قد يكون من الصعب التنبؤ بمصير الأزمة الماثلة فى السودان الشقيق، فيما لا تزال أصوات المدافع والرصاص حاضرة فى شوارع الخرطوم، بين أفراد الجيش السودانى وعناصر قوات الدعم السريع، التى صنفتها المؤسسة العسكرية السودانية كميليشيا متمردة فى الآونة الأخيرة، فالوضع على الأرض يزداد سوءا وتعقيدا، فى وقت لم تفلح فيه أى تدخلات دولية أو إقليمية أو أممية فى وقف نزيف القتال الداخلى أو السيطرة على حالة الاحتراب، باستثناء فترات الهدنة القصيرة التى تم التوافق عليها لإجلاء الرعايا الأجنبية وفتح ممرات إنسانية.
المشهد يبدو قاتما معقدا، تسير فيه الأزمة السودانية لمصير مجهول، فى وقت تتبارى فيه غالبية الدول لإجلاء رعاياها وبعثاتها الدبلوماسية من الخرطوم وفى مقدمتها مصر، مع نزوح مئات المواطنين من ساحات القتال، وليس هناك أبلغ تقدير لخطورة الوضع على الأرض من مشهد إجلاء الرعايا الأجنبية، ذلك أنه انعكاس لوضع مأساوى يزداد سوءا، وفى طريقه لمزيد من الاشتعال، وضع تزداد معه عديد من علامات الاستفهام: هل نحن أمام حرب أهلية جديدة فى بلد لديه إرث طويل من النزاعات المسلحة؟ أم أمام ساحة لحرب دولية جديدة بين أطراف مدعومة من قوى خارجية على غرار الحرب الأوكرانية؟ أم هى مجرد مواجهة عسكرية ستحسم قريبا فى ظل الوساطات الخارجية يعقبها عملية سياسية تستوعب كل الأطراف والقوى السودانية؟
قد يكون من الصعب تقديم إجابات عن مثل هذه التساؤلات حاليا، خصوصا مع تعقيدات المشهد اليومية، التى كان آخرها هروب قيادات من نظام البشير من "سجن كوبر" بالخرطوم، ومعها جاءت تفسيرات ما يحدث أنها بأيادى النظام البائد بالسودان للعودة مرة أخرى، وفى الوقت نفسه لا يمكن إنكار حجم مخاطر الأزمة السودانية وتأثيراتها الإقليمية، وعلى استقرار منطقة القرن الإفريقى، وخصوصا 6 دول هى جوار السودان، والمصالح الحيوية لمصر، فلاشك فى أن هذه الدول ليست ببعيدة عن صدى وتأثير دوى الاشتباكات المسلحة، وحتى نفهم طبيعة الصراع الدائر حاليا وتحليل سيناريوهاته، من المهم التوقف مع أبعاد عدة تتعلق بدوائر الصراع فى السودان وتاريخه وأدوار النخبة السودانية فيها.
إرث الصراعات فى السودان:
لا يمكن أن ننظر إلى الأزمة فى السودان من مشهد الاشتباكات الدائرة حاليا بين الجيش السودانى وعناصر الدعم السريع، فهذه ليست إلا مشهدا أخيرا من سلسلة من مشاهد صراع سياسى محتدم على مدى أربع سنوات، منذ الإطاحة بنظام عمر البشير فى أبريل 2019، ومع حالة الانسداد السياسى كان السبيل لاستخدام القوة العسكرية لفرض أطراف بعينها نفوذها بقوة السلاح، وفى الوقت نفسه هى امتداد لمشاهد الصراع التى لم تغب عن الحالة السودانية منذ الاستقلال.
على مستوى التركيبة الديموجرافية، دائما ما يوصف السودان حتى قبل انفصال الجنوب بأنه صورة مصغرة لإفريقيا، بحكم التنوع السكانى والتعدد الإثنى والدينى والثقافى واللغوى، حيث يوجد نحو 56 جماعة إثنية، ونحو 115 لغة ولهجة تخاطب، فضلا عن التنوع المناخى والنباتى والاقتصادى، هذا التنوع كان واحدا من التحديات والإشكاليات الرئيسية أمام قضية الاندماج الوطنى التى واجهت الأنظمة التى حكمت السودان منذ استقلاله فى عام 1956، بل كانت سببا أساسيا لعديد من الصراعات والحروب الأهلية التى شهدها السودان فى تاريخه المعاصر، خصوصا فى الجنوب قبل الانفصال وفى دارفور وفى الشرق.
ومع إخفاق الأنظمة الحاكمة فى السودان، فى استيعاب حالة التنوع والتعدد الداخلى، كانت الدولة الوطنية فى السودان تتسم بالهشاشة والضعف على مر عقود طويلة، ساعد على ذلك حالة من عدم الاستقرار السياسى المستمرة منذ الاستقلال، ولعل الشاهد على ذلك كم الانقلابات التى شهدتها الدولة السودانية على السلطة الحاكمة، منها ما حقق مراده ومنها ما لم ينجح، وهنا أتوقف مع بعض هذه الحالات التى يمكن أن تساعدنا على استقراء المشهد الحالى، بداية من انقلاب الفريق إبراهيم عبود ومجموعة من الضباط عام 1958 على حكومة ائتلافية كانت تجمع حزبى الأمة والاتحادى الديمقراطى، وانتهت فترة حكم الفريق عبود بعد 6 سنوات بعد ثورة شعبية، لكن دخلت معها الأطراف السياسية فى حلقة من الصراعات على السلطة استمرت نحو أربع سنوات.
وفى عام 1969 قامت مجموعة من الضباط بقيادة جفعر نميرى بانقلاب عسكرى على السلطة بعد فترة من الأزمات السياسية، واستطاع أن يحافظ النميرى على نظام حكمه نحو 15 عاما، رغم تعدد محاولات الانقلاب عليه، إلى أن انتهت فترة حكم النميرى بعد عصيان مدنى شامل واحتجاجات على الغلاء عام 1985، وبعد إجراء انتخابات وتشكيل حكومة مدنية منتخبة برئاسة الصادق المهدى، لم يشهد السودان حالة استقرار أيضا فى ظل صعود ملحوظ للتيار الإسلامى وتطور الحرب الأهلية فى الجنوب مع الجيش الشعبي، لينتهى الصراع بانقلاب جديد عام 1989، قاده وقتها العميد عمر حسن البشير بدعم من التيار الإسلامى وتحديدا "الإخوان"، لتبدأ معها فترة حكم البشير التى استمرت 30 عاما، لم تغب فيها مشاهد الصراع من السودان، بل أفضت إلى انفصال الجنوب عن الدولة السودانية كنهاية لحالة الصراع هناك.
لم يعِ نظام البشير درس انفصال الجنوب، بتغيير نهجه السياسى وتقديم مشروع وطنى جامع يحقق الاندماج الوطنى للدولة السودانية، بل شهدت مناطق أخرى فى السودان صراعات مماثلة كما فى دارفور، فضلا عن أسلوبه الإقصائى للقوى السياسية الداخلية، حتى انتهى الأمر بثورة شعبية أطاحت بنظامه فى أبريل 2019، بعد انحياز المؤسسة العسكرية إلى جانب مطالب القوى المدنية وقتها الممثلة فى "تحالف الحرية والتغيير"، ومنذ ذلك التاريخ ولا تزال النخبة السودانية بمكوناتها "المدنية والعسكرية" تتصارع على من ستكون له الغلبة والنفوذ فى السلطة.
الشاهد من هذه الخلفية التاريخية، مجموعة من الاعتبارات المهمة التى يجب وضعها فى الحسبان عند قراءة المشهد الحالى، أولها أن حالة التصارع لم تغب عن الساحة السودانية منذ الاستقلال، ولم تحظ باستقرار سياسى رغم تعدد وتنوع إيديولوجية الأنظمة الحاكمة طوال تلك العقود، وثانيها طريقة تعاطى النخبة السودانية مع أزماتها السياسية التى لم تتغير كثيرا، ذلك أن عمليات التغيير لا تخرج عن خيارات التمرد المسلح أو الانقلاب أو الانتفاضة الشعبية، وثالثها هشاشة الدولة الوطنية فى السودان ومؤسساتها خصوصا المؤسسة العسكرية التى خاضت حروبا طويلة وعدة مع جماعات التمرد على مر عقود طويلة.
صراع السلطة والنفوذ:
من منطلق هذا الإرث الطويل من الصراع، وطريقة التعاطى مع تحديات السلام فى السودان، يمكن أن ننظر إلى مشهد الاشتباكات الدائرة حاليا، التى بدأت فى الخامس عشر من إبريل الجارى، بين قوات الجيش السودانى وعناصر الدعم السريع التى اصطفت قبلها فى مناطق متفرقة بالقرب من تجمعات الجيش السودانى، ليتصاعد الصدام المسلح بين أطراف المكون العسكرى.
فى الوقت نفسه تتصارع أيضا النخبة المدنية والسياسية التى لم تفلح فى أن تجتمع على كلمة سواء على مدى أربع سنوات، فلم تنجح الأطراف السودانية، خصوصا المكونين العسكرى والمدنى، فى تشكيل حكومة توافقية تقود المرحلة الانتقالية وصولا إلى إجراء الانتخابات، منذ الإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك، مع قرارات رئيس مجلس السيادة الاستثنائية فى أكتوبر 2021، ومنذ ذلك التاريخ تتولى إدارة البلاد حكومة تسيير أعمال، بجانب تمسك القوى السياسية بالتصعيد الشعبى بحشد مستمر لتظاهرات واحتجاجات فى الشارع طوال الأشهر الماضية، وهى لاشك كان لها أثر بالغ على أوضاع اقتصادية متردية بالفعل بالسودان.
مع هذا الصدام زادت التساؤلات التى كانت حاضرة فى الوسط السودانى، حول قوات "الدعم السريع" فى السودان، وجدوى تدعيمها تسليحيا وعسكريا وعدديا، ودورها فى المعادلة السياسية السودانية خصوصا ما بعد ثورة ديسمبر، وما إذا كانت مكملة لدور الجيش السودانى الوطنى أم أنها قوة "موازية" لاقت دعما من أطراف خارجية، لتستخدم "كشوكة" فى ظهر الاصطفاف الوطنى السودانى؟!
هى تساؤلات تبدو منطقية، فليست هناك دولة ذات سيادة تبحث عن استقرار سياسى وأمنى، وتسعى لبناء نظام سياسى جامع، ولديها أكثرة من قوة عسكرية مسلحة تصارع الجيش فى نفوذه ومهامه! هكذا يبدو الحال مع قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتى" الذى ينتمى إلى القبائل العربية فى دارفور، وقاد ما يسمى ميليشيا "الجنجويد" المسلحة التى قادت الصراع بدارفور مطلع الألفية، واستخدمها نظام عمر البشير وقتها لمساعدة الجيش على إخماد التمرد، ثم تحولت لقوات الدعم السريع، واستخدمت كقوات حرس حدود لمواجهة الهجرة غير الشرعية وجرائم التهريب، وفى 2017،تم إقرار قانون يمنح "الدعم السريع" صفة قوة أمن مستقلة.
وفى عام 2019، وقع قائد قوات الدعم السريع "حميدتى" اتفاقا لتقاسم السلطة، بعد أن شاركت قواته فى إزاحة نظام البشير، تولى بمقتضاه منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالى، وعلى الرغم من توافق مواقف قائد قوة الدعم السريع مع رئيس مجلس السيادة الانتقالى وقائد الجيش السودانى الفريق أول عبد الفتاح البرهان، فإن تحركاته الداخلية والخارجية وممارساته لم تخف طموحه السياسى، ذلك أنه حاول كثيرا أن يستفيد من تعقيدات المشهد الداخلى وتناقضاته بارتداء ثوب "الزعيم المنقذ".
ولم يكن غريبا أن تلاحق "حميدتى" الشكوك طوال الوقت بشأن نيته السياسية، خصوصا مع مواقف مثيرة للتساؤل، كمشاهد استعراض القوة التى تكررت عند تفقده اصطفاف قوات الدعم السريع، إلى جانب تحركاته الخارجية التى كانت أشبه برحلات "سفارى سياسية" التى طالما أثارت جدلا داخليا، لعل أبرزها زيارته المثيرة لموسكو عشية الحرب الروسية الأوكرانية، ولو نظرنا إلى تلك الزيارات بحسابات المكسب والخسارة، فلن نجد سوى أنها كانت تستهدف تأمين موقع "حميدتى" فى السودان، بهندسة شبكة تحالفات فى الداخل والخارج تبقيه فى معادلة القوى الفاعلة فى المشهد السودانى.
على هذا الأساس، سبق الصدام المسلح الدائر حاليا فى الخرطوم، خلاف محتدم فى نهاية شهر مارس الماضى، بين ممثلى الجيش السودانى وقوات الدعم السريع، فى ورشة الإصلاح الأمنى والعسكرى التى كانت تستهدف وضع جدول زمنى لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة فى الجيش السودانى كما نص على ذلك أيضا اتفاق جوبا 2020، ورهن الجيش السودانى موافقته النهائية على الاتفاق الإطارى الموقع من القوى السياسية المدنية فى ديسمبر الماضى، بجدولة الدمج فى فترة أقصاها عامان، فى حين طالبت قوات الدعم السريع مد تلك الفترة لنحو عشر سنوات.
الانتقال السياسى ودوامة الانقسامات:
لا شك فى أن تسوية الأزمة فى السودان، لن تبدأ من حيث انتهت مداولات الأطراف السودانية، قبل الاشتباكات المسلحة بين الجيش والدعم السريع، فهناك واقع جديد تشكله أصوات المدافع والبنادق، وستكون الكلمة العليا فيه لمن سيحكم السيطرة فى تلك الحرب الدائرة، ومهما طالت أو قصرت المواجهات الحالية، ستكون القوى السياسية والنخبة السودانية أمام واقع جديد يجب التعاطى معه، وتلك واحدة من أهم الإشكاليات التى تواجهها عملية الانتقال السياسى فى السودان منذ الإطاحة بنظام البشير، ذلك أن دوامة الصراع والانقسامات والخلافات السياسية طوال السنوات الأربع الماضية، طالما أعادت كل تقدم فى مسار المرحلة الانتقالية للمربع صفر، وهو ما ظهر فى محطات عدة هى:
1- الوثيقة الدستورية، وهى ثمرة الاتفاق التاريخى الذى توصل إليه المجلس العسكرى والقوى المدنية الممثلة فى تحالف "الحرية والتغيير"، بعد ثورة ديسمبر والإطاحة بنظام البشير، حيث تم التوقيع على تلك الوثيقة فى 17 أغسطس 2019، لتكون المرجعية الدستورية والقانونية الأساسية للفترة الانتقالية بالسودان، حيث نصت على صيغة لتقاسم السلطة المؤقتة بتشكيل المجلس السيادى بعضوية عسكرية ومدنية، إلى جانب حكومة مدنية، تتولى إدارة الفترة الانتقالية لمدة 39 شهرا، يتم الدعوة بعدها لانتخابات عامة، إلى جانب معالجة قضية السلام مع الحركات المسلحة خلال ستة أشهر من توقيعها.
ورغم ما مثلته تلك الوثيقة من خطوة مهمة فى مسار الفترة الانتقالية، فإن عملية تطبيق بنودها واجهت تحديات عدة، لعل أهمها حالة التنافر الحاد وفقدان الثقة بين المجلس العسكرى وقوى الحرية التغيير، ذلك أن كل طرف لديه تصوراته لإدارة الفترة الانتقالية، إلى جانب التحديات التى واجهتها الحكومة فى التفاوض مع الحركات المسلحة وما شملته من تصورات عدة لتقاسم السلطة، ومشكلات أخرى تتعلق باستكمال تشكيل عديد من المؤسسات مثل المجلس التشريعى الانتقالى، هذه الدوامة من الخلافات كانت سببا فى تأخر تنفيذ بنود نصت عليها الوثيقة الدستورية عن الوقت المحدد لها، وكادت الأمور تتجه لطريق العنف لولا الوساطات الإقليمية والدولية، أو ترتد بعودة نظام الإنقاذ مرة أخرى كما حدث من محاولات الانقلاب المتكررة من قيادات عسكرية.
2- اتفاق السلام بجوبا، وهو اتفاق السلام الذى وقعته الحكومة الانتقالية مع تنظيمات الجبهة الثورية التى تضم ١٤ حركة مسلحة، فى بداية أكتوبر 2020، بعد أشهر طويلة من التفاوض مع تلك الحركات، وضمت الاتفاقية 8 بروتوكولات متعلقة بإقليم دارفور، وواحدا خاصا بمنطقتى النيل الأزرق وجنوب كردفان، إلى جانب بروتوكولات خاصة بشرق ووسط وشمال السودان، وأقرت الاتفاقية إشراك أطراف السلام من المعارضة المسلحة فى جميع مستويات السلطة الانتقالية، ودمج قوات الحركات فى الجيش السودانى، وفق بروتوكول الترتيبات الأمنية، إلى جانب تعويض ضحايا الحرب وإعادة توطين النازحين واللاجئين.
من هذا المنطلق نص اتفاق جوبا، على مد الفترة الانتقالية 39 شهرا أخرى تبدأ من تاريخ التوقيع على الاتفاق، ورغم ما نصت عليه الاتفاقية من مشاركة تلك الحركات فى السلطة، فإن الاتفاقية لم تحقق السلام الشامل فى السودان، فلم توقع على اتفاق جوبا حركتان من أبرز الحركات المسلحة وهما حركة تحرير السودان،التى يقودها عبدالواحد محمد نور فى دارفور، والحركة الشعبية شمال، بقيادة عبدالعزيز الحلو، هذا إلى جانب إشكاليات تنفيذ وتطبيق الاتفاقية، خصوصا ما يتعلق بدمج العناصر المسلحة فى الجيش النظامى، واحتجاجات الشارع التى ظهرت مثلا مع أزمة غلق شرق السودان، بقيام مجلس قبائل البجا إحدى أكبر المكونات السكانية فى شرق السودان، بإغلاق الميناء الرئيسى للبلاد "بورتسودان"، احتجاجا على مسار الشرق فى اتفاقية السلام بجوبا، وعكست تلك الأزمة حجم الانقسام وفقدان الثقة بين المكون العسكرى والمكون المدنى فى السلطة الانتقالية.
3- قرارات أكتوبر الاستثنائية: مع حالة عدم الاستقرار والانقسام الداخلى، عادت الأزمة فى السودان للمربع صفر مرة أخرى، بقرارات رئيس مجلس السيادة الانتقالى الفريق أول عبد الفتاح البرهان الاستثنائية فى 25 أكتوبر 2021، الخاصة بحل مجلس السيادة الانتقالى وحل مجلس الوزراء وإعلان حالة الطوارئ وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية، فقد دخل السودان مع هذه القرارات فى مرحلة صدام معلنة بين المكون العسكرى والمكون المدنى، ولجأ الأخير لخيار الشارع، بحشد الاحتجاجات والتظاهرات اليومية فى مدن السودان، للمطالبة بسلطة مدنية وإنهاء سيطرة المجلس العسكرى على السلطة فى السودان.
أعاد هذا الصدام، السودان لدوامة الصراع، وجمد تنفيذ المراحل المتفق عليها فى الوثيقة الدستورية خلال الفترة الانتقالية، ومعه وصلت المشاورات السياسية بين المكونين المدنى والعسكرى إلى طريق مسدود، خصوصا مع تمسك التيار المدنى والقوى السياسية بإبعاد الآخر من إدارة الفترة الانتقالية.
التحدى الأصعب الذى ظهر بعد هذه القرارات، كان فى انقسام النخبة السودانية وكل مكون من مكونات السلطة الانتقالية، ذلك أن تحالف "الحرية والتغيير" قد ظهرت الخلافات الإيديولوجية بين مكوناته، وانقسم إلى جبهتين، الأولى تحالف الحرية والتغيير المجلس المركزى، والثانى تحالف الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية، وعلى الجانب الآخر، كان الطموح السياسى لقائد قوات الدعم السريع "حميدتى" واضحا، من خلال عدة مواقف، منها انتقاده لقرارات البرهان فى أكتوبر 2021، واستعراضه العسكرى المستمر لقوات الدعم السريع.
4- الاتفاق الإطارى: فى الخامس من ديسمبر 2022، وقع المكونان العسكرى والمدنى اتفاقا إطاريا، مثّل خريطة طريق تمهد لاتفاق نهائى وتشكيل حكومة تصريف أعمال حتى إجراء الانتخابات بعد 24 شهرا، وضم الاتفاق النهائى خمسة محاور أساسية هى: العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمنى والعسكرى، ومراجعة اتفاق السلام وتقييمه، وتفكيك نظام الإخوان،ومسار شرق السودان.
الإتفاق الإطارى، جاء برعاية الآلية الرباعية (بريطانيا والولايات المتحدة والإمارات والسعودية) ودعمته (الأمم المتحدة والإيجاد والاتحاد الإفريقى)، ويقضى بتسليم السلطة الانتقالية لسلطة مدنية دون مشاركة عسكرية، ودمج قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة فى الجيش ضمن خطة إصلاح أمنى وعسكرى يقود إلى جيش مهنى وقومى واحد، ووفقا لبنود الاتفاق الإطارى الذى تضمن 25 بندا، هناك العديد من القضايا العالقة التى تحتاج إلى الوصول لتوافق حولها فى فترة زمنية لا تتراوح الأشهر الثلاثة من بدء سريان الاتفاق، إلاأن الأزمة الاقتصادية التى يمر بها السودان وغياب التمويل أدت إلى تأجيل البت فيها.
هذا الاتفاق أثار جدلا وانقساما كبيرا فى الشارع السودانى بين رافض كليا ومتحفظ ومؤيد، فقد اتهمت قوى الحرية والتغيير "الكتلة الديمقراطية"، جبهة "المجلس المركزى" بصياغة الاتفاق الإطارى بما يمكنها من السيطرة على الحكومة وحدها، دون مشاركة باقى الأطراف والقوى الأخرى لتنقسم النخبة السياسية حول الاتفاق، كما أعطى الاتفاق الإطارى قوات الدعم السريع وضعية مستقلة كقوة عسكرية أخرى فى البلد، ومن هنا أعادت دوامة الانقسامات والخلافات الأزمة لمربع صفر مرة أخرى، ذلك أن المؤسسة العسكرية اشترطت دمج قوات الدعم السريع فى الجيش النظامى، ورهنت موافقتها النهائية على الاتفاق الإطارى بجدولة عملية الدمج خلال عامين، فى المقابل طالبت قوات الدعم السريع أن تكون عملية الدمج خلال عشر سنوات، ومع اصطفاف عناصر الدعم السريع بالقرب من مواقع حيوية بالعاصمة الخرطوم بدأ مشهد الاشتباك الأخير مع قوات الجيش.
سيناريوهات الصراع العسكرى:
على المستوى الميدانى، لا يزال المشهد يحيطه ضبابية شديدة، خصوصا مع معركة البيانات والتصريحات الإعلامية بين طرفى المواجهة العسكرية، وفى ظل تكثيف القوى الدولية والإقليمية والمنظمات الأممية جهودها لفتح ممرات آمنة لتقديم المعونات الإنسانية والإغاثية، ونقل الرعايا الأجانب من السودان، هناك عدد من السيناريوهات للأزمة السودانية:
- الحسم العسكرى: على المستوى العسكرى، يلاحظ من متابعة سير المعارك منذ اندلاعها أنها تدور فى محيط مواقع رئيسية فى العاصمة الخرطوم مثل القصر الجمهورى ومبنى القيادة العامة للجيش ومبنى الإذاعة والتلفزيون والمطارات الرئيسية بما فى ذلك مطار االخرطوم ومروى، وهو ما يعكس رغبة كل طرف للسيطرة التامة على العاصمة لما لها من دلالة رمزية، ورغم الميزة النوعية التى يمتلكها الجيش وهى سلاح الطيران، وقيامه بقصف مواقع الدعم السريع، فإن المعارك الميدانية لم تحسم بعد، ويبدو أنها ستستمر لفترة فى ظل ما يتردد عن دعم خارجى لقوات الدعم السريع من بعض القوى الخارجية، كما أن القوة العددية لقوات الدعم السريع تجعل من سيناريو التخلص منها أمرا صعب المنال، بل تضع تلك القوة فى حسبانها إمكانية العودة إلى دارفور، نقطة انطلاقها الأساسية، والتحرك من هناك كقوة تمرد.
- الحرب الأهلية: رغم الوضع المأساوى المصاحب للمواجهات العسكرية فى العاصمة الخرطوم، وسقوط ضحايا مدنيين، فإن سيناريو الانزلاق نحو الحرب الأهلية أمر مستبعد، خصوصا أن المعارك لم تخرج عن طرفى الصراع، وإعلان القيادة العامة أن الوضع مستقر بشكل كبير، كما أن باقى ولايات ومدن السودان تشهد استقرارا نسبيا، لكن التحدى الأبرز فى ذلك هو إمكانية دخول التيار الإسلامى وتحديدا عناصر النظام السابق على خط الأزمة، بإشعال الوضع وإثارة الفتنة عبر وسائل التواصل وفى الشارع.
- الوساطة الخارجية: الرهان الأساسى من مختلف التيارات السودانية هو وجود وساطة دولية تنهى حالة النزاع الداخلية، وتعيد جميع الأطراف إلى مائدة المفاوضات السياسية مرة أخرى، لاستكمال الفترة الانتقالية والدعوة لانتخابات، لكن التحدى الأساسى الذى يواجه جهود الوساطة، كثرة الجهات الخارجية المشاركة فى النزاع السودانى، الذى ظهرت معها صراع الأجندات الخارجية، خصوصا مع سعى دول مختلفة لتحقيق مصالحها الخاصة والتنافس على النفوذ فى المنطقة.
لكن مشاركة القوى الإقليمية الكبرى لها أهمية خاصة فى الأزمة السودانية، خصوصا مصر التى لها مصالح استراتجية وحيوية مع السودان، بحكم العلاقات التاريخية والأزلية بين شعبى وادى النيل، الأمر الذى يجعل السودان شأنا مصريا ومصر شأنا سودانيا أيضا، واتضح ذلك فى سرعة طرح القيادة المصرية لمبادرة لتسوية الصراع بين الطرفين بالتنسيق مع جنوب السودان، ودعوة مصر والسعودية الجامعة العربية لاجتماع طارئ على مستوى المندوبين.
ومع الجهود العربية لتسوية الأزمة، من المتوقع أن تمارس الجهات الفاعلة الإفريقية مثل الاتحاد الإفريقى والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيجاد) تأثيرا سياسيا فى تلك الأزمة، كما أن دور الرباعية الدولية التى تتألف من الولايات المتحدة والمملكةالمتحدة والسعودية والإمارات لا يبدو ذات تأثير واسع خصوصا أن الاتفاق الإطارى الأخير جاء برعاية هذه الدول ولم يحظ بتوافق كبير فى الداخل السوداني، وفى الوقت نفسه لا يمكن إغفال أدوار دول جوار مثل إثيوبيا وإريتريا.
- عودة المفاوضات السياسية: من المستبعد عودة جميع الأطراف السودانية لمائدة الحوار والتفاوض مرة أخرى، خصوصا فى ظل تصنيف المؤسسة العسكرية لقوات الدعم السريع كميليشيا متمردة، وفقدان الثقة بين عناصر المكون العسكرى وعناصر المكون المدنى والقوى المدنية، والخلافات والانقسامات بين عناصر كل مكون منها، خصوصا القوى السياسية والمدنية، ومن ثم ليس هناك أفق واضح لأى مسار سياسى فى الوقت الراهن.
ومن واقع ما شهده السودان ما بعد الاستقلال من أزمات وصراعات على السلطة وليس خلال السنوات الأربع الأخيرة فقط، يتضح ان اتفاقات تقاسم السلطة قضية صعبة التطبيق والممارسة، ولعل الشاهد على ذلك إخفاق ثلاث ثورات شعبية شهدها السودان منذ استقلاله فى تحقيق أهدافها ومرادها، كما أن التجارب الإفريقية فى تقاسم السلطة أثبتت أنها غير قابلة للاستدامة والنجاح بدرجة كبيرة.
الخلاصة:
قد يبدو الصراع العسكرى الحالى فى السودان، ما هو إلا صراع شخصى بين الرجل الأول والثانى فى قمة السلطة الانتقالية، لكن الواقع أنه صراع بين قوتين عسكريتين تتنافسان على السيطرة على البلاد، ورغم التكلفة السياسية والاقتصادية والبشرية الباهظة لهذا الصراع، فما زالت هناك فرصة للاستماع لصوت العقل إنقاذا للسودان، وعلى أى حال فإن المخرج من تلك الأزمة قد يحمل أحد السيناريوهين التاليين:
- السيناريو الأول: تكرار نفس ما حدث فى منتصف ستينيات القرن الماضى، بخروج ثورة شعبية أنهت حكم إبراهيم عبود فى السودان، ومع تناحر القوى السياسية على السلطة لمدة أربع سنوات، لم تنته الأزمة إلا بانقلاب جديد من مجموعة ضباط من الجيش السودانى بقيادة جعفر نميرى، ومن ثم قد يأتى الحل من هذه الأزمة السياسية المعقدة، بقيادة مجموعة من الضباط فى المؤسسة العسكرية لحركة سياسية، تغير السلطة الانتقالية الحالية، وتقود هى السلطة فى السودان وصولا لأول انتخابات قادمة، بشرط أن تحظى بتوافق من القوى السياسية والمدنية.
- السيناريو الثانى، وهو الأسوأ، وهو تكرار الأزمة التى حدثت فى الجنوب، بتطور المواجهات العسكرية بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع فى منطقة دارفور، ومع التدخلات الدولية وصراع النفوذ الدولى بالسودان، قد ينتهى الأمر بانفصال جزء آخر من السودان مثل دارفور، وهو سيناريو قد يبدو صعبا، لكن تطورات الأوضاع المعقدة فى السودان تشير إلى نفس المسار الذى سارت فيه الحرب بالجنوب من قبل.
لذلك، قد تجاوزت الأزمة فى السودان، فكرة من المخطئ ومن على طريق الحق، أو من الخاسر ومن الرابح، فكيف سيكون هناك رابح فى وطن يتم تدميره بأيادى أبنائه، فلا ريب فى أن الخاسر هو السودان والشعب السودانى نفسه، وليس أبلغ وصف لهذه الخسارة من مشهد مواطن سودانى ظهر فى مقطع متداول على المنصات الرقمية والإخبارية، وهو يصرخ وسط حريق منطقة "سوق المحاصيل"فى مدينة نيالا،عاصمة ولاية جنوب دارفور، محملا جميع النخبة من سياسيين وعسكريين وقادة رأى المسئولية فى مشهد الدمار المحيط به، هذه النخبة التى عليها الآن أن تتخلى عن حيادها وتقف مدافعة عن السودان ومؤسساته الوطنية حفاظا عليه من مصير مجهول.