لم يكن 2011 عاما سهلا بالنسبة لكثير من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالمنطقة تشهد حالة فريدة من عدم اليقين والضغوط الاقتصادية الناشئة عن مصادر داخلية وخارجية، مما تسبب في هبوط النشاط بشكل ملحوظ. وبينما شهد النمو الاقتصادي في البلدان المصدرة للنفط تحسنا بسيطا في عام 2011، تمر البلدان المستوردة للنفط بحالة من التباطؤ الحاد.
ومن المبشر أن هناك خطوات تم اتخاذها لتوسيع نطاق الاستفادة من النمو وزيادة المشاركة فيه، تلبية للمطالب الشعبية في هذا الخصوص. ومع ذلك، فقد أسفر الصراع المطول في بعض البلدان عن خسائر بشرية فادحة، كما أسهم عدم اليقين الذي يسود المنطقة في تكبيد الاقتصاد تكاليف باهظة على المدى القصير. ويتمثل التحدي الأساسي الراهن في تلبية الاحتياجات الاجتماعية على المدى القصير، مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي على المدى المتوسط ووضع خطط في كل بلد على حدة من أجل تسخير الإمكانات الواعدة في المنطقة.
على صعيد البلدان المصدرة للنفط، فإنها تجني ثمار أسعار النفط المرتفعة في غمار المخاطر المتزايدة ويتواصل النمو، عدا ليبيا. ومن المتوقع تسجيل معدلات قوية تقدر بنحو 5 في المائة في المتوسط في عام 2011، مدفوعة بتصاعد أسعار النفط وزيادة إنتاجه. وجدير بالذكر أن دول مجلس التعاون الخليجي كانت سباقة في هذا المجال، إذ يُتوقع أن يبلغ معدل نموها نحو 7 في المائة في عام 2011، على أثر زيادة إنتاجها النفطي لمواجهة نقص الإنتاج الليبي. وكانت لزيادة الإنتاج النفطي مساهمة مهمة في استقرار سوق الطاقة العالمية، في وقت يواجه فيه الاقتصاد العالمي تحديات كثيرة، وأدت فيه زيادة الإيرادات النفطية إلى إفساح حيز إضافي للإنفاق الحكومي. وقد أعلنت عدة دول في مجلس التعاون الخليجي برامج للإنفاق في مطلع العام الحالي تشمل طائفة واسعة من التدابير، منها الدعم والأجور والإنفاق الرأسمالي لتحييد الأثر المترتب على ارتفاع أسعار الغذاء وسد الفجوات في عدد من الخدمات الحيوية مثل الإسكان والصحة.
وسمحت زيادة الإنفاق لدول مجلس التعاون الخليجي أيضا بعمل المزيد لتطوير نشاطها الاقتصادي خارج قطاع النفط، بالإضافة إلى المساهمة في النشاط الاقتصادي العالمي وتوفير مزيد من الاستثمارات وتحويلات العاملين وتدفقات التجارة لدول الجوار.
وقياسا على أسعار النفط ومستويات إنتاجه المتوقعة حاليا، سوف تكفي الإيرادات الإضافية لتعويض مستويات الإنفاق العام المرتفعة وتفيض عنها. فمن المتوقع في عام 2011 أن يزداد رصيد الحسابات الجارية الخارجية المجمعة للبلدان المصدرة للنفط (باستثناء ليبيا) من 202 مليار دولار إلى 334 مليار دولار، مع زيادته من 163 مليار دولار إلى 279 مليار دولار في حالة مجلس التعاون الخليجي.
غير أن بعض المخاطر تخيم على آفاق الاقتصاد في الوقت الراهن، وأبرزها احتمال حدوث هبوط حاد في النشاط الاقتصادي العالمي بسبب المصاعب التي تمر بها أوروبا والاقتصادات المتقدمة الأخرى في سعيها لمعالجة تحديات المديونية والمالية العامة، وما يمكن أن يتمخض عن ذلك من تداعيات في المنطقة. وإذا تحققت هذه المخاطر وحدث تدهور حاد في النمو العالمي، فسوف تتأثر البلدان المصدرة للنفط، من خلال تراجع أسعار النفط على الأرجح.
وتشهد البلدان المصدرة للنفط أيضا زيادة كبيرة في عجز القطاع غير النفطي، مما يجعلها أكثر تعرضا لهبوط مطوّل في أسعار النفط. ويلاحظ على وجه التحديد أن أسعار النفط المحققة لتعادل المالية العامة - أي مستويات الأسعار التي تضمن توازن حسابات المالية العامة عند مستوى معين من الإنفاق - تسير في اتجاه تصاعدي مستمر في معظم البلدان. وبالتالي، سيتعين النظر في تطبيق درجة من التقشف المالي في بعض البلدان - أي اتخاذ إجراءات لكبح الإنفاق وتخفيض العجز الحكومي - حتى تصل أرصدة المالية العامة إلى مستوى أكثر قابلية للاستمرار.
ولا تزال البلدان المصدرة للنفط في المنطقة تواجه بعض القضايا الهيكلية أيضا، بما في ذلك ضرورة توفير الوظائف للأعداد المتزايدة من السكان في سن العمل، وإحراز مزيد من التقدم في تنويع نشاطها الاقتصادي، وتطوير أسواقها المالية لدعم النمو الاقتصادي.
ولن يكفي النمو وحده لحل مشكلة البطالة المتنامية، خاصة في مجلس التعاون الخليجي حيث لا تُعزى البطالة المرتفعة بين المواطنين إلى عدم كفاية الوظائف المتاحة، بل إلى عدم التوافق بين المهارات المتوافرة واحتياجات سوق العمل، كما تُعزى إلى الأجور المرتفعة التي يتوقع المواطنون الحصول عليها، وجاذبية التوظيف في القطاع العام. ومما يمكن أن يساعد في إعطاء دفعة لتوظيف المواطنين اتخاذ إجراءات لتوجيه التعليم نحو مراعاة احتياجات السوق وتسليح الباحثين المرتقبين عن فرص عمل بالمهارات التي تتطلبها السوق، مع توفير خدمات التدريب والتوظيف وغيرها من المبادرات الجارية بالفعل في معظم دول مجلس التعاون الخليجي.
وعلى صعيد البلدان المستوردة للنفط، فإن أمامها عاما صعبا زادت فيه أجواء عدم اليقين مع تدهور البيئة العالمية واستغراق التحول السياسي مدة أطول مما كان متوقعا في عدة بلدان مستوردة للنفط في المنطقة، مما أسفر عن هبوط اقتصادي حاد في عام 2011 وزيادة ضغوط البطالة المرتفعة بالفعل إلى جانب الضغوط على الاستقرار الاقتصادي. ونتيجة لذلك، تشير التنبؤات إلى أن معدل النمو في هذه المجموعة من البلدان سيقتصر على 1.4 في المائة في عام 2011، ثم ينتعش مسجلا 2.6 في المائة في عام 2012. وهناك بلدان كثيرة سوف تبدأ عام 2012 أيضا وهي تمتلك مساحة أضيق للتصرف والحركة بعد أن سحبت جانبا من احتياطياتها الوقائية في عام 2011.
وقد حدث هبوط حاد في الاحتياطيات الخارجية لدى البلدان المستوردة للنفط بعد أن أدى ازدياد عدم اليقين إلى تراجع ملحوظ في التدفقات الرأسمالية الداخلة إليها. وظلت تحويلات العاملين قوية إلى حد كبير، عدا في تونس التي استقبلت أعدادا كبيرة من مواطنيها العائدين من ليبيا بعد احتدام الصراعات هناك. لكن السياحة تراجعت - وهي مصدر مهم للعملة الأجنبية - ووصل انخفاض عدد السياح القادمين إلى أكثر من مستوى الرقمين أثناء النصف الأول من العام في مصر والأردن ولبنان وسوريا وتونس.
وبالإضافة إلى ذلك، يؤدي ارتفاع أسعار السلع الأولية إلى زيادة فاتورة الاستيراد، خاصة في اقتصادات المنطقة الأكثر اعتمادا على استيراد النفط - وهي جيبوتي ولبنان والأردن وموريتانيا والمغرب. كذلك تسبب عدم اليقين السائد في تقليص فرص النفاذ إلى أسواق رأس المال الدولية، وتراجعت التدفقات الداخلة للاستثمار المباشر وغير المباشر، خاصة في مصر.
وبالمثل، زادت الضغوط على الموازنات الحكومية. ولجأت الحكومات إلى التوسع الملحوظ في الدعم والتحويلات لتخفيف أثر الهبوط الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع الأولية. ويعتبر بعض الإنفاق الإضافي ضرورة لحماية الفئات الأشد تأثرا، لكنه تسبب في فرض ضغوط على الموارد المالية الحكومية أيضا. ولا يزال عجز المالية العامة يزداد اتساعا في البلدان المستوردة للنفط، مسجلا أكثر من 8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط في الفترة 2011 - 2012. وفي الوقت نفسه، يزداد اعتماد الحكومات على التمويل من البنوك المحلية، مما يتسبب في تقليص الائتمان المتاح للقطاع الخاص.
وسيكون التحدي الأكبر في العام القادم هو ضمان التجانس الاجتماعي مع الحفاظ على استقرار الاقتصادي الكلي. ولتحقيق هذه الغاية، يأتي ضمان التمويل الكافي على رأس الأولويات. ومن المرجح أن تتجاوز احتياجات التمويل الخارجي في البلدان المستوردة للنفط 50 مليار دولار في عام 2012، وألا تقدم أسواق رأس المال إلا نسبة ضئيلة من هذا التمويل - وبتكلفة أعلى.
وهكذا، سوف تحتاج الكثير من هذه البلدان إلى دعم مالي رسمي. وكما أُعلن في مطلع هذا العام، يستطيع الصندوق تقديم 35 مليار دولار تقريبا لبلدان المنطقة المستوردة للنفط، إذا طلبت التمويل، بالإضافة إلى 38 مليار دولار تعهدت بتقديمها المؤسسات المالية الدولية والإقليمية. ومن المهم بالقدر نفسه أيضا أن يقدم المجتمع الدولي دعما في شكل مساعدة فنية، ومشورة بشأن السياسات، وفرصة أكبر لدخول صادرات المنطقة إلى الأسواق.
وعلى الرغم من الفترة العصيبة القادمة، فإن الربيع العربي يبشر بمستويات معيشية أعلى ومستقبل أكثر رخاء لشعوب المنطقة. وتتصدر الأولويات العاجلة في البلدان المتأثرة بالصراعات ضرورة اجتناب المزيد من الأزمات الإنسانية في الوقت الراهن ثم تنفيذ جدول أعمال لإعادة الإعمار والإصلاح بعد انتهائها. وبالنسبة لبلدان أخرى، يتمثل التحدي الأكبر على المدى القصير في بناء الثقة وتثبيت التوقعات مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. ولتحقيق هذه الغاية، سيساعد توجيه الدعم والتحويلات إلى المستحقين على توفير موارد للاستثمار في البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية للأشد احتياجا.
وفي ما يتجاوز المدى القصير، يتعين اعتماد جدول أعمال طموح للإصلاح الاقتصادي لتلبية مطالب الاستفادة من الفرص الاقتصادية والحصول على فرص العمل الكافية للمواطنين. وللتغلب على مشكلة البطالة المستمرة منذ وقت طويل، يتعين تسريع وتيرة النمو الاقتصادي وزيادة التنافسية، مما سيتطلب استثمارا إضافيا ومستوى أفضل من الإنتاجية. ولتحقيق هذا الهدف، سيكون على القطاع الخاص أن يأخذ زمام القيادة، بما في ذلك العمل على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وينبغي أن تعمل السياسات الحكومية، بدورها، على تشجيع وجود مناخ مشجع للأعمال يسمح بازدهار القطاع الخاص. كذلك ستكون إقامة مؤسسات حديثة وشفافة تشجع المساءلة والحوكمة الرشيدة بمثابة عامل مساعد في معالجة الشواغل المهمة لدى السكان.
وسوف يحدد كل بلد استراتيجياته الإصلاحية الخاصة، ولكن ترسيخ المكاسب التي يحققها التحول الجاري في المنطقة على المدى الطويل يتطلب أن تكون كل الإصلاحات شاملة وجريئة، وأن تستهدف تشجيع النمو الذي يعود بالنفع على كل المواطنين ويقترن بتوفير فرص العمل اللازمة لهم.
---------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية الثلاثاء 22/11/2011.