المقصود بالإعلام هنا ليس فقط وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وإذاعة وتلفاز فحسب، فتلك الوسائل المستخدمة لتوصيل الرسالة والخبر والرأي تخالجت مع بعضها بعضا منذ أول صحيفة عرفت فى روما القديمة قبل الميلاد بتسع وخمسين عاما التى كانت تعرف باسم Acta Diurnaأو "الأعمال اليومية"، والتى كانت تعنى بنشر الأخبار والأحداث وحالات الميلاد والوفاة والشائعات أيضا، بالطبع، كان النسخ يتم بصورة يدوية حتى أتى إلينا يوهان جوتنبرج باختراعه لآلة الطباعة عام 1440 ميلادية، وهو الاختراع الأهم فى تاريخ البشرية الذى أدى إلى انتشار المطبوعات وإنجازها فى زمن قياسي ولم يتبق إلا إشكالية واحدة أخرى خاصة بالتوزيع، وهى التي لم تتطور إلا بالدخول فى عصر الآلة وانتشار وسائل النقل الحديثة، حيث استمرت المطبوعات الورقية فى الانتشار والاعتماد كوسيلة وحيدة للإعلام، حتى بدأت الإذاعة فى الدخول على الخط بداية من عام 1893 بصورة بدائية بين منطقتين بمدينة ساو باولو البرازيلية وصولا إلى إذاعة عامة تجارية تدعى KDKA التى بدأت البث داخل الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920، ولم تلبث الأمور أن تطورت خلال ثمانية أعوام وتحديدا فى عام 1928 حينما تم إطلاق البث التليفزيونى الأول فى مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية أيضا.
استمر النقاش والجدال حول تفضيلات الجمهور لوسيلة عن أخرى، سواء بالاستغناء والاستبدال الكامل أو الجزئي مع انتشار الكثير من الدراسات التي تشير إلى مستقبل تلك الوسائل معا، خاصة بعد تطور أنظمة الاتصالات وإمكانيات البث المباشر للأحداث المهمة الأمر الذى استمر بوتيرة شبه ثابتة وبتوافق شبه مقبول بين تلك الوسائل الثلاث حتى دخل العالم فى الثورة الصناعية الثالثة -عصر المعلومات- وهو العصر الذى يتم التأريخ له بداية من عام 1969 وظهور شبكة المعلومات.
وتوالى الأمر على نفس درجة الاستقرار من حيث حجم الإصدارات المطبوعة، لكن مع تغيير فى أسلوب ونوعية المحتوى حتى منتصف التسعينيات حينما بدأت شبكة الإنترنت فى الانتشار وبدأت متصفحات الويب فى الذيوع والانتشار، مما حدا بوسائل الإعلام، خاصة الصحف والمجلات إلى إيجاد مساحة لها فى هذا العصر الرقمي الجديد، ربما قبل أن تبدأ وسائل الإعلام المسموعة والمرئية فى التحرك فى هذا الاتجاه أيضا، وهو تأخير ارتبط بضعف سرعات الاتصال بهذه الشبكة ومحدودية تطبيقات الوسائط المتعددة. هذا التحرك تدرج من انخفاض أعداد التوزيع للنسخ الورقية وصولا فى بعض الأحيان إلى انتهاء تلك الطباعة والاعتماد على النسخة الإلكترونية تماما مثلما حدث مع الإندبندنت عام 2016 على سبيل المثال مع تغير أسلوب التناول الصحفى بالتركيز على الرأي أكثر من الخبر.
استمرت الأمور شبه مستقرة ومنحصرة فى المواقع الإلكترونيةWebsites تقريبا حتى انتصف العقد الأول من الألفية الثالثة وظهر موقع اليوتيوب فى عام 2005 لعرض المقاطع المصورة المسجلة، وهو الذى تطور عام 2008 وأصبح يسمح بالبث المباشر من خلاله أيضا. حدث فى نفس الفترة تطورا كبيرا فى سرعات الربط مع شبكة الإنترنت والتحول من الاتصال بها من خلال خطوط التليفون إلى اعتماد تقنيات أكثر سرعة مثل الـ ISDN، وصولا الى الاتصال الحالى من خلال خطوط التليفون، ولكن بتقنية جديدة تسمى الـ ADSLالتى تسمح بسرعات تصل الى200 ميجا بت/ث وربما أكثر.
صاحب هذا أيضا تطور كبير فى سرعات أجيال اتصالات الهواتف المحمولة والذكية وصولا إلى نفس العام 2005 عندما بدأ الجيل الثالث 3G بسرعات تصل إلى 3 ميجا بت/ث ثم الجيل الرابع 4G فى عام 2010 بسرعات تصل إلى 300 ميجا بت/ث ثم الجيل الخامس 5G بسرعات تصل الـ 10 جيجا بت/ث، وهو تطور كبير تزامن مع انتشار الهواتف الذكية وتطبيقاتها، الأمر الذى سمح لقطاع اكبر من البشر للاتصال بشبكة الانترنت بصورة مستقرة وبسرعات كبيرة تسمح بتبادل الملفات الكبيرة ومشاهدة المواد الإعلامية المختلفة ما دفع كلا من محطات الإذاعة ومحطات التلفاز إلى إيجاد مساحة لها داخل هذا العالم الرقمى، بدأت بمجرد نشر مقاطع صغيرة، مما يذاع وصولا إلى وجود قنوات للبث المباشر تعرض كل المواد الإذاعية والتليفزيونية فى نفس وقت إذاعتها.
المرحلة التالية لوجود الإعلام التقليدى فى العالم الرقمي -كما سبق الإشارة- كانت الانتقال إلى مرحلة المدونات، وهى عبارة عن منتديات عامة تسمح لأى مستخدم من أن يكتب فيها ما يشاء من أفكار وآراء وأخبار وخلافه، حيث أصبح لهذه التطبيقات نجوم مشاهير – بلوجرز Bloggers- والشهرة تأتى من أعداد المتابعين لهم، ثم مع اختلاف أسلوب توصيل الأفكار من الكتابة إلى المقاطع المرئية تغير الاسم إلى فلوجرز Vloggers، ثم مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعى ودمجها لكل أدوات الاتصال تحول الاسم إلى "مؤثرين"، أو Influencers ويأتى هذا الاسم الذى أراه أقرب إلى توصيف الحال لأن ما يقومون ببثه من محتوى يراه عشرات أو مئات الألوف وربما الملايين ويتأثرون به تأثرا كبيرا ما دفع بعض من هؤلاء المؤثرين إلى التخصص فى تقديم بعض المجالات الفنية أو الأدبية أو الرياضية، وهو ما ساهم فى انتقال بعضهم من الواقع الافتراضى إلى الواقع الحقيقى ككتاب وصحفيين وفنانين وخلافه.
ظهرت ملامح الانتباه إلى أهمية العالم الافتراضى كوسيلة إعلامية مستقلة من خلال وجود جريدة أو محطة إذاعية أو تليفزيونية افتراضية بالكامل بدأت بصورة غير احترافية، ثم تطورت مع الوقت، خاصة مع زيادة عدد المتابعين ما أسس لعصر جديد قائم على استغلال هذا الإقبال للترويج للسلع والخدمات من خلال الإعلانات الإجبارية التى يشاهدها المتابعون، ثم تطور الأمر أيضا إلى قيام صناع المحتوى بعمل مستويين من مستويات المحتوى الرقمى أولهما مجانى قائم على الإعلانات وذيوع الانتشار، والآخر قائم على الاشتراكات Subscriptions، مما يتيح محتوى رقميا خاصا يدر دخلا إضافيا، وهو المبدأ الذى تعمل به أغلب المنصات الرقمية الإعلامية الآن.
ويتوقع الخبراء وجود أكثر من سيناريو لما قد يحدث لتلك المنصات، أولها، أن يسيطر على البث عدد محدود من المنصات الرقمية، المحلية والعالمية، وتختفى أساليب البث الحالية من راديو وتليفزيون تماما، حيث يتم التواصل مباشرة بين مالكي المحتوى والمنتجين مع تلك المنصات لعرض ما لديهم من محتوى من خلالها مباشرة.
السيناريو الثاني، أن يمتنع أصحاب المحتوى عن مشاركته مع المنصات الكبرى ويقوم كل منهم بإنشاء منصة رقمية خاصة به مع إبقاء إمكان البث بالأساليب التقليدية متاح أيضا مع وجود مميزات للبث الرقمي، مثل تخصيصه ببرامج معينة هذا، بالإضافة إلى ميزة الاستدعاء المباشر واختيار المواد المحببة وإلغاء بعض الخصائص المزعجة، مثل مساحة الإعلانات أو اختفاءها تماما.
السيناريو الثالث، أن تقوم هيئات البث مباشرة بعمل منصات رقمية خاصة بهم بعد حصولهم على ترخيص من أصحاب المحتوى مع الإبقاء على الأساليب التقليدية وربما أيضا استمرار الإتاحة للمنصات الرقمية الكبرى.
السيناريو الرابع والآخير، هو الأكثر تعددا، حيث يتاح للجميع أن يعمل، جنبا إلى جنب فنجد منصات رقمية لأصحاب المحتوى ومنصات رقمية لهيئات البث بالإضافة إلى البث التقليدي والمنصات الرقمية الكبرى كما هو الحال الآن.
وبغض النظر عن أي من تلك السيناريوهات سيسود فى المستقبل، فإن العجلة قد بدأت فى الدوران فى هذا الاتجاه، وهو ما يلزمه الانتباه وسرعة المتابعة والتحرك فى كل مكان بناء على ظروفها وحجم الرقمنة بها.