مصر دولة عربية تقع فى قلب العالم، وتعد من أقدم الحضارات بـ 7000 سنة من التاريخ، ولقد كانت مصر وستظل منارة للعلم والفكر والمعرفة منذ القدم، وتعد مصر موطئا للعديد من العلماء والمفكرين والمبدعين عبر التاريخ، وقد أسهمت بشكل كبير فى تطور العلوم والفنون والآداب والفلسفة، وتعد مصر أولى الحضارات التى أنجبت اوائل الفلاسفة والمؤرخين والأطباء والعلماء الذين تركوا بصمة فى العلوم والمعارف.
وتضم مصر أيضا عددا كبيرا من الجامعات والمؤسسات والهيئات العلمية المرموقة مثل جامعة القاهرة، والأزهر الشريف بهيئاته متمثلة فى: "جامعة الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، وهيئة الثقافة والبعوث الإسلامية، وهيئة كبار العلماء"، وفى مصر أيضا تجد مكتبة الإسكندرية تقف شامخة عبر العصور التى تعد مركزا لإنتاج ونشر المعرفة ومجمعا ثقافيا للتفاعل بين الشعوب والحضارات.
ولكن وبعد الاعتراف بدور مصر الريادى فى الثقافة والعلوم، فإن دورها فى توثيق ما لديها من العلوم والمعارف والتاريخ كمحتوى رقمى باللغة العربية على شبكة الإنترنت يكاد يكون منعدما بالمقارنة مع الثقافات الأخرى وبالأخص باللغة الإنجليزية.
والمقصود بالمحتوى الرقمى هو هذا الكم المهول من المعرفة والمعلومات التى تخزن فى بنوك المعلومات ومواقع الإنترنت والشبكات الخارجية والداخلية أون لاين أو أوف لاين.. والمحتوى الرقمى يتضمن العديد من الأنواع وأهمها برأيى هو المحتوى الرقمى الثقافى فى المقام الأول والبحثى والحكومى والإعلامى، ويأتى بعد ذلك المحتوى التجارى والتقنى والشخصى.
والمحتوى الرقمى الثقافى هو كل ما له علاقة بتقاليد المجتمع وعاداته وقيمه وثقافاته التى تمثل الذاكرة الجمعية للمجتمع التى تشمل القٓصص والملاحم والأساطير والحكايات والأغانى والأمثال الشعبية والفنون الأدائية والممارسات الاجتماعية بكل طقوسها والحرف والمهارات والممارسات الدينية والدنيوية، أما المحتوى الرقمى البحثى فله طابع تعليمى أكاديمى وذلك عادة يكون على مواقع الجامعات ومراكز البحث العلمى وبنوك المعرفة والمكتبات الإلكترونية، أما المحتوى الرقمى الحكومى فعادة ما يتمثل فى الهيئات الرسمية التى تختص بإتاحة معلومات وأخبار ونشاطات رسمية تخص المواطن وتوجد على مواقع الإنترنت التابعة للحكومة كالوزارات والمصالح الإدارية. وفيما يخص المحتوى الرقمى الإعلامى فهو ما توفره الصحف الإلكترونية ومواقع الفضائيات والإذاعات من تغطية إخبارية مستمرة على مدى الساعة.
وما يعنينى اليوم هو المحتوى الرقمى الثقافى بالأخص، ومن بعده يأتى المحتوى الرقمى الأكاديمى المصرى، فعلى الرغم من ازدياده عما سبق، فإنه لا يزال ضعيفا وهزيلا جدا مقارنة بالمحتوى الأجنبى. فإن التوثيق للتراث الثقافى والأكاديمى وأهميته تكمن فى حفظ تراثنا ليكون محورا للدراسة للأجيال القادمة فى كل أرجاء العالم وسطر لهويتنا الفريدة وحضارتنا العتيدة وقيمتها كجزء من السجل البشرى. وهذا التوثيق من شأنه الحفاظ على كل سجلاتنا من الحياة اليومية على مستوى الشخص والمجتمع. ولكن الحقيقة، إن المحتوى الرقمى المصرى باللغة العربية على مواقع الإنترنت لا يرتقى إلى مستوى الطلب عليه، فتجد مثلا الباحث عن معلومة فى موضوع مهم كالدارسين وباحثى الدكتوراه وطلاب الجامعات عندما يُطلب منهم بحث علمى يقومون ببحث مضنٍ للوصول إلى المعلومة، ولكن عادة ما تنتهى رحلة البحث بيأس الباحث فى الوصول إلى مبتغاه ولا تتوافر لديه معلومات بمصادر موثوق بها لأن المصادر ليست فقط شحيحة ولكن أيضا ضعيفة المحتوى وغير دقيقة، وينتهى به الحال إلى البحث فى المحتوى الغربى وترجمته بما يحتويه من معلومات من وجهة نظر ناشرها فى الأغلب، وذلك لأن الفرق بين البحث بالعربية والبحث باللغة الإنجليزية أنه عند البحث باللغة الإنجليزية تجد كما هائلا من المعلومات، أما البحث باللغة العربية سيكون محدود المحتوى والنتائج.
ولأن أعداد المستخدمين على شبكة الإنترنت فى تسارع وتزايد مستمر وجب تعزيز هذا المحتوى، فإن المحتوى الرقمى هو الوريث الشرعى للمحتوى التقليدى الذى يُنشر مطبوعا ومكتوبا وورقيا أو نراه عبر شاشات التلفاز ونسمعه عبر أثير الراديو، وكان ذلك هو الأكثر انتشارا ولكن ومع التطور المستمر فى التكنولوجيا ونزوح القارئ والباحث والمشاهد والمستمع عن كل ما هو تقليدى وأصبح شغفه بكل ما هو رقمى فصار من الضرورة إنشاء محتوى غير معهود ومتجدد على شبكة البيانات الضخمة وصناعة محتوى يرقى بتاريخ وقيمة وثقافة الشعب المصرى، فهو يمثل إضافة معرفية للمتلقى ويتيح أيضا تبادل الخبرات والآراء والمعارف. فبحسب الإحصاءات فإن نسبة المحتوى العربى لا تتجاوز 1% من إجمالى المحتوى الرقمى العالمي، بل من أبرز مساوئه بعد ضآلته إلا أن معظمه منسوخ والأفكار مكررة فتجد المعلومة نادرة. ولكن والحق يُقال إن اهتمامات شعوبنا العربية أصبحت متردية والميل العام ليس للحصول على المعرفة بل مرتبط أكثر بكل ما هو ترفيهى مبتذل. فإن ضعف المحتوى الرقمى على الشبكه العنكبوتية هو مجرد انعكاس طبيعى للضعف العام فى المجالات العلمية والتقنية، ولذلك وجب الإشارة إلى أن المؤسسات التعليمية والتربوية من جامعات ومعاهد ومؤسسات البحث العلمى لا بد من أن تعمل على تعزيز المحتوى الرقمى لتحقيق التنمية البشرية المطلوبة. ولتحقيق نقلة نوعية لا بد من أن توجد مؤسسة وجهة منوطة بالمحتوى الرقمى ولا تقتصر فقط على وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات حيث إن مصر تعد من أكثر المستخدمين للشبكة فى الوطن العربى.
والخلاصة، إن شبكة الإنترنت فى زحام متسارع ونمو وهيمنة فى مجال المعلومات والاتصال والتواصل فى عالمنا الحالى، ولذلك التحدى ضخم جدا، وأصبحنا فى حاجة ماسة إلى مادة رقمية رصينة تتماشى مع زخم حضارتنا وثقافتنا وعلومنا ومعارفنا. لذلك، فإن دعم المحتوى العربى المصرى على شبكة الإنترنت هو ضرورة منوط بها جميع المؤسسات والأفراد من أجل الحفاظ على هويتنا فى عالم أصبح اليوم يعتمد كليا على المعرفة الرقمية. والجدير بالذكر أنه توجد بعض المبادرات التى تسعى إلى الحفاظ على موروثاتنا وتنقيحها والإضافة إليها عن طريق بعض المنصات الرقمية المصرية مثل منصة "عرفنى شكرا" التى تسعى إلى إصدار أكثر من 200 ألف مقالة للإجابة عن أكثر الأسئلة شيوعا فى الكثير من جوانب الحياة مثل الصحة والرعاية الشخصية والطبية والتكنولوجية، وتتميز هذه المنصة بأنها user friendlyأى سهلة الاستخدام والوصول إليها من جميع الأجهزة الرقمية. نحن قادرون على إحداث تغيير لهذا الوضع، لأن مصر كانت ولا تزال القبلة للعلم والمعرفة والثقافة.
حفظ الله مصر وشعبها