مع إلغاء روسيا اتفاق الحبوب المبرم مع أوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة الذى كان ينص على تأمين وحرية نقل الحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية، كان من الطبيعى ارتفاع أسعار القمح الذى من المؤكد استفادة روسيا منه فى حين أنه سيؤثر سلبا فى العديد من الاقتصادات ومنها الاقتصاد المصرى!
يحدث الشىء نفسه مع السعودية حين تقرر خفض إنتاجها من البترول بوصفها أكبر منتج للبترول، ما يؤدى إلى ارتفاع أسعار البترول عالميا بما يؤثر سلبا فى الاقتصاد المصرى فيما تستفيد الدول المنتجة للبترول.
فى السياق ذاته، دعنا نحاول أن نتفهم هذا الصراع الاقتصادى فى ضوء الانقلاب الذى حدث فى النيجر فى الآونة الأخيرة، وأدى إلى إزاحة الرئيس النيجيرى محمد باروم!
شجبت فرنسا هذا الانقلاب، وهددت بالتدخل العسكرى لإعادة الرئيس باروم إلى منصبه، فهل تعلم لماذا؟يرتبط الرئيس المعزول بعلاقات واتفاقات وثيقة مع فرنسا باعتبار النيجر رابع أكبر منتج لليورانيوم على مستوى العالم قبل أن تتراجع فى السنة الأخيرة للمركز السادس؛ نظرا لتوقف عدد من المناجم عن الإنتاج فيما يعمل منجم واحد فقط هو منجم سوماير، ومن المؤكد أنك قد خمنت عند قراءة هذا بأنها دولة غنية!
ولكن للأسف، لا، فالنيجر تعد ثالث أفقر دول العالم؛ حيث مثلت صادراتها فى سنة 2022 ما قيمته 455 مليون دولار سنويا!! نعم لقد قرأت الرقم الصحيح 455 مليونا وليس مليارا!
فىحين أنها تمد دول أوروبا بنسبة 25% من احتياجاتها من اليورانيوم!
وعلى الرغم من كون اليورانيوم سلعة نادرة ومطلوبة وخطيرة جدا فإنها قد تكون السلعة الوحيدة التى يتحكم فى سعرها المشترى وليس المنتج أو البائع حسب قانون العرض والطلب! لماذا؟ لأن المشترين الذين لديهم إمكانات وصلاحيات استخدام اليورانيوم هم الدول النووية الكبرى التى شكلت "كارتل" أو تحالفا غير معلن لضمان سعر منخفض لليورانيوم يصب فى مصلحتها دون الدول المنتجة.
هنا ستدرك أنه للسبب ذاته، الصراع الاقتصادى، فإن فرنسا – تأدبا - يمكن أن نقول إنها تستورد من، ولا تنهب مستعمراتها السابقة، النيجر ما هو 35% من إجمالى احتياجاتها من اليورانيوم المستخدم فى توليد نسبة 70% من إجمالى إنتاج فرنسا من الكهرباء!
ولتكتمل المأساة،فإن من يقوم باستخراج اليورانيوم فى النيجر هى شركة "أورانو" الفرنسية التى تستخدم أراضى النيجر كمكب للنفايات النووية المشعة لتترك لشعبها كارثة بيئية قد يعانيها على مدى قرون قادمة، إن وجود مثل هذه الشركات لم يجلب سوى الدمار لإفريقيا بعد أن قضت أعمالها على البيئة المحيطة، وحولت المنطقة إلى واحدة من أكبر مناطق الصحراء تلوثا، لكن الأهم هو تشغيل محطات فرنسا النووية، وليترتب عن ذلك ما يترتب بحق الشعوب الفقيرة!ثم يأتى الذهب فى المرتبة الثانية من حيث الأهمية كسلعة؛حيث تصدر النيجر نحو عشرة ملايين طن سنويا من الذهب.
هذا هو ما يطلق عليه الصراع الاقتصادى، فيما يستفيد طرف تتضرر أطراف!
ولكن كيف تصرفت مصر للتغلب على هذا المأزق الذى وضعتنا فيه ظروف لا دخل مباشر لنا بها، فى ظل وجود فجوة دولارية تفاقمت مع خروج ما يقرب من عشرين مليار دولار فجأة مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية وقرار البنك الفيدرالى الأمريكى برفع سعر الفائدة مرات متتالية.
من ناحية،قامت مصر بعمل اتفاقات مع عدد من الدول للتعامل بالعملة المحلية بعيدا عن الدولار الأمريكى، كذلك قامت بطلب الانضمام إلى مجموعة بريكس -انضمت بالفعل إلى بنك التنمية الخاص بالمجموعة- وهو الطلب الذي تم الموافقة عليه، لتفعل العضوية مع بداية عام 2024، وكذا أتمت الاتفاق مع الحكومة الروسية لاستيراد القمح مقابل الدفع بالعملة المحلية، وأخيرا اتفقت مع رومانيا على استيراد القمح مقابل تصدير أسمدة فيما يسمى التبادل التجارى.
هنا ستلاحظ أنك قد بدأت تجنى نتائج ومردود ما قامت به الدولة فى الأعوام القليلة الماضية من التوسع فى إنتاج الأسمدة لتصبح مصر حاليا خامس أكبر مصدرى الأسمدة وسادس أكبر منتج على مستوى العالم، ويتوقع تقدم هذه المراكز مع دخول المزيد من المشروعات الجديدة مراحل الإنتاج، وآخرها مصنع "كيما 2" بأسوان، بالإضافة إلى مجمع الأمونيا بالعين السخنة التابع لشركة النصر للكيماويات الوسيطة، بالإضافة إلى مشروعات التطوير بالوحدات القائمة بالفعل، ما سيؤدى إلى زيادة حصص الإنتاج وزيادة الصادرات إلى الخارج.
رويدا رويدا، وفى ظل هذا الصراع الناشئ عن أطماع دول بعينها لم تنس ما كان من أمر مستعمراتها القديمة، فلا مفر لنا سوى الاعتماد على أنفسنا، واستكمال ما بدأه الرئيس السيسى من التوسع الصناعى والزراعى وتحجيم الاستيراد لتتبوأ مصر مكانتها إقليميا ودوليا فى النظام العالمى الجديد المتعدد الأقطاب الذى بدأ يتشكل بالفعل، فالعمل هو مفتاح الأزمات التى قد نواجهها فى القادم من الأيام.