكى جو بايدن، وستعقد اليوم أولى جلسات الاستماع بشأن التحقيق فى عزل الرئيس؛ حيث ذكر الجمهورى "جيمس كومر" رئيس لجنة الرقابة والمحاسبة بمجلس النواب الأمريكى أن اللجنة ستستمع إلى خبراء قانونيين وماليين حول ما تقدم بها كيفن مكارثى رئيس مجلس النواب الجمهورى بطلب رسمى لفتح تحقيق لمساءلة بايدن حول الجرائم التى ارتكبها التى انحصرت فى الفساد، وسوء استخدام السلطة، وعرقلة سير العدالة.
هذا مع ما ذكرته لجنة المراقبة فى مجلس النواب الأمريكى بأن عائلة الرئيس تلقت ما يقرب من 20 مليون دولار فى شكل مدفوعات من مصادر أجنبية من دول من بينها روسيا و الصين وأوكرانيا، وقيام الرئيس جو بايدن بالضغط على الحكومة الأوكرانية لإقالة مدع عام بارز لوقف التحقيق فى شركة النفط والغاز الأوكرانية "بورسيما"؛ حيث كان هانتر بايدن عضوا فى مجلس إدارتها عام 2019 ويواجه تهمة الرشوة، وأيضا استفادة الرئيس من صفقات ابنه هانتر التجارية الخارجية، وعدَّ الجمهوريون هذه القضية بمنزلة الكذب على الشعب بعدم مصارحة الرئيس للشعب الأمريكى بخصوص ما قام به ابنه من أعمال مخالفات. أيضا ذكر الجمهوريون أن وزارة العدل تدخلت سياسيا فى قضية هانتر بايدن، الأمر الذى من شأنه عرقلة سير العدالة.
محاولات عزل بايدن لم تكن الأولى، لكن سبقه سلفه دونالد ترامب الذى تعرض لإجراءات عزل من منصبه مرتين، لكن فشلت الجهود رغم كل محاولات الديمقراطيين حينها للإطاحة به ليأتى اليوم ويقوم الجمهوريون بالخطوة نفسها لعزل بايدن رغم فارق التوقيت والتهم؛ حيث تمثلت الاتهامات الموجهة لترامب فى المرة الأولى عام 2019 فى سوء استخدام السلطة، وعرقلة عمل الكونجرس، ومحاكمته أيضا للضغط على نظيره الأوكرانى لإلحاق ضرر سياسى بمنافسه جو بايدن، وانتهى السجال بتبرئة ترامب، والمرة الثانية كانت بسبب اتهامه فى اقتحام مبنى الكونجرس والتحريض على العصيان فى السادس من يناير 2021، وأغلق مجلس الشيوخ هذا الملف بعد محاكمته وتبرئته.
تعاقب المحاكمات:
سقطة تتعرض لهاالولايات المتحدة يتابعها العالم بكل أسى مع البدء الفعلى للانتخابات بالتعاقب السريع بين المحاكمتين وخاصة بعد اعتراف هانتر بايدن بحيازة سلاح نارى بطريقة غير قانونية، فرغم عدم اعترافه بالمخالفات الضريبية فإنه من المحتمل أن يواجه عقوبة السجن، ومن ثم التأثير فى موقف والده.
فرؤساء أمريكا الذين ينادون دولنا العربية بل دول العالم بمحاربة الفساد، وعدم عرقلة سير العدالة والنزاهة، واحترام نتائج الانتخابات والديمقراطية، ويطالبون دولنا بتطبيقها هم أنفسهم فى أمس الحاجة إلى ذلك!! فرأينا تهمًا بالجملة فى مشهد غير مسبوق، مشهد كنا نعتقد أنه فى دول العالم النامية فقط، لكن تتسابق أمريكا دائما مع دول العالم لتصبح هى القطب الأوحد فى كل شىء، واليوم هى قطب أوحد بالفعل فى حرب التهم بداية من ترامب ونهاية ببايدن.
التهم سلاح عرقلة الوصول إلى البيت الأبيض:
إلقاء الاتهامات وتبادلها أصبح السلاح الوحيد فى أيدى ساكنى البيت الأبيض وصناع القرار الأمريكى، فقد ذكر ترامب مرارا أنه تعرض ويتعرض لمؤامرات لإبعاده، ولعرقلة وصوله إلى البيت الأبيض، ولإخراجه من السباق الانتخابى، الأمر الذى لقى تعاطفا واسعا معه من قبل بعض الجمهوريين الموالين له والمتعاطفين معه، فقاموا بإبعاد الأضواء المسلطة عليه، فذهبوا ينبشون فى سجلات بايدن ليواجه مصير ترامب نفسه للضغط على الديمقراطيين ولإلهائهم عن ترامب ومحاكمته فى وقت أراد أنصار بايدن تركيز اهتمام الرأى العام على مشكلات الرئيس الأسبق دونالد ترامب، وهو مشهد يدل على أن المنافسة فى الدول المنددة والمطالبة بالشفافية والعدالة باتت غير نزيهة.
ولم يصمت البيت الأبيض بل خرج على لسان متحدثه "إيان سامز" قائلا: إن ما حدث من قبل رئيس مجلس النواب (مكارثى) يعد بمنزلة سياسة متطرفة، وإن الرئيس لم يرتكب أخطاء، وإن الجمهوريين لا يستندون على أساس لهذه التهم، وتهمة التربح من صفقات نجله التجارية كانت عندما شغل منصب نائب الرئيس السابق باراك أوباما،ولكن يتبقى لبايدن الموقف المتأزم بسبب تهم نجله هانتر بايدن باستغلال سلطة والده، ولا ينجو بايدن أيضا من تهمة علمه بتصرفات نجله وحيازة سلاح بشكل غير قانونى.
تحديات الانتخابات المقبلة:
باتت هذه الاتهامات من أهم التحديات التى تواجه بايدن لترشحه فى الانتخابات المقبلة، إلى جانب ما يواجهه من عدم رغبة شريحة كبيرة من الأمريكيين فى ترشحه بسبب كبر سنه وأعراض الشيخوخة التى بدت واضحة عليه. فعلى الرغم من أن الجمهوريين لم يقدموا أدلة تثبت استفادة بايدن من تعاملات ابنه التجارية الخارجية فإن مسألة السن وأعراض الشيخوخة باتت التحدى الأول له، إلى جانب أن هذه التهم، فى حال ثبوتها، ستكون سببا أكبر فى عدم الثقة به رئيسا، والتحديات نفسها أيضا يواجهها ترامب من كبر السن والاتهامات.
سباق محاسبة غير نزيه:
المشهد الأمريكى يشهد سباقا غير معهود بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى لمحاسبة كلا الرئيسين الديمقراطى الحالي والجمهورى السابق، فيضغط الجمهوريون المحافظون على رئيس مجلس النواب لفتح التحقيقات لعزل بايدن. فى المقابل أيضا يضغط الديمقراطيون الأكثر تحفظا فى محاسبة ترامب عما ارتكبه من تعامل مع الوثائق السرية وإلغاء نتائج انتخابات 2020. وما يحدث الآن وصفه الرأى العام الأمريكى بانتقام الحزبين الجمهورى والديمقراطى بمحاولات العزل ليظل بايدن تحت مقصلة الجمهوريين، وترامب تحت مقصلة الديمقراطيين.
وكان لا بد لرئيس مجلس النواب من أن يطرح مسألة عزل ترامب للتصويت، وهو لم يحدث رغم تعهده بطرح هذا الأمر للتصويت قبل الشروع فى إجراءات التحقيق، وعلل مكارثى هذا بتعرضه للتهديد بعزله من منصبه إن لم يتخذ هذا الإجراء؛ حيث يمكن لأى عضو من مجلس النواب التقدم بطلب لإعفاء مكارثى من منصبه حال رفضه بموجب اتفاق بينه وبين النواب المحافظين تم عند اختياره لمنصبه. فى المقابل، أيضا هناك بعض الجمهوريين الرافضين لفكرة العزل لأنها ستضر بسمعة أمريكا.
دلالات المحاكمات:
- إن اتخاذ هذه الخطوة من ناحية الجمهوريين فى هذا التوقيت له دلالاته، فمن شأنه إحداث انقسام كبير بين أعضاء الكونجرس الأمريكى خاصة بين الجمهوريين، وهو ما أكده الديمقراطيون بأن ما قام به الجمهوريون هو غطاء للتستر على المشكلات القانونية التى يواجهها ترامب كونه الأوفر حظا بالفوز فى الانتخابات المقبلة على الرغم من انطلقت اليوم في نيويورك محاكمة مدنية للرئيس الأمريكي السابق واثنين من أبنائه بتهم تتعلق بتضخيم أصولهم العقارية بشكل كبير على مدى سنوات. وهذه هي أولى محاكمة ضمن سلسلة من المحاكمات للرئيس السابق بينها اثنتان على المستوى الفدرالي. وأكد ترامب أنه سيحضر المحاكمة، لكن لا يمكن الحكم عليه بالسجن في هذه القضية، ويواجه ترامب في المجمل أكثر من 90 تهمة يتعلق بعضها بمحاولته قلب نتائج الانتخابات الماضية، وبعضها بحيازته وثائق سرية بعد انتهاء مأموريته في البيت الأبيض.. ومن جهة أخرى، تحقيق هدف أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب أنه ليس الوحيد الذى يواجه اتهامات ومحاكمات، أيضا تحرك أنصار ترامب لعزل جو بايدن انتقاما لمحاولة الديمقراطيين عزل ترامب، ولصرف الأنظار عن التهم الموجهة لترامب، ولتراجع شعبية جو بايدن لمصلحة ترامب حتى لا تميل الأصوات نحو بايدن، أيضا ستصبح نائبة الرئيس كامالا هاريس الأكثر حظا كمرشح ديمقراطى فى حال خسارة الاثنين، أو صعود ناخبين أصغر سنا، وشاهدنا جميعا المناظرة الانتخابية لتسعة مرشحين تتنوع أعمارهم.
- يرى الديمقراطيون أن كيفين مكارثى يحاول كسب وإرضاء الكتلة اليمينية من الحزب الجمهورى التى كانت رافضة انتخابه رئيسا لمجلس النواب؛ فمكارثى الذى رشح فى منصبه بعد سابقة تاريخية لم تحدث منذ ما يقرب من قرنين من الزمان؛ حيث لم يتم قبوله كرئيس للمجلس إلا بعد عدة جولات باءت بالفشل، ووصل عددها إلى أربع عشرة جولة، ولم يتم انتخابه لهذا المنصب إلا بعد تقديم تنازلات من جانبه. أيضا رغبة الكتلة الجمهورية فى تقييد الحكومة الفيدرالية بالرغبة فى إنفاق حكومى أقل ومعالجة سقف الديون وملاحقة بايدن، فإذا فشل مكارثى فى تلبية مطالب هذه الكتلة، خاصة تخفيض الإنفاق فسوف تجبر الحكومة على الإغلاق فى نهاية الشهر الجارى وانتهاء السنة المالية. لذا، يعمل مكارثى على قدم وساق فى معضلة عدم الغلق الحكومى بتوجيه الأنظار بفتح تحقيق لمساءلة بايدن.
- على الرغم من أن مجلس الشيوخ الذى فى يديه صلاحيات عزل الرئيس يسيطر عليه الديمقراطيون الرافضون لهذا الإجراء، فإن مجلس النواب تنحصر صلاحياته فى فتح التحقيق فقط، وتوجيه التهم للرئيس. وتتطلب عملية التحول من مساءلة الرئيس وهى عملية سياسية فقط وليست جنائية، موافقة الأغلبية وهى (ثلثا الأعضاء) فهل تسقطهذه الإجراءات بيد أعضاء الكونجرس أنفسهم المطالبين بالتعاون معا لتمرير تمويل الحكومة الفيدرالية حتى لا تواجه الإغلاق قبل نهاية الشهر الحالى؛ حيث يتطلب ذلك موافقة الحزبين، رغم أن مكارثى أعلن أن مجلس النواب سيحتاج إلى تمرير شريحة إنفاق ليست طويلة المدى لاستمرار عمل الحكومة، ولضمان مواصلة التحقيقات مع بايدن.
- أيضا فتح التحقيق ومساءلة الرئيس سلاح ذو حدين؛ لإضعاف الرئيس الأمريكى من ناحية، ومن ثم إبعاده عن الانتخابات المقبلة، ولكن إذا لم تفلح جهودهم فسيتعزز موقف بايدن ويجعل له قاعدة انتخابية أوسع، ومن ثم يصبح المرشح الأوفر حظا. ويتبقى الرهان فى حدود الاختصاصات، فمجلس النواب يقع ضمن اختصاصه المساءلة والتحقيق فقط، فيما تكون صلاحيات مجلس الشيوح فى عزل الرئيس حتى فى حال صوَّت مجلس النواب على العزل، لكن يتوقف الأمر على مجلس تصويت أغلبيته من الديمقراطيين.
- أيضا ما يحدث يعطى دلالة لصرف النظر عن المشكلات الداخلية لأمريكا من إضرابات العمال وخاصة العاملين فى قطاع صناعة السيارات، وأيضا للسياسة الخارجية الأمريكية، وعدم قدرتها على إيجاد الحلول، خاصة فى الوضع العالمى الحالى والتحولات التى تشهدها دول العالم.
- أيضا ما يحدث يوجه أنظار الدول وثقتها أكثر بالدول الصاعدة مثل الهند وروسيا والصين، وعدم الثقة بالقطب الأوحد المتشرذم، وهو ما ذكرناه فى مقال سابق.
ختاما: ينتظر العالم نهاية المعركة بين الحزبين، وما ستسفر عنه الملاحقات القانونية مع عودة مجلس النواب إلى عمله مطلع الشهر الفائت، وهل تناحُر الحزبين هدفه تغيير قواعد اللعبة الأمريكية، ومن ثم العالمية؟ وهل تواجه الحكومة إغلاقا فعليا؟ وهل يتفاجأ الجميع بمرشح لم يكن ضمن التوقعات والحسابات كما تم بفوز ترامب رغم إشارة استطلاع الرأى لفوز هيلارى كلينتون حينها؟ وهل يحدث شىء مغاير لم نتوقعه فى هذا التحليل؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام.