فى 16 ديسمبر 2022 قامت اليابان بنشر ثلاث وثائق استراتيجية مهمة وجديدة (استراتيجية الأمن القومى (NSS) - استراتيجية الدفاع الوطنى (NDS) - برنامج تعزيز الدفاع) معلنة اعتماد منهج جديد للأمن القومى والدفاع، متعهدة بزيادة الإنفاق الدفاعى من نحو 1.0٪ من الناتج المحلى الإجمالى إلى 2.0٪ بحلول السنة المالية التى تبدأ عام 2027، داعية القوات المسلحة اليابانية إلى اكتساب قدرات صاروخية مضادة وبدء جهود جديدة للتغلب على مرحلة الانقسام المدنى - العسكرى التى قوضت منذ فترة طويلة قطاع الدفاع اليابانى من خلال إعاقة تطوير واعتماد قدرات جديدة فى أواخر عام 2022.
- فى إشارة واضحة إلى تحول واضح وحاسم عن نهجها تجاه هذه القضايا منذ نهاية الحرب الثانية العالمية، وذلك كنتيجة مباشرة لتقييم طوكيو القاتم (السلبى) للتحديات الأمنية المتزايدة من الصين وكوريا الشمالية ومؤخرا روسيا على جانبها الغربى. ومن وجهة نظر طوكيو فإن العلاقة الاستراتيجية الصينية الروسية المتطورة التى يتم تفعيلها فى المنطقة المجاورة لليابان من خلال الدوريات البحرية والجوية المشتركة وهى واضحة عبر مجالات متعددة (من العسكرية إلى الاقتصادية) والعداء الصينى المتصاعد فيما يتعلق بتايوان واحتمال امتداد أى عدوان صينى على تايوان إلى الأراضى اليابانية المجاورة، وبالتحديد جزر سينكاكو باللغة اليابانية / دياويو باللغة الصينية التى تسيطر عليها اليابان وتزعم الصين ملكيتها، بالإضافة إلى برامج الأسلحة النووية والصواريخ البالستية المزدهرة فى كوريا الشمالية، كل ذلك أدى إلى انعكاس مخاوف طوكيو فى تقييم استراتيجية الأمن القومى الجديدة للبيئة الاستراتيجية اليابانية بوصفها أكثر "خطورة وتعقيدا" من أى وقت آخر فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
- وتعد استراتيجية الدفاع الوطنى أول وثيقة استراتيجية دفاعية تصدرها اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصُممتعلى غرار استراتيجيات الدفاع الوطنى التى تم تطويرها فى واشنطن العاصمة، ما يشير إلى نية اليابان فى تعميق توافقها مع حليفها الأمنى الأكثر أهميةالولايات المتحدة،وذلكلتحل محل المبادئ التوجيهية لبرنامج الدفاع الوطنى الذى نُشر لأول مرة فى عام 1976، وتوفر الإطار العقائدى لبرنامج بناء الدفاع الذى يحدد أولويات الإنفاق خلال العقد المقبل. وتم تحديد هذه الأولويات بواسطةبرنامج الدفاع متوسط المدىالذى كان قائما منذ عام 1986 ويتم تحديثه كل خمس سنوات، ولكن فى إطار العملية الجديدةمع صياغة برنامج بناء الدفاع جنبا إلى جنب مع استراتيجية الأمن القومى واستراتيجية الدفاع الوطنى، تسعى طوكيو إلى تنسيق الأمن القومى والتخطيط الدفاعى إلى حد أكبرما سيسهل تحولا طويل الأجل لسياسة الأمن اليابانية ذاتالتأثير العميق فى كل من المحيطين الهندى والهادئ وداخل اليابان.
- تدعو استراتيجية الدفاع الوطنى اليابان إلى "أن تكون قادرة على تحمل المسئولية الأساسية لتعطيل وهزيمة الغزو" كبديلضمنى للاعتماد على ضمان الأمن الأمريكى فى المقام الأول لكى يكون هذا ممكنا يجب زيادة قدرات الردع اليابانيةمن حيث القوة والمدى و"استدامة ومرونة" دفاعها من خلال تعزيز البنية التحتية المحلية الضعيفة وشراء الذخيرة الكافية ورعاية صناعة الدفاع اليابانية التى لا تزال مجزأة وتفتقر إلى مزايا المنافسة، وتأمل الحكومة أن يساعد برنامج Global Combat Airالذى تم الإعلان عنه فى 9 ديسمبر 2022 مع إيطاليا والمملكة المتحدة على تحفيز صناعة الدفاع،لكن التقارير فى الصحافة اليابانية فى أواخر عام 2022 أشارت إلى أن الصناعة ستتطلب أيضا دعم إعادة الهيكلة من خلال ضخ الأموال العامة والمزيد من المراجعات لمبادئ وإرشادات تصدير الأسلحة اليابانية وحتى تأميم بعض الأصول الثابتة.
-2-
- إن التزام استراتيجية الأمن الوطنى الجديدة بالحصول على قدرات صاروخية مضادة هو جانب مهم من تعزيز الردع اليابانى لا سيما بالنظر إلى تطوير أنظمة أسلحة تفوق سرعة الصوت فى الصين وكوريا الشمالية واتساع فجوة الصواريخ بين الصين من ناحية واليابان والولايات المتحدة من جهة أخرى، الأمر الذى يقوض الأمن الذى توفره دفاعات الصواريخ الباليستية اليابانية الحالية، على الرغم من أن اليابان يجب أن تبنى بنية تحتية جديدة لدعم قدرتها على الهجوم المضاد فى المستقبل، وقد أرفقت تعهدا بعدم الاستخدام الأول لهذه القدرة إلا أن الإعلان نفسه عزز مصداقية الردع اليابانى وينذر بتعاون أوثق بين اليابان والولايات المتحدة لتنسيق الانتشار المحتمل.
-تدعو استراتيجية الأمن الوطنى الجديدة اليابان إلى العمل مع الولايات المتحدة والشركاء الآخرين "لتحقيق توازن جديد فى العلاقات الدولية"، بينما تحدد استراتيجية الدفاع الوطنى الجديدة الهدف الأول للدفاع اليابانى على أنه "تشكيل بيئة أمنية لا تتسامح مع التغييرات أحادية الجانب مع تغيير الوضع الراهن بالقوة"، دفع اليابان لتشكيل بيئتها الخارجية ليس بالأمر الجديد فى إطار السياسة الحرة والمفتوحة فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ والمعلنة بواسطة رئيس الوزراء السابق آبى عام 2016، وتعتمد استراتيجية الأمن الوطنى الجديدة على هذا من خلال تأطير قدرة طوكيو على تحقيق هذه الأهداف من حيث ما تسميه الوثيقة "القوة الوطنية الشاملة لليابان"، وهذا يشمل صراحة قدراتها الدبلوماسية والدفاعية والاقتصادية والتكنولوجية والاستخباراتية ويعكس جزئيا الطبيعة "الشاملة" للتحدى الأمنى من الصين وذلك بتركيز الاستراتيجية على الدفاع والتكنولوجيا والاستخبارات مع الالتزام بتقديم "دفاع إلكترونى نشط من أجل القضاء مقدما على إمكانية وقوع هجمات إلكترونية خطيرة" على الشبكات اليابانية والبنية التحتية الحيوية.
- من حيث الميزانية فإن تعهد استراتيجية الأمن القومى بزيادة الإنفاق الدفاعى إلى 2.0٪ من الناتج المحلى الإجمالى بالسعر الحالى بحلول السنة المالية التى تبدأ فى إبريل 2027 من 1.0٪ من الناتج المحلى الإجمالى والمطبق منذ 1976 هو دليل إضافى للنية الجادة وراء التحولات الاستراتيجية الموضحة أعلاه على الرغم من أن بعض الزيادة فى الإنفاق ستأتى من إعادة تصنيف الإنفاق الحالى فى المجالات التى تعد متداخلة مع الأمن القومى (الإنفاق على خفر السواحل اليابانى والبنية التحتية الحيوية على سبيل المثال) فإن المبالغ المعنية ستكون كبيرة؛ حيث يدعو برنامج بناء الدفاع إلى إنفاق إجمالى يبلغ 43 تريليون ين يابانى (321 مليار دولار أمريكى) خلال السنوات المالية الخمس التى تبدأ فى إبريل 2023 وتنتهى فى مارس 2028 لتصبح ميزانية الدفاع اليابانية ثالث أكبر ميزانية على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة والصين. وفى إشارة مهمة على الالتزام السياسى فى هذا الشأن تم إصدار مسودة الميزانية للسنة المالية 2023/2024 بعد فترة وجيزة من الوثائق الاستراتيجية الثلاث التى تدعو إلى 6.8 تريليون ين (51 مليار دولار أمريكى) فى الإنفاق الدفاعى - بزيادة 26.3٪ عن الميزانية الأولية للسنة المالية 2022/2023.
- تهدف الاستراتيجية الأمنية اليابانية الجديدة إلى إعطاء اليابان دورا أكثر نشاطا فى الحفاظ على الاستقرار الإقليمى وفى التحالف الأمنى الأمريكى، بالإضافة إلى تضخيم قدرات اليابان فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ من خلال بناء تحالفات وشبكات صديقة فى المنطقة مع توسيع نطاق أنشطة قوات الدفاع الذاتى اليابانية لتمكين "الدفاع عن النفس الجماعى" فى المواقف التى يكون فيها بقاء اليابان مهددا.
-3-
- ذكرت استراتيجية الأمن القومى الجديدة أن كوريا الجنوبية هى "دولة مجاورة مهمة للغاية لليابان"، ووصفت التزام طوكيو بتعزيز التنسيق الاستراتيجى مع سيول وواشنطن على الصعيدين الفردى والمشترك، فى إشارة إلى الأهمية التى توليها طوكيو لهذه العلاقات فى دعم الاستقرار الإقليمى على الرغم من بعض المخاوف الكورية بشأن ظروف استخدام اليابان لقدراتها الجديدة فى الضربات المضادة، ومع ذلك فهناك مؤشرات على أن اليابان وكوريا الجنوبية قد تربطان أنظمة رادار الكشف عن الصواريخ الخاصة بهما عبر القيادة الأمريكية فى المحيطين الهندى والهادئ لتعزيز القدرات المشتركة لاعتراض الصواريخ ربما فى وقت لاحق من عام 2023 فى دلالة مهمة على التحسن فى العلاقة الثنائية.
- من المنتظر اتخاذ الحكومة اليابانية عدة خطوات أخرى فى العام المقبل لتفعيل استراتيجياتها الجديدة، منها على سبيل المثال ما يتطلبه تنفيذ "الدفاع السيبرانى النشط" من مراجعة قانون أعمال الاتصالات وقانون يحظر الوصول غير المصرح به إلى الكمبيوتر، بالإضافة إلى الجهود المبذولة لتعزيز أنظمة التصريح الأمنى اليابانية لتتمكن طوكيو من التعاون مع الشركاء فى الخارج للبحث عن التقنيات المتقدمة وتطويرها، بالإضافة إلى البدء فى تنفيذ تغييرات عملياتية عسكرية طبقا لما ورد ببرنامج بناء الدفاع؛حيث ستتم إعادة تنظيم 14 فرقة وألوية من قوات الدفاع الذاتى اليابانية المتمركزة خارج أوكيناوا فى وحدات متحركة يمكن نشرها فى المناطق المعرضة للخطر، مثل جزر نانسى التى تقع إلى الشمال الشرقى من تايوان، كما تخطط طوكيو أيضا لزيادة عدد قواعد تخزين الذخيرة وتقليل تركيز مثل هذه المرافق فى هوكايدو فى شمال اليابان (والذى كان نتيجة للتهديد الأمنى الذى شكله الاتحاد السوفيتى خلال الحرب الباردة)، وستقوم اليابان أيضا باستكشاف اتفاقات الوصول المتبادل مع شركاء آخرين كالفلبين وهى حليف آخر للولايات المتحدة فى المعاهدةأحد المرشحين الواضحين إلى جانب الشركاء الآخرين الموقعين بالفعل، مثل أستراليا والمملكة المتحدة لتسهيل التعاون الدفاعى الثنائى.
- إذن فهناك عالم جديد – قديم (متعدد الأقطاب) يتشكل مرة أخرى سواء بتحالفات جديدة أو بإحياء خريطة التحالفات القديمة، وأن اليابان التى كانت تعتمد بشكل كبير جدا على الولايات المتحدة الأمريكية فى الدفاع عنها طيلة سبعة عقود تغير الآن من سياساتها الدفاعية وتضاعف من إنفاقها العسكرى بل تسعى لإقامة تحالفات جديدة مع من كانت تعاديهم فى الماضى.
- إن بين اليابان من جهة والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والفلبين والدول الأخرى التى وردت بالمقال من روابط وقواسم مشتركة أقل بكثير جدا مما بين مصر والدول العربية من روابط ولن أعددها هنا، ولكن سأذكر بعضها، مثل: صلة الدم، واللغة المشتركة، والدين، ولعل أهمها على الإطلاق المصير المشترك، وعلى هذا أليس هذا هو وقت التكاتف والتعاضد العربى؟ فالعالم يتشكل ولابد لنا من أن نعمل معا لنخرج من الإطار الإقليمى لنؤدى دورا رئيسيا وفاعلا فى العالم أجمع.