السينما واحدة من الأدوات المهمة لتوعية الجمهور بقضايا البيئة المصيرية ودفع الناس للانتباه لاحتمالات النهايات الوشيكة، والعلاقة بين الفن والبيئة علاقة قديمة قدم الفن نفسه.. من البداية، الطبيعة حاضرة فى كل عمل فنى إن لم تكن هى العمل الفنى نفسه، لذلك تأثير الفن فى قضايا البيئة بات يشغل حيزا كبيرا من تفكير كل صناع الفن وعلى رأسها السينما.
فعن طريق الصوت والصورة، تستطيع السينما إيصال رسالة بيئية قوية إلى الناس، لا للتوعية فقط، بل للحث على العمل من أجل التغيير، تغيير العادات والمفاهيم التى تضر بكوكب الأرض الذى أوشك على الوصول إلى النهاية.
حقيقة، ليست مهمة الفن إيجاد حلول؛ إذ يكفيه عرض المشكلة، وطرح التساؤلات، والمساهمة فى تحريك القلق على المستقبل، لكن أيضا عليه – الفن- أن يكون حاضرا بقوة فى الإشارة إلى المخاطر.
الرسالة البيئية القوية التى تصل من خلال فن سينمائى محترف تدفع الناس إلى تغيير عاداتهم وتصرفاتهم، وإلى الانخراط فى العمل الاجتماعى للإسهام فى التغيير نحو مجتمع صحى أقل تلوثا، وتحول الجمهور إلى قوة ضاغطة للدفع نحو اعتماد خطط وإجراءات تحمى البيئة وتضمن التوازن لتحقيق التنمية القابلة للاستمرار.
تمثل السينما واحدة من الأدوات التى يتم اعتمادها لتوعية الجمهور بتلك القضايا المصيرية ودفع الناس إلى الانتباه لاحتمالات النهايات الوشيكة، وتسريع وتيرة فناء الكوكب بمن فيه بما كسبت وتصنع أيدى الناس.
فى الآونة الأخيرة، وتزامنا مع استضافة مصر لمؤتمر المناخ "cop27" أصبحت قضية البيئة حديث العالم أجمع، ومن القضايا المؤثرة فى حياتنا بشكل مباشر على المجتمع بجميع طبقاته، لذلك فإن تناول السينما المصرية لهذه القضية بات ضرورة ملحة لإيجاد حلول لقضايا البيئة، التى تشكل خطرا يهدد الحياة بأكملها.
قد يكون منطقيا هنا أن نتساءل: هل غابت قضايا البيئة عن السينما المصرية على مدار تاريخها؟
سؤال مهم بالتأكيد، لكن قبل الإجابة دعونى ألفت الانتباه أولا إلى واقعة لها دلالتها، الواقعة حدثت عام 2009 فى أثناء فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الـ 33، بطل الواقعة هو واحد من أشهر فنانى الكاريكاتير فى مصر، هو الفنان مصطفى حسين الذى أدار ندوة عن علاقة السينما بالبيئة، تناولت الوضع البيئى الخطير، وكيفية إسهام السينما فى التوعية بهذا الوضع.
الراحل الكبير مصطفى حسين قال نصا:"التلوث يهدد الحياة، وبسببه تزايدت أمراض عدة مثل السرطان وأمراض الجهاز التنفسى وغيرها، وأصبح أيضا هناك الجديد كمشكلات تلوث المياه، والهواء، والصرف الصحى، والمخلفات الزراعية، ما أسفر عن كل ذلك التحذير الدائم من قبل العلماء بأن الأرض مهددة بالفناء".
وطالب فنان الكاريكاتير الأشهر بتشجيع المنتجين السينمائيين على تسليط الضوء على قضايا البيئة فى أفلامهم، مع إيجاد قناة تصل بين العاملين فى مجال حماية البيئة والسينمائيين، وصولا إلى خلق سينما هادفة لخدمة قضايا البيئة وحمايتها، ونشر الوعى البيئى وتحفيز الجماهير على التعامل مع البيئة بشكل إيجابى.
نعود للسؤال: هل غابت القضايا البيئية عن السينما المصرية؟
لو كان المقياس الذى سنذهب إليه للإجابة هو فيلم عن تلوث البيئة مثل "فيلم إيرين بروكوفيتش" إنتاج عام 2000 المأخوذ عن قصة حقيقية لبطلة حقيقية بالاسم نفسه، سيدة من الطبقة البسيطة جدا تقوم بدورها الرائعة "جوليا روبرتس" التى تعمل فى مكتب محام، وتكتشف محاولات شركة ضخمة للطاقة التغطية على تلوث بيئى خطير، تسبب فى إصابة عدد من سكان إحدى المناطق التى كانت تلقى فيها الشركة بالنفايات السامة، وتقرر التصدى لهذه الشركة، وتنجح فى كسب واحدة من أكبر القضايا المدنية فى التاريخ الأمريكى ضد شركة من أضخم وأغنى الشركات، وبالمناسبة هذا الفيلم حقق أعلى إيرادات عند عرضه – 250 مليون دولار - وجوائز عديدة لجوليا روبرتس وللمخرج وترشيحات للجولدن جلوب وخمسة ترشيحات للأوسكار، ونالت جوليا روبرتس بالفعل جائزتى الأوسكار والجولدن جلوب عن هذا الفيلم.
لو أن هذا النموذج هو المقياس الذى نتحدث ونبحث عنه لفيلم مصرى يحذر من مخاطر البيئة، ستكون الإجابة بالطبع "لا".. لكن قبل أن نعتمد هذه الـ "لا" إجابة نهائية.. دعونى ألفت الانتباه هنا إلى نماذج – مجرد نماذج- فهذا ليس حصرا دقيقا، فمثل هذا الحصر يحتاج إلى دراسة متأنية وليس مجرد مقال.
نموذج مثل مشهد فيضان النيل فى فيلم "ابن النيل"، للمخرج يوسف شاهين، عام 1951 ومشاهد إقامة الأهالى للجسور، وهى تتكون من سدود طينية وخشبية كانت تقام لحجز المياه لعدم إغراقها البيوت والمنازل، وتستمر المشاهد فى إقامة مخيمات لمنكوبى الفيضان، حيث يقبع يحيى شاهين أو الشيخ إبراهيم مع المصابين، فيما تستمر فاتن حمامة التى أدت دور زبيدة زوجة شكرى سرحان فى البحث عن ابنها.
ويعد المشهد من أهم المشاهد التى دونت حكاية الفيضان وقوته فى التاريخ، بل قامت بتوثيق الفيضان، وحكاية الناس معه.
وقدم المخرج يوسف شاهين فى الفيلم بأدوات بدائية فى التصوير، مشهدا بارعا عن الفيضان وحكاية الناس مع فيضان النيل، واستفاد شاهين من حكاية فيضان 1946، حيث يعد من أقوى الفيضانات التى شهدتها مصر، بوصفه الفيضان الذى أحدث ضجة سجلتها صفحات الصحف والمجلات نظرا لكثرة وقوع الضحايا التى كانت تشبه إلى حد كبير فى عددها ضحايا فيضان عام 1887 الذى حمل الجثث من السودان والصعيد إلى القاهرة.
كانت مقاومة الفيضان منصبة على إقامة الجسور، وكانت تتكلف صيانتها أموالا طائلة كل عام، وهى الجسور التى حطمها الفيضان الكاسح ونشر الفيضان وقوته الرعب؛ ما دعا أحد الشعراء إلى كتابة قصيدة بعنوان وحى فيضان سنة 1946، وقام بنشرها فى مجلة الرسالة رقم 693، وأظهر الشاعر فى قصيدته الفزع والخوف اللذين أصابا المصريين من قوة الفيضان فى أغسطس، كما أظهر تشاؤمه، ما جعل كتابا وصحفيين يقومون بالهجوم على الشاعر، مفندين وجهة نظره بحجج تاريخية وجغرافية، مؤكدين أن الفيضان هو الحياة فى مصر.
مشهد الفيضان أعده من أول المشاهد التى حذرت من غضب الطبيعة، ودفع إلى التفكير فى كيفية التعامل معه، ولم يكن هذا هو المشهد الوحيد للنيل، فالحقيقة أن النيل كان حاضرا فى كل أعمالنا السينمائية تقريبا.
العمل الثانى الذى أراه، من وجهة نظرى، تناول قضية بيئية هو فيلم "خرج ولم يعد" إنتاج 1984، وللمرة الأولى والأخيرة يغادر المبدع الكبير محمد خان المدينة إلى الريف، وهو فى خروجه هذا يبنى كل حكايته على التضاد الواضح بين كابوسية المدينة وملائكية الريف، فمن المشهد الأول الذى نصاحب فيه بطل الفيلم "عطية" الذى قام به الفنان يحيى الفخرانى وسط شوارع المدينة ببيوتها المتهالكة وحواريها التى تملأها القمامة، وحتى المشهد الأخير الذى يقرر فيه أن يبقى فى الريف، تمتد يده جنبا إلى جنب مع يد خيرية "ليلى علوى"، ويتسع الكادر ليزداد اخضرارا، وتنساب موسيقى كمال بكير الهادئة والمبهجة، شعورا بالراحة والطمأنينة فى إيجاد المهرب.
يستخدم محمد خان وبشكل مباشر لفظ "الجنة" فى أكثر من مرة فى وصف إحدى الجناين داخل أرض العزيزية، ويظهر كمال بيه "فريد شوقى" ليحكى عن تجربته فى السفر لكل بلاد العالم لكنه لم يجد الراحة سوى هنا وسط الخضرة والطبيعة، ويغرى عطية بالبقاء فى الجنة بصنوف وفيرة ومتنوعة من الطعام والشراب، بالإضافة إلى فتاة جميلة تحبه وتهبه نفسها، ولكنه يريده فى النهاية أن يبدو كأنه مخير، وحينما يختار البقاء يسأله إذا كان هذا قراره دون ضغوط أو إغراءات من أحد، فيجيب عطية أن هذا هو القرار الأول فى حياته الذى يختاره بكامل إرادته.
يبدو الفيلم إذن، وإذا ما دققنا النظر فى تفاصيله، رحلة مهمة من رحلات البشر نحو البحث عن الراحة والطمأنينة، العودة للريف كانت بمنزلة الحل لكل التلوث السمعى والبصرى والبيئى التى عاش فيها "عطية" سنوات عمره كله يطارد أوهاما ويتحمل من أجلها كل هذا التلوث.
هل تتغير الإجابة الآن بنعم، قضايا البيئة لم تغب عن السينما المصرية، الحقيقة أيضا الإجابة ليست نهائية، فحتى لو وضعنا فى حسباننا عملين اهتما بالبيئة ومعهما أعمال أخرى، لكن التناول كان جزئيا وليس مباشرا، ويحتاج إلى الكثير من الوقت لربطه بقضايا البيئة، ولذلك فى النهاية أضم صوتى إلى صوت الراحل الكبير الفنان مصطفى حسين فى مطالبته بتشجيع المنتجين السينمائيين على تسليط الضوء على قضايا البيئة فى أفلامهم، مع إيجاد قناة تصل بين العاملين فى مجال حماية البيئة والسينمائيين، وصولا إلى خلق سينما هادفة لخدمة قضايا البيئة وحمايتها، ونشر الوعى البيئى وحفز الجماهير على التعامل مع البيئة بشكل إيجابى.