فى خضم تطورات دولية متسارعة وبالغة التعقيد مصحوبة بتداعيات باتت تمس جميع أرجاء العالم من حيث تشابك الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الناتجة عن اختلال توازن القوى الدولية وانقسام العالم فى ساحة سياسية متعددة الأقطاب والاستقطابات، شهدت القمة الروسية – الإفريقية الثانية زخم اوحراكا سياسيا يتميز ليس بالطابع الاقتصادى فحسب بل الطابع الإنسانى أيضا، ويتجلى ذلك واضحا فى مسمى القمة لهذا العام "المنتدى الاقتصادى والإنسانى الروسى الإفريقى مع السلام والأمن والتطور"؛ حيث إن التنمية الاقتصادية لا يمكن تحقيقها دون الأخذ فى الحسبان البعد الإنسانى من حيث تنمية رأس المال البشرى وتحقيق العدالة الاجتماعية فى الدول الإفريقية، مع توطيد الأمن والاستقرار والسلام فى ربوع القارة الإفريقية.
ويهدف تعميق التعاون بين القارة الإفريقية وروسيا الاتحادية إلى تعزيز السلم والأمن ومكافحة مهدداته، وتفعيل مسارات التنمية الاقتصادية، خاصة تطوير وتنمية قطاعات البنية التحتية والتصنيع الزراعى والتحول الصناعى من خلال الاستفادة من التكنولوجيا الروسية المتطورة، إلى جانب تعزيز الصلات الثقافية والروابط التاريخية بين الجانبين.
والجدير بالذكر، أن الدولة المصرية أدت دورا رياديا فى إطلاق النسخة الأولى من القمة الروسية الإفريقية فى أثناء رئاستها للاتحاد الإفريقى عام 2019، وذلك بهدف دعم وتعميق العلاقات المتميزة والتاريخية بين القارة الإفريقية وروسيا، بالإضافة إلى تعزيز آليات التشاور وبحث الحلول السياسية بين الجانبين من أجل التصدى للتحديات المشتركة. ويأتى ذلك انطلاقا من دور مصر المحورى كركيزة أساسية لدعم الأمن والاستقرار فى إفريقيا والشرق الأوسط، فضلا عن نهج الدبلوماسية المصرية المتعددة الأطراف والحفاظ على علاقات متوازنة وحيادية، وبذل المساعى الحميدة فى القضايا الإقليمية والدولية من أجل الحفاظ على الاستقرار والأمن فى ظل نظام عالمى جديد يتسم بالتعددية القطبية تتصارع فيه القوى الكبرى.
فالتعاون الثنائى بين الدولة المصرية وروسيا الاتحادية يعد الحجر الأساسى لمد أواصر التعاون، وإعادة إحياء جذور التعاون التاريخية بين الدول الإفريقية وروسيا؛ حيث شهدت العلاقات المصرية الروسية تطورا تاريخيا على مدى السنوات الماضية الذى تكلل بالتوقيع على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملةعام ٢٠١٨، بالإضافة إلى تعميق التعاون فى العديد من المجالات الاستراتيجية والمشروعات المشتركة؛ خاصة مشروع إنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ومشروع إنشاء محطة الضبعة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية، إلى جانب التعاون فى مجال تطوير منظومة النقل وسكك الحديد، والتعاون المشترك فى مجال الأمن ومكافحة الإرهاب.
وجسدت القمة الروسية – الإفريقية المصالح والمنافع المشتركة بين روسيا والقارة الإفريقية، من حيث إرساء التعاون المستدام وتعظيم الاستفادة من المزايا الاقتصادية المتبادلة وتبادل الخبرات بين روسيا والدول الإفريقية فى مجالات التكنولوجيا المتقدمة وتطوير التعليم والتنمية الصناعية والزراعية والبيئية، فضلا عن تطوير المنظومة الصحية فى القارة الإفريقية بهدف القضاء على الأوبئة والأمراض المستشرية التى تعوق عملية التنمية المستدامة. ويعد التعاون بين الدول الإفريقية وروسيا بالغ الأهمية؛ حيث تتطلع الشعوب الإفريقية لمواجهة التحديات الاقتصادية الضخمة وعلى رأسها تراكم الديون، الأمر الذى يحتم من سرعة مواجهة هذه التحديات واستكمال المسار التنموى القارى.
وعلى الصعيد الآخر، تسعى روسيا لاستعادة دورها المحورى فى مجالات التنمية الاقتصادية وتعزيز التبادل التجارى وتوطيد الدور الإنسانى لروسيا على الساحة الدولية، وقد تمت الإشارة إلى مساعى روسيا لتوفير القمح بالمجان فى الظروف الطارئة وإلى الدول الأكثر احتياجا، متحملة فى ذلك مصاريف الشحن والنقل. كما أن القارة الإفريقية تعد فرصة ذهبية إلى الاستثمارات الروسية ما يساعد على تسريع وتيرة التكامل الاقتصادى الإفريقى، ويزيد من حراك التبادل التجارى، وتنمية البنية التحتية فى الدول الإفريقية؛ حيث تزخر الدول الإفريقية بالموارد الطبيعية والبشرية التى تجعلها فرصة استثمارية خصبة فى شتى المجالات.
ويعد الموقف الروسى فى القمة مكسبا سياسيا واقتصاديا فى ظل الأزمة الروسية-الأوكرانية من حيث توجيه رسالة إلى الرأى العام العالمى تؤكد قوة روسيا الاتحادية كأحد أقطاب النظام العالمى الجديد، وأنه علىالرغم من العقوبات الاقتصادية التى فرضها الغرب على روسيا، فإنها لا تزال قادرة على مد أواصر التعاون الاقتصادى والسياسى والعسكرى، مع تأكيد إتباع الحل السياسى فى الأزمة الروسية – الأوكرانية؛ حيث توافقت الرؤى على سرعة تسوية الأزمة سياسيا بشكل سلمى من أجل إنهاء المعاناة الإنسانية القائمة، والحد من التداعيات الاقتصادية والمالية على دول العالم خاصة الدول النامية والإفريقية، والحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين.
وتحرص الدولة المصرية على توطيد سبل التعاون المستدام بين القارة الإفريقية وروسيا الاتحادية، وذلك من خلال خمس ركائز أساسية:
الركيزة الأولى: تعزيز السلم والأمن فى القارة الإفريقية من خلال دعم القدرات الإفريقية وتفعيل دور مصر فى ملف إعادة الإعمار والتنمية بعد النزاعات على مستوى الاتحاد الإفريقى، والحفاظ على دورية انعقاد منتدى أسوان للسلم والأمن والتنمية المستدامة كمنصة نقاش مهمة ورئيسية.
الركيزة الثانية: تفعيل الرابطة بين السلم والأمن والتنمية، وحشد الموارد المالية للاستثمار فى البنية التحتية ومشروعات الربط القارى، وذلك من خلال رئاسة مصر للجنة التوجيهية لرؤساء دول وحكومات وكالة الاتحاد الإفريقى للتنمية "النيباد" لعامى 2023 و2024.
الركيزة الثالثة: تحقيق الأمن الغذائى فى القارة الإفريقية كأولوية مهمة، وذلك من خلال تعزيز قدرات القارة،وإيجاد حلول لتوفير الغذاء والأسمدة والتكنولوجيا الزراعية وآلية التمويل اللازم لها.
الركيزة الرابعة: الحفاظ على التنوع البيولوجى والتنمية البيئية والصحية فى القارة الإفريقية، وذلك من خلال مواجهة تحديات تغير المناخ وبحث سبل توفير التمويل اللازم.
الركيزة الخامسة: معالجة جذور ومسببات الأزمات وصياغة حلول سياسية سلمية ومستدامة للصراعات والنزاعات القائمة وفقا لأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولى مع الحفاظ على سيادة الدول ووحدة أراضيها.
واتصالا بما تقدم، تتوافق رؤى الدولة المصرية فى استخدام الوسائل السياسية السلمية فى تسوية الصراعات والنزاعات، وتعزيز التعددية ودعم الدول النامية والدول الإفريقية فى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة والقضاء على الفقرالمتعدد الأبعاد. وبناء على ذلك، فإن الروابط بين مصر وروسيا والقارة الإفريقية تشكل قوى فعالة على الساحة الدولية من حيث توطيد الروابط اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا بما يتماشى مع تعزيز أهداف أجندة الأمم المتحدة لعام 2030 فى الدول الناشئة والنامية، وعلى رأس هذه الأهداف تخفيف آثار تغير المناخ، وتيسير المفاوضات التجارية الدولية، والحفاظ على أمن الغذاء والطاقة والمياه، والقضاء على الفقرالمتعدد الأبعاد، وتنمية رأس المال البشرى،فضلا عن تحفيز التعاون الدولى فى تنفيذ الأجندة التنموية الدولية 2030 ودعم تمويل التنمية فى إفريقيا.
أخيرا وليس آخرا، تحتم التطورات الدولية المتلاحقة الحفاظ على توازن القوى الدولية ما يعزز أواصر التعاون على كل الأصعدة تحقيقا للسلام الشامل والتنمية المستدامة، ويدفع إلى تعميق التعاون بين الدول الإفريقية وروسيا؛ وذلك من أجل أن تبقى شعوب دول العالم خاصة الدول النامية والدول الإفريقية بمنأى عن مساعى الاستقطاب فى الصراعات والنزاعات القائمة على الساحة الدولية. هذا إلى جانب الأخذ فى الحسبان احتياجات الدول النامية وعلى رأسها دول القارة الإفريقية فيما يتعلق بالتداعيات السلبية على اقتصاداتها من جراء هذه الصراعات والنزاعات، وذلك من خلال توفير الغذاء والأسمدة وبحث آليات تمويل تدعم النظم الزراعية والغذائية فى القارة الإفريقية، مع الوصول إلى حل توافقى بشأن اتفاقية تصدير الحبوب يأخذ فى الحسبان مطالب كل الأطراف ومصالحهم، ويضع حداللارتفاع المستمر فى أسعار الحبوب.