يتسابق المحللون والباحثون فى صياغة السيناريوهات ووضع التصورات، تجاه الأوضاع الدولية وإشكالياتها المتغيرة والمتعاقبة، فى اتجاه من هؤلاء لمحاولة التقييم والقراءة الموضوعية، ومن ثم التنبؤ بالتداعيات ومدى تأثيرها فى المستويين الإقليمى والدولى.
ولعل التصور السياسى لأى من هذه الأوضاع، يأتى فى مقدمة التصورات الأكثر تعقيدا، لا سيما فى عملية التعاطى والتناول أو بمعنى أدق التحليل والوقوف على المجريات. وربما الزخم والاهتمام الذى تكتسبه هذه الإشكاليات الاستراتيجية، والتى يعج بها الوضع الدولى، نابع من خلفيتها السياسية ومدى قدرتها على إحداث التغييرات الجوهريةوعلى الساحتين الإقليمية والدولية.
المعطيات كفيلة بالمساعدة فى استلهام النتائج والتداعيات، وبعد أن شهد العام الماضى أزمات عدة،عُدَّت بمنزلة إشكاليات حادة من الصعب التعامل معها والإيقان بنهايتها، غير أن الأزمة الروسية - الأوكرانية جاءت فى المقدمة، خصوصا عقب المضامين التى حملها خطاب بوتين الأخير، واعتماد دفعات تجنيد لأكثر من 500 ألف مجند، بالمقابل استمرار الولايات المتحدة فى الدعم العسكرى لأوكرانيا عبر دفعة حديثة من المساعادات العسكرية والتسليحية والدفاعية أيضا، قدرت بأكثر من 3 مليارات دولار.
ويبدو أن روسيا قد تمكنت من التكيف مع العقوبات، وتوفيق أوضاعها على أساس صادراتها وأسعارها الجديدة، مع استقواء أوكرانيا بالإمدادات الغربية وجميعها عوامل تنذر بازدياد حدة الأزمة فى العام الجديد.
ومن الغرب وتحديدا الاتحاد الأوروبى، ومع ارتفاعات الأسعار الآجلة للغاز واحتمالية تفاقم إشكالية الطاقة الكبرى، يتبقى أيضا الانقسام السياسى مسيطرا، خصوصا تجاه الأزمة الأوكرانية والموقف من روسيا، وتباين المواقف فيما بين فرنسا وألمانيا وحتى المجر، فى تقاربها الملحوظ لروسيا، بين معارض وموضوعى ومنحاز، وإن برز صعود اليمين المتطرف كأقسى التحديات التى من المقرر أن تعاصرها أوروبا خلال العام الجديد، لا سيما فى تصدره إيطاليا وفرنسا وحتى محاولات انقلاب ألمانيا الفاشلة.
أما الولايات المتحدة التى جاءت فى مقدمة صانعى الفوضى والمساهمين فى اقتراب الأوضاع إلى حالة ألا نظام، فيتنامى تنافسها مع الصين، وعلى الرغم من التخوفات من جراء المواجهة المحتملة بين الجانبين، على خلفية تعمد الأولى التقارب مع تايوان، فإن التنافس بينهما بدأ فى اتجاه مغاير لاتجاهات الصراعات، لا سيما عقب الحراك السياسى والتحرك ناحية الخليج من قبل الصين وسعيها فى دمج المنطقة عبر مبادرة الحزام والطريق. بالمقابل تسعى أمريكا إلى الاتجاه ناحية إفريقيا، وإن كانت تعانى فى الآونة الأخيرة من انقسامات داخلية، برزت جيدا داخل الكونجرس ومع فشل النواب فى انتخاب رئيس للمجلس خلفا لنانسى بيلوسى، وإن تمكن النائب الجمهورى كيفن مكارثى من تقلد المنصب، بعد أكثر من 13 جولة انتخابية!ذلك بالتزامن مع الذكرى الثانية لأحداث الكابيتول، والانتكاسة الديمقراطية التى عاشتها أمريكا منذ عامين.
وعن القضية الفلسطينية، ومع التشكيل الأخير لحكومة نتنياهو - الحكومة اليمينية والأكثر تطرفا- واستعانته بكوادر يعرف عنها التزمت والتشدد الدينى، أبرزهم إيتمار بن غفير لتولى حقيبة الأمن الداخلى، فإن التخوفات من تصعيد الأزمة تصبح أشبه بالحقائق، فى ضوء الانتهاكات الإسرائيلية وما تعلق بالسياسات العقابية الأخيرة، تجاه القادة الفلسطينيين وسحب بطاقاتهم، مع تحويل المستحقات الفلسطينية وتقدر بـ 37 مليون دولار لمصلحة عائلات إسرائيلية، وإن تبقى الهدف الرئيسى هو التوسع فى عمليات الاستيطان.
ولأن اللعبة السياسية هى عملية مركبة من التغيرات والمفارقات، فلا أحد بإمكانه تدارك اتجاهاتها وانحرافاتها، وعليه تظل القراءات أعلاه عرضة للتغيير والاختلاف، وإن جاءت مضامينها فى إطار معظم المؤشرات المعاصرة.