فى مقولة بديعة للرئيس السيسى، أكد "ربنا بيحب الحُسن.. والسلام حُسن.. والخير حُسن.. والتعاطف حُسن.. وأى حاجة قبح مالهاش مكان، أى قبيح مالهوش مكان بيننا، الجمال فقط هو اللى ليه مكان، وإحنا هنا فى بلدنا هنقدّم ده، هنقدّم الجمال والحُسن للعالم كله".
إنه القبح الذى استدعى نزول الجماهير المصرية بالملايين فى الشوارع والميادين فى كل محافظات مصر فى 30 يونيو 2013، وبإرهاصات أولية رائعة أبدعها أهل الفن والفكر والثقافة من داخل بيتهم بيت الثقافة (وزارة الثقافة) وأمام مكتب ذلك المُعين من قبل إخوان التخلف وزيرا للثقافة رفضا ومنعا لدخوله مكتبه. لقد أدركت تلك الجماهير الهدف الرئيسى الذى تعجل الجماعة الحاكمة لتحقيقه الذى يتمثل فى تغيير الهوية الثقافية لتسود جراثيم التخلف وميكروبات القبح وفيروسات الغباوة ومؤشرات الاندحار القيمى.
لاشك فى أن الإحساس بالجمال قيمة رائعة وعظيمة بتنا فى حاجة ماسة إليها فى حياتنا، وبناء عليه وجب على إنسان العصر الإصغاء والتماهى مع تجليات الفنون فى كل تفاصيل مرئياتنا بعد أن ازدادت للأسف مساحات القبح وآثاره السلبية، فالفنون تمثل نتاجا لعناصر إبداعية تتجدد وتتنوع بتأثير بالغ فى متلقيها، ومن شأنها تحفيز وجدان الجماهير وعقلها وفكرهابما يطلق عليه الاستجابة الجمالية. لا ريب فى أن هناك علاقه تبادلية وطردية بين الفن والمجتمع، فالفن يسهم فى صياغة روح المجتمع وهويته والعكس أيضا، فالاثنان يؤثران فى بعضهما بعضا.
من المعلوم أن حضارات الشعوب وتقدمها تقاس بمدى الاهتمام بالفنون كما حدث فى بعض البلدان الغربية التى قدمت تاريخها من خلال الفنون. وبناء عليه، أرى أهمية أن تؤدى الأجهزة الإعلامية والثقافية والشبابية والتربوية دورها فى تعريف الأجيال الطالعة بماهية العمل الفنى ودور الفنون والأنشطة الثقافية فى الدفع بآليات التقدم والتنمية، وقد حاولت التعريف بالفنون وبدورها فى النقاط التالية:
• الفن مثله مثل كل الأنشطة الإنسانية الأخرى، يسهم فى فك أسر قوى الإنسان التى قد تكون مكبلة أوجامدة بفعل التخلف الحضارى أو المرور بفترات انقطاع معرفى.
• العمل الفنى فى النهاية يمثل ذلك الوجود المستقل والمتفرد وعلى جبينه اسم مبدعه.
• رغم حالة التفرد للعمل الفنى بدرجة من الاستقلالية، فهو يضيف إلى مجتمع مبدعه بحيث يمكن إعادة الاستفادة بمجموعة المثيرات الملهمة للعمل والبناء عليها، أو حتى الرفض إلى حد الاحتقار!
• يقوم العمل الفنى بكسر حالة الاستقرار المميتة للموجودات حولنا، والتعامل بالتغيير أو التشكيل أو التفاعل من جديد لحالة التواد والألفة مع الأشياء.
• الفن لديه القدرة الرائعة على اختراق مناطق وغزوها قد تكون غير مأهولة بما نعلم، ولكن بوعى وبحسابات خاصة جدا حتى لو بدت بعض إبداعات الفنان عاصية على التفاعل الكلاسيكى معها وتحتاج إلى من يقرأ للمتلقى أبعادها الفنية.
• عبقرية الفن فى الخيارات المفتوحة المتاحة للفنان الحقيقى لاختيار ما يوافق خطته الإبداعية الجديدة ليبدأ التوليف فيما قرر الاستعانة به من عناصر بمهارة تجعل من أدواته الإبداعية خامات طيعة لإنشاء وجود جديد باهر.
• الفن إذن بمنزلة منصات رؤية عصرية متجددة لعوالم لم يرتدها المتلقى، عبر عمليات فك وتركيب لشكل وطبيعة الموجودات التى قرر المبدع التعامل مع خصائصها الجمالية بكل تنويعاتها.
• للفن أكواد أو لغات مضافة بمنزلة رؤى مشفرة تظل فى جعبة المبدع لإعادة بثها بإضافات أو حذف فى خياله المتجدد الحى، والذى قد يباغت المبدع ذاته عند خروجه من اللا وعى.
• وبناء عليه، الفن ليس من أدوات صياغته تلك الأساليب التقريرية الاستهلاكية المباشرة انتظارا لعلامات (مع/ ضد) بل بما يحرك فى وجدان المتلقى ومشاعره من انفعالات مجازية ومتعة مشاركة خوض التجارب بكل مراحل نموها وتفاعلاتها الحية.
ولاشك فى أن الاهتمام فى المرحلة المقبلة بإثراء الوعى الفنى والثقافى بات ضرورة فى مواجهة أهل التشدد وأصحاب الفكر الظلامى، بعد أن صار البعض المُغيب منهم يتنادون بتحريم الفن؛ لأنه يشغل الناس عن ذكر الله؛ ولأنه يحض على الفسق والفجور، وفى المقابل ينبغى التبشير بدور الفن فى نشر قيم التسامح.
والآن، هل لنا أن نسأل: متى ننجح كأجهزة حكومية وقوى مجتمعية فى تبنى مثل تلك المفاهيم حول قيمة الوعى الفنى والثقافى فى حياتنا، وضرورة التصدى بقوة للدعاوى المضللة التى تناصب الفنون ورموز الإبداع العداء بجهل وغباوة قلوب؟
هنا، أطرح فقط عناوين أخبار لحوادث كان أبطالها من أهل الجهل بدور الفن، أو من هم يرون فيه ما يعثر الناس ويمنعهم عن التواصل مع العبادات والقيام بطقوسها.
هى عناوين لرد فعل مواقع التواصل الاجتماعى على تصميم بعض تماثيل الميادين، أنقل بعضها نصا وبحروفها ودون تدخل ودون تعليق، فالأمر محزن أن يجرى القيام بتلك الكوارث على أرض مصر الحضارة والفنون منذ آلاف السنين!!!
• تمثال العالم الراحل الدكتور أحمد زويل بميدان على اسمه بكفر الشيخ مسقط رأسه، الذى أثار موجة من السخرية على السوشيال ميديا قائلين: "أصنام قريش كانت أحلى من كده، كفاية تماثيل واستوردوها من الصين، رجل التمثال راحت فين؟ أوسكار أفضل تمثال "مكسح..".
• يقع تمثال أم كلثوم فى شارع أبو الفدا بالزمالك، أمام فندق أم كلثوم، وصاحب هذا التمثال النحات طارق الكومى، وتتمثل أزمة التمثال فى قيام رجال حى غرب القاهرة بطلاء التمثال بـ"الدوكو" بشكل سيئ، ما تسبب فى تشويه ومحو المعالم الجمالية للتمثال، وأكد الفنان طارق أنه لم تتم الاستعانة به أو سؤاله قبل إعادة طلاء التمثال!!!
• كانت بداية تشويه تمثال الفنان عبد الوهاب بميدان باب الشعرية عام 2014، عندما قام أحد الأهالى بتعليق لافتة عليه، وتم اتخاذ القرار بوضع تمثال آخر لمحمد عبد الوهاب، ولكن بحجم صغير، وظهر التمثال البديل المشوه فى مرحلة تالية؛ حيث قامت طالبات مدرسة صناعية بطلائه، وسخر رواد "الفيسبوك" من هيئة التمثال، قائلين: "لعنة الأستاذ هتلاحقكم أحياء وأموات"، فيما قال آخر: "تمثال محمد عبدالوهاب فى باب الشعرية وهو عامل دور أوجمانتين فى فيلم" Star Wars !!!
• قصة التمثال المشوه للملكة نفرتيتى بناه مبيض محارة ليتم وضعه فى إحدى قاعات الأفراح، ولكن تم رفضه أن يوضع بالقاعة، وبقى "المبيض" أمامها لعدة أيام إلى أن أخذه المسئولون بحى الجنوب بالوحدة المحلية بسمالوط، وقالوا له: "سوف نأخذه ونلونه ونضعه فى مدخل المدينة"، وقرر محافظ المنيا الأسبق اللواء صلاح الدين زيادة، إحالة جميع المسئولين الفنيين بالوحدة المحلية لمركز ومدينة سمالوط للتحقيق، لقيامهم بإخراج تمثال الملكة "نفرتيتى" بشكل مشوه ووضعه بمدخل المدينة دون الرجوع لمتخصصين، وتم إزالته بالفعل، ووضع تمثال آخر بعد ستة أشهر من موجة سخرية على مواقع التواصل الاجتماعى، وقام الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا الدكتور جمال صدقى بنحت تمثال آخر مكان المشوه.
• سادت حالة من الغضب بمدينة سفاجا عقب افتتاح ميدان العروسة بعد الانتهاء من تطويره، وانتقد عدد كبير من أهالى المدينة شكل التمثال بميدان "العروسة"، واصفين إياه بأنه يمثل الراقصات فى مصر وليس عروس البحر، فأطلق عليه البعض اسم ميدان منسوبة لبعض الراقصات سخرية من التمثال، ولم تكن تلك الحالة الأخيرة؛ حيث عقبها تمثال آخر لعروس بحر وهى تمسك ذيلها، وبعد انتقاد عدد كبير من أهالى مدينة سفاجا للشكل النهائى لتمثال ميدان العروسة بوسط المدينة، عبر مختلف الفنانين التشكيليين عن استيائهم الشديد من شكل التمثال بالغردقة، ومن ضمنهم الفنان التشكيلى جمال مليكة؛ حيث قال: إن تمثال عروس البحر الأحمر مهزلة المهزلة، موضحا أن هذه الظواهر الغريبة موجودة بسبب عدم توافق المؤسسات والبلديات والمحافظات المختلفة على قواعد فنية للعمل بها أو تحت إشرافها.
لقد حرص الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ توليه مقاليد الحكم على الإسراع بإعادة الجمال للشارع المصرى "هتشوفوا مصر تانية"، أتذكر ما قاله عند قيامه بأولى جولاته التفقدية ومتابعته الدورية للمشروعات العملاقة التى تنجزها دولة 30 يونيو وإعلانه دهشته وغضبه عندما رأى من نافذة الطائرة عددا هائلا من البيوت والعمارات لم يتم طلاؤها وترك أصحابها مبانيهم (على الطوب الأحمر) وكانت توجيهاته بالتعجيل بعمل اللازم من تشريعات لازمة والتعامل السريع مع المخالفين بما ييسر القضاء على الظاهرة، وغير ذلك من متابعات لعلاج كل مظاهر القبح فى حياتنا.
شهدنا كبارى بمواصفات جمالية رائعة لم تعرفها مصر من قبل، وترميم وإعادة الوجه التاريخى البديع للأحياء التاريخية، وتجمعات سكنية رائعة الجمال بديلة للعشوائيات.
إن الحياة بغير الجمال رتيبة كئيبة، فلو لا يمكن تصور الأرض لا تنتج عُشبا أخضر أو شجرا، وأن السحب فى السماء كانت دائما دون تناغم لونى، وأن البشر باتوا نسخا مكررة بدون تغيير وتباين، وأن كل البيوت كان يسودها لون عتمات يوم عاصف بدون تناسق، وأننا نفكر فى الجمال حينما نقرر دور الألوان وشكل الفضاءات فى حياتنا كما نراها عند التخطيط لبناء مدن عصرية تتناغم فيها المساحات الخضراء والشوارع البديعة التخطيط وطراز البناء المعمارى الحضارى فى هارمونى مريح يبعث على السعادة والارتياح.