علقنا في مقالنا في هذه المساحة، الأسبوع الماضي، بشكل مقتضب، على بعض المواقف والتصريحات الصادرة عن مسؤولين أميركيين حول ما يصفونه بالربيع العربي. فقد أكدت وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون في خطابها قبل أسبوعين في المعهد الديمقراطي الوطني بواشنطن أن "أكبر تهديد للاستقرار في الشرق الأوسط ليس التغيير، ولكن مقاومة ورفض هذا التغيير"! وقدمت أمثلة لمقاومة التغيير شملت سوريا واليمن ومصر. وحذرت في حالة مصر من أنه إذا لم تقدم أقوى قوة سياسية غير منتخبة (العسكر) السلطة، ويظهر قادتها أنهم لا يريدون البقاء في السلطة، فإن ذلك قد يزيد التجاذب والاحتقان هناك، ولذا فإن عليهم تقديم خريطة طريق والالتزام بتطبيقها. وطمأنت كلينتون في كلمتها العرب والأميركيين على أن بلادها لديها المصادر والقدرات والخبرة المناسبة لدعم دعاة التغيير الديمقراطي، وستستثمر في الديمقراطيات العربية الناشئة ضمن موجة الربيع العربي.
أما المنسق الخاص للمرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية "ويليام تايلر" فقد أكد مؤخراً أن: "الولايات المتحدة ترى في الربيع العربي أكبر فرصة في علاقات أميركا الخارجية خلال قرن، وبالتأكيد خلال العقد القادم. إن ما يحدث مهم للغاية، ونحن نرغب في عمل كل ما بوسعناللمساعدة". وختم "أن الدول الديمقراطية هي حلفاء أفضل لنا". ولكن هل هذه المواقف والتصريحات الرسمية تعكس حقاً الموقف الأميركي الحقيقي مما يجري في المنطقة؟ وهل ذلك يخدم مصلحة واشنطن؟ وعدنا بأن نفرد مقالاً خاصّاً للموقف الأميركي من حركات التغيير العربي، وخاصة بشأن عدم ممانعة واشنطن من التعاون مع الإسلاميين إذا ما وصلوا للسلطة عن طريق الانتخابات وصناديق الاقتراع في المنطقة. وها نحن نفي بما وعدنا.
شاركت قبل ثلاثة أسابيع في مؤتمر عن التغييرات العربية في واشنطن، والتقيتُ مع بعض المسؤولين الحاليين والسابقين والباحثين في مراكز الدراسات والجامعات، وكونت رؤية تؤكد ما كنت مقتنعاً به، من أن أميركا التي قايضت على حد قول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس "الديمقراطية والحريات، بالأمن والاستقرار على مدى ستين عاماً في العالم العربي. وبعد ستين عاماً لم تحقق أيّاً من ذلك. لا الأمن والاستقرار ولا الحريات والديمقراطية"! واليوم تخشى واشنطن من تكريس هذه الوضعية بسبب تذبذب موقفها من الربيع العربي. فهي لا تزال مترددة ومتشككة ومتخوفة من نتاج هذا الحراك الثوري الذي تسميه الدوائر الرسمية في واشنطن والباحثون ومراكز الدراسات "الربيع العربي"، في ما يسميه باحثون آخرون الصحوة أو التمردAwakening or Revolt.
وفي هذه الأثناء تبدو أميركا اليوم متراجعة وتفتقد للهيبة والتأثير اللذين تمتعت بهما لعقود في المنطقة. فهي على شفير الإفلاس بسبب الأزمة المالية التي تعصف بأكبر اقتصاد في العالم. وتبدو منقسمة على نفسها ومنهكة، كما لاحظتُ، وهي تتهيأ لمعركة انتخابات رئاسية يصارع أوباما فيها جاهداً ليعاد انتخابه. وأميركا تتهيأ أيضاً لاستكمال الانسحاب العسكري من العراق، وترتيبات انسحابها من أفغانستان تجري أيضاً بشكل منظم. كما أنها تخطط لنظام أمني واستراتيجي في الخليج العربي يأمل من يعنيهم الأمر أن يساهم في منع انزلاق المنطقة نحو عدم الاستقرار.
وقد أتى ما تسميه واشنطن الربيع العربي وسقوط أنظمة حليفة لها وخاصة في مصر وإلى حد ما تونس واليمن، وأخرى مناوئة لها ولكن متعايشة بل ومتعاونة أحياناً ولا تشكل تهديداً لمصالحها ولا لمصالح إسرائيل مثل نظام القذافي في ليبيا والأسد الابن في سوريا، أتى كل ذلك ليثخن الجراح، ويُظهر أعراض التراجع والارتجال الأميركي.
وللتذكير فإن أميركا مع بداية المظاهرات ضد مبارك تحدثت رأساً عن "استقرار نظامه" ودعمته حتى أيامه الأخيرة، قبل أن تتخلى عنه وتطالب بتنحيه، في النهاية. وقبلها كان الدعم لنظام بن علي في تونس. ونرى التردد الأميركي الواضح أيضاً في اليمن وسوريا، حيث لم يتبلور موقف لواشنطن أكثر من الحديث عن فقدان الشرعية والمطالبة بالتنحي، هذا مع العجز عن صياغة أو قيادة موقف أممي بالضغط على روسيا والصين في الحالة السورية، أو استغلال فوز الناشطة اليمنية توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام واستخدام أدوات الضغط التي تملكها لدفع علي عبدالله صالح للتنحي في الحالة اليمنية. وكأن واشنطن متيقنة من أن اليمن في عهد ما بعد صالح ربما سيكون أكثر سوءاً وتهديداً للأمن والاستقرار، ومرتعاً لـ"القاعدة" ولحرب أهلية وتشظٍّ وفوضى عارمين، ما يهدد مصالح أميركا وأمن واستقرار المنطقة.
يذكر أن الباحث الأميركي آرون ديفيد ميلر الذي شارك كمبعوث ومفاوض في مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل في إدارات أميركية عديدة، علق في مقال رأي مؤخراً حمل عنواناً ملفتاً: "الربيع العربي... الشتاء الأميركي" موضحاً أن "قوس الربيع العربي قد يتمخض عن إصلاحات حقيقية في العالم العربي، ولكن على المدى القصير النتيجة المؤكدة هي تراجع أميركا وتآكل مصداقيتها في المنطقة"... مؤكداً أنه "يُخشى أن تجد واشنطن نفسها اليوم في موقف بدون استقرار وديمقراطية. لقد تآكل رصيد أميركا في المنطقة. فقدت شركاءها والأشرار غادروا المسرح. وغير واضح من سيخلف أولئك الشركاء. الحال أن واشنطن تواجه ربيعاً عربيّاً معقداً قد يمتد تأثيره لسنوات في المنطقة دون أن تحسم نتائجه وتداعياته. وتبقى المعضلة بالنسبة لأميركا اليوم هي أنها عالقة في منطقة لا يمكنها إصلاحها أو الرحيل عنها، وأعداد حلفائها وأصدقائها تتناقص بشكل واضح".
ويبدو أن الربيع العربي يزيد أيضاً معضلة بعض الحلفاء بقدر ما يقلص من حضور وهيبة الولايات المتحدة الأميركية بغض النظر عن التصريحات والمواقف الرسمية التي تصدر بين الحين والآخر من مسؤولين أميركيين بارزين، لأن مصالح أميركا قد تكون في بقاء حالة الجمود، وليس في مغامرات التغيير سواء الثورية ضمن مخاضات ربيع العرب وتداعياتها المعقدة والطويلة، بما فيها تغير بعض الحلفاء ووصول الإسلاميين المعتدلين الذين تأمل واشنطن أن يشكلوا الحلفاء الجدد في لعبة التغيير التي تجتاح المنطقة العربية، ويتوقع أن تغير في النهاية كثيراً من المعطيات والثوابت إذا ما وصلت إلى الخواتيم التي تسعى لتحقيقها.
--------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين 21 نوفمبر 2011.