سمعت الكثير ممن يعتزمون البدء بعمل مشروع وكلهم عزم وحماس، ولكن الغريب واللافت للانتباه أن أغلبية من يريد العمل على مشروعه الصغير يشرع في أفكار تقليدية. إن كل منا يطمح أن يكون لديه مشروعه الخاص، وكل منا يحلم بأن يكون هو صاحب العمل، ولكن هل نملك من المهارات والأدوات ورأس المال ما يمكننا من القيام بمثل هذه المشروعات بهدف النجاح والاستمرار أم أنها مجرد رغبة النجاح السريع والطموح بأن نصبح من رجال الأعمال ونتحكم بمصائرنا بعيدا عن الوظائف الرتيبة، أم أنها رغبة الغِنى والحصول على المال السريع؟
وهذه الظاهرة هى الأكثر انتشارا بين الشباب الذى يميل بشدة لفكرة العمل الحر وروح الريادة والاستقلالية، ولكن السؤال الذى يحير: هل هذه المشروعات الصغيرة تساعد بالفعل على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أم أنها عبء على الاقتصاد المصرى، فطبقا للإحصائيات لدى مصر من المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر ٢.٥ مليون مشروع.
تعد المشروعات الصغيرة صناعية كانت أو تجارية أو خدمية العمود الفقرى لمعظم اقتصادات العالم، ففى الصين هى تمثل ٦٠٪ من إجمالى صادراتها بالمقارنة ٤٪ فقط مما تمثله من إجمالى المساهمة فى صادرات مصر. وفى الولايات المتحده تسهم بنحو نصف إجمالى الناتج المحلى، ولكن للأسف بالمقارنة مع الدول الأخرى فإن السوق المصرى بمشروعاته الصغيرة دوره فى الناتج المحلى متواضع جدا. ولكن ما هو جدير بالإشارة، أن هذه المشروعات لا تحقق النجاح المرجو منها ونسب الاستمرارية بها ضئيلة، وذلك لعدة أسباب، أهمها قلة توافر المهارات الإدارية لأصحاب هذه المشروعات، بالإضافة إلى صغر حجم رأس المال وتعقيد الإجراءات المطلوبة، وقلة الدعم الحكومى لبدء أو استكمال أو على الأقل التقدم والازدهار بمثل هذه المشروعات.
فى مصر، يعرف المشروع الصغير بأنه مشروع ذو إمكانات مادية محدودة (رأس المال) وعمالة قليلة، وعادة ما يكون المالك هو من يديره، ولكن المشكلة أن صاحب المشروع يبدأ بدون خلفية ولو بسيطة عن الخطة التى ستتبع ( feasibility study) لدراسة حجم رأس المال المستثمر فى المشروع وعدد العاملين بالمشروع أو حتى أن يكون لديه من القدرات ما يمكنه من التنبؤ بالإنتاج السنوى، وما سيكون حجم المبيعات المتوقعة أو الأرباح سنويا وأهمية وجود أبسط أنواع التكنولوجيا. لذلك، لا يجوز تخصيص أى دعم أو مكان لبدء أى مشروع إلا بعد عمل دراسة تتناسب مع رؤية الدولة فى مجالات الإنتاج والتصنيع، وأن يخضع المستثمر لدورة تدريبية تتماشى مع خطط الدولة الاستراتيجية للنهوض بالصناعة المصرية كى نتفادى الفشل السريع وإهدار الدعم المنفق.
ومن الملحوظ أنه أصبح متوافرا فى الآونة الأخيرة العديد من المنافذ التى تخصصها الدولة فى الكثير من الأماكن الحيوية التى من شأنها أن تكون بمنزلة بداية ناجحة، ولكن من الملحوظ أيضا أن أغلبية شبابنا المتطلع للعمل الحر يفتقر للمعرفة والابتكار (know how) لبدء مشروعات ذات طابع جديد صناعى أو إنتاجى، ولكن نجد كل هذه الأماكن المطروحة التى غالبا ما تحظى بحوافز ودعم المشروعات الصغيرة ينتهى بها المطاف أن تكون مشروعات تقليدية مطعما أو كافتيريا. وللأسف عندما نمر بمثل هذه الأماكن بعد فترة تتراوح بين الأشهر الستة إلى سنتين نجد أن هذه الأماكن فشلت أو أغلقت بسبب سوء الإدارة ليُفتح بدلا منها مطعم جديد أو سوبر ماركت وهكذا دواليك. ومشكلة هذه المشروعات الصغيرة فى مصر وما يجعلها عبئا على اقتصادنا الحالى فى دولة نامية مثل دولتنا هو عدم قدرتها على سد احتياجات السوق المحلى من السلع التى تتناسب مع مستوى المعيشة، فلا هى تمثل صناعة صغيرة تقوم بتغذية الصناعات الكبيرة ولا هى مساهمة بخدمات مبتكرة، بل تنحصر فى تقديم خدمات مكررة بدون توزيع مواز للاحتياجات جغرافيا؛ حيث إنها ترتكز بالأساس فى المناطق الحضرية والمراكز التجارية، وهذا مفهوم ضمنا من وجهة النظر الربحية. لذلك، للأسف تعانى مناطق الأرياف من عدم اختراقها والوصول إلى الفئات الأولى بالدعم من مثل هذه القطاعات من المستثمرين الصغار.
ولأن هذه المشروعات تفتقر التخطيط السليم المسبق لبدئها، ولأنها لا تسهم فى تنوع ما تقدم من خدمات تساعد على نمو الاقتصاد (حيث إنه ليس بالجديد، إذا قلنا إن من شأنها استقطاب الأيدى العاملة وتقليل نسبة البطالة) إلا أنها أصبحت عبئا على الاقتصاد لاستمرار فشلها بعد فترة قصيرة من البدء وصارت هدرا لرءوس الأموال الصغيرة. ومن ثم، قد تتسبب فى زيادة نسبة البطالة، فتصبح عاملا في انتشار الاقتصاد غير الرسمى. لذلك، أتمنى من جهاز تنمية المشروعات أن يقوم بتوزيع الموارد المادية بالمساواة بين المشروعات لتخدم ازدهار الصناعة المحلية. فإن من أهم مزايا المشروعات الصغيرة أنها تقوم بالقضاء على الاقتصاد الموازى الذى يؤثر سلبا فى الاقتصاد بشكل عام. لذلك، فإن العمل على إمداد المشروعات الصغيرة بالدعم المطلوب وإنجاحها من شأنه تيسير عملية دمج الاقتصاد الموازى فى الرسمى الذى زادت نسبته على 50% من الناتج المحلى. وأعتقد أنه من اللازم أن تقوم الدولة بتخصيص خريطة للمشاريع الصغيرة توضح لصغار المستثمرين أى المشاريع أفضل ربحا وعائدا وإنتاجية للمواطن ونفعا للاقتصاد.
ولكن أيضا وجب ذكر خطوة فى منتهى الأهمية قام به جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر أن قام بمنح حوافز للشركات والمنشآت الداعمة للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر وريادة الأعمال، وأيضا قام جهاز المشروعات بتخصيص الحوافز لحاضنات ومسرعات الأعمال التى تقوم بتقديم خدماتها للمشروعات حديثة التأسيس.
فمصر لديها من العقول الشابة ما يمكنها من النهوض إلى القمة، ولكن لن يحدث هذا إلا تحت الرعاية المستمرة والتخطيط السليم، وعندها ستقوم هذه المشروعات الصغيرة على الارتقاء من جديد بشعار "صنع فى مصر" لنحتل الصدارة بين دول العالم مرة أخرى.
حفظ الله مصر وشعبها.