يشهد العالم مرحلة حرجة تتصاعد فيها التوترات بصورة متسارعة علي ضوء تطورات الحرب الأوكرانية. ففي 24 فبراير من العام الجاري أمر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بتدخل من قبل القوات المسلحة الروسية فى أوكرانيا، التي قامت بهجوم كاسح وعنيف من كافة الجهات، والذي ما زال مستمرا حتي كتابة هذه السطور. علي ضوء ذلك تسارعت مراكز البحوث والدراسات السياسية في العالم لتفسير هذه الحرب التي تشكل أكبر أزمة دولية منذ نهاية الحرب الباردة في بداية التسعينيات، وحول المسارات والسيناريوهات التي يمكن أن تئول إليها، وباتت تطرح تحديا جادا وحقيقيا للنظام الدولي أحادي القطبية التي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
علي ضوء هذه الأزمة وانعكاساتها الدولية والإقليمية والتحولات الاستراتيجية في بنية وهيكل النظام الدولي، وعودة الحديث مرة أخرى عن الحروب التقليدية في العلاقات الدولية وعودة ما يمكن أن نطلق عليه مراجعة دولية لتوزيع القوة في النظام الدولي وإعادة النظر في ترتيبات ما بعد الحرب الباردة، والتحولات والأحداث السياسية وتراكم تداعيتها وتقليص إمكانيات حلها، تشكل هذه التحديات علي المستوي النظري مآزق عدة، تتنافس النظريات الكبرى من أجل حلها ووضع تفسير لدوافع أطراف هذه الحرب، لاسيما أنه وبرغم التقدم الروسي في الأيام الأولي من الغزو تبدو الحرب متكافئة من حيث حجم الخسائر، بالنظر إلى الدعم الغربي والحصار الاقتصادي والسياسي الذي تواجهه روسيا من الدول الغربية التي ترفض السلوك الروسي في شرق أوروبا وتصف "فلاديمير بوتين" بأنه "مجرم حرب" في ازدواجية واضحة للمعاير الحقوقية والديمقراطية في الغرب.
ينطلق هذا التحليل من نقطة رئيسية هي كيف تتحول علاقات الصداقة والتعاون إلى علاقات عداء وحرب بين الدول؟ ولماذا كان غزو أوكرانيا أمرا ممكنًا؟ وهل كانت روسيا ستقوم بغزو أوكرانيا إذا كان نظام فيكتور يانوكوفيتش ما زال في السلطة؟ وكيف شكلت هوية زيلينسكي مصدر أزمة وسبب لغزو بلاده؟ في ظل الهيمنة الواقعية لتفسير الحرب الروسية - الأوكرانية منذ اندلاعها، نطرح منظورًا مغايرًا، وهو التفسير البنائي، الذي نحاول من خلاله وضع تفسير للحرب انطلاقًا من هوية الفاعلين ودورها في تشكيل وإعادة تشكل المصالح الروسية-الأوكرانية.
علي عكس النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، وهي النظرية المهيمنة في هذا الحقل، والتي تركز علي فوضوية النظام الدولي وافتراضاتها عن ديمومة هذه الفوضى، وأن الدول هي الجهات الفاعلة في النظام الدولي، وأن هذه الجهات الفاعلة متشابهة باستثناء ما يتعلق بمقياس القوة، وإهمال الأبعاد الثقافية وسياق التفاعلات، وبالتالي فإن التغير في الموقف الروسي واتخاذ قرار الحرب مردَّه الي طبيعة النظام الدولي الذي يقوم علي التنافس والصراع علي القوة والهيمنة والدفاع عن النفوذ.
المقاربة البنائية التي نتبناها تستبعد الفكرة القائلة إن الدول والتهديدات هي ظواهر مسلمًا بها وموضوعية، وبدلا من ذلك تركز علي كيفية بناء الهويات والأفعال من خلال عملية التفاعل التي تنتج المعني الاجتماعي للأحداث وتصنيفاتها (صديق/عدو)، فالمشكلة تتعلق بكيفية تعامل الدول مع بعضها بعضا وتعريفها لنفسها وتعريفها للآخر، وعكس الواقعية التي تركز علي الطبيعة التنافسية للدول في حالة الفوضى، فإن البنائية تركز علي أن الفوضى هي ما تصنعه الدول من الفوضى. فقبل عام 2014، كانت روسيا صديق وحليف لأوكرانيا وتربطهم علاقات تعاون وكان ينظر إلي أوكرانيا من قِبل موسكو علي أنها جزء لا يتجزأ من الاتحاد السوفيتي السابق، حتي بعد انهيار الأخير. بعد عام 2014، تغير الأمر وأصبح ينظر إلى أوكرانيا قوة معادية تشكل تهديدًا وجوديًا، وعلي هذا النحو انخفض حجم التبادل التجاري والتنسيق السياسي وباتت أوكرانيا علي أعتاب حلف شمال الأطلسي، أكبر قوة معادية لروسيا في العالم.
لم تتغير الجغرافيا السياسية، ولم يتغير التاريخ الأوكراني، فضلاً عن استمرارية الفوضى الدولية والنظام الدولي بتفاعلاته وديناميكيته، فما الذي تغير؟! المتغير الأساسي هنا هو هوية النخبة والقيادة السياسية في البلاد، التي أعادت تأويل وتعريف المصالح الأوكرانية بواسطة الهويات الذاتية، ومن ثم أصبح الأصدقاء أعداء (روسيا) والأعداء أصدقاء (الناتو) وينبغي مساندة الأخير ودعمه والانفكاك من الأول.
مشكلة الهوية في أوكرانيا:
أوكرانيا هي واحدة من الدول المستقلة حديثة عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وقبل هذا التاريخ كانت ضمن دول الاتحاد السوفيتي السابق الذي تهيمن عليه روسيا، وكسائر الدول المستقلة حديثًا تعاني أوكرانيا من مشكلات مختلفة وأزمة هوية عميقة. فعلي مدار سنوات ما بعد الاستقلال لم تستطع النخب الأوكرانية تطوير هوية وطنية متماسكة وصلبة للأوكران، الفشل في بناء هذه الهوية الوطنية المتماسكة خلق من أوكرانيا دولة منقسمة سياسيًا وثقافيًا ولغويًا. وكان لهذا الانقسام صداه في جغرافيا البلاد، فالأجزاء الغربية من البلاد تاريخيًا أكثر توجهاً نحو أوروبا والغرب وتنظر إلى حقبة الاتحاد السوفيتي علي أنها مرحلة دخيلة علي الشعب الأوكراني ذو الأصول الأوروبية، بينما الأجزاء الشرقية موجهة نحو روسيا وأغلب سكانها يتحدثون الروسية، وينظرون إلى إرث الاتحاد السوفيتي بشكل من الفخر والاعتزاز. في نفس الوقت، ومع ذلك، فإن أهمية هذه الحقائق لا يتم الاعتراف بها دائما من قبل الذين يحاولون تفسير الحرب الروسية-الأوكرانية من مقاربات واقعية.
مثَّل عام 2013 بداية الأزمة الحقيقية التي شكلت المراحل التمهيدية لهذه الحرب، ففي خريف هذا العام اندلعت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية في ساحة كييف المركزية، ردّاً على قرار الرئيس الأوكراني "فيكتور يانوكوفيتش" بعدم التوقيع على اتفاقية الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، تحولت هذه الحركة الاحتجاجية الي مظاهرات واسعة، أدّت إلى الإطاحة بحكومة يانوكوفيتش في فبراير2014، في ذلك الحين سيطر ائتلاف من السياسيين الموالين للغرب على البلاد وشكلوا حكومة انتقالية (مرحلية)، في حين فرّ الرئيس "فيكتور يانكوفيتش" ونخبته إلى روسيا.
شكلت هذه الأحداث هزيمة جيوسياسية كبيرة بالنسبة لروسيا، نظرًا إلي أهمية أوكرانيا كواحدة من أكبر دول الاتحاد السوفيتي السابق التي تشكل حدًا فاصلا بين دول الناتو والاتحاد الروسي، ولكن روسيا لم تشعر بهذه الخسارة إلا بعد تصويت البرلمان في الحكومة الجديدة علي مشروع قرار يلغى الوضع الرسمي للّغة الروسية، وهي الخطوة التي تشكل تهديدا استراتيجيا لروسيا وهزيمة جديدة بعد سقوط حكومة يانكوفيتش، أكبر حتي من انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي نفسه، فخطوة كهذا تعني تغيرًا بعيد المدى في هوية المنطقة الشرقية من أوكرانيا المتاخمة للحدود الروسية، والتي يتحدث أغلب مواطنيها الروسية، وتعني نهاية للهيمنة والنفوذ الروسي التي تشغل اللغة والثقافة الروسية أدوات قوتها الناعمة في دول الاتحاد السوفيتي السابق من أجل الحفاظ علي سيطرتها علي هذه الدول، الذي فسرته موسكو بأن السكان ذوي العرق الروسي في شبه جزيرة القِرم وشرق أوكرانيا كانوا معرضين لخطر محدق وسارعت بضم القرم ودعم الانفصالين في شرق أوكرانيا. ولاحقا فيما بعد الاجتياح العسكري ساهمت استجابة الجماهير في التقدم السريع للقوات الروسية في المنطقة الشرقية.
أمة منقسمة:
الاختلافات اللغوية والثقافية والدينية عميقة لدرجة يصعب فيها الحديث عن بلد موحد بل بالأحرى يمكن الحديث عن بلد مقسم. التنوع الثقافي والعرقي ليس هو المشكلة علي وجه التحديد، ولكن المشكلة هي حين تكون تلك الاختلافات عميقة، وحين ترتبط بصراع أكبر، وهو صراع المحاور الدولية علي النفوذ والسيطرة، فالسبب الثاني الذي أعلنته روسيا في غزو أوكرانيا هو " محاربة النازية الجديدة"، وهي تقصد بذلك حكومة زيلينسكي الليبرالية، والتي منذ وصولها إلى السلطة شنت هجومًا ضد اللغة والثقافة الروسية، ليس فقط هذا السلوك هو ما شكل أسس الموقف الروسي من التفاوض وقرار الحرب، ولكن الاختلافات الثقافية والفكرية والعقائدية أيضًا هي ما جعل التعاون والتفاهم والوصول إلى اتفاق تسوية أو وضع حل للمشكلات العالقة أمرًا معقدا وغير ممكن، بل وزاد من وتيرة النزاع والصراع الإقليمي في شرق أوروبا.
فشلت القيادات السياسية في أوكرانيا في خلق هوية وطنية مشتركة مقبولة من الغالبية الأوكرانية يمكن أن تسهم في استقلال البلاد بعيدًا عن التجاذبات السياسية والأيديولوجية، ما أدي لزيادة التوترات وفشل الجهود الثقافية الرامية إلى "أكرنة الأوكرانيين"، في ظل هذا الانقسام الحاد أصبحت الحرب ممكنة والفرص سانحة للحصول علي مكاسب وضمانات أكبر لموسكو.
النخب السياسية وتشكيل المصالح:
من خلال النظرية البنائية التي تتميز بكونها واحدة من النظريات التي تركز علي (الهوية والمعايير والثقافة والأفكار واللغة والمعرفة والأيديولوجيا) لتفسير كيفية صياغة المصالح وتشكيل القوة، وكذلك صنع السياسة الخارجية للدول، تؤثر الأبنية غير المادية علي ما يري الفاعلون (الدول) أنه ممكن، وكيف ينبغي أن يتصرفوا (صناع القرار) لتحقيق أهدافهم ومصالحهم الخارجية، استنادًا إلي هوية النخب ونسقها الفكري ورؤيتها لهوية الدولة. من خلال ذلك، يكمن فهم التغييرات الأساسية التي تحدث في السياسات الخارجية للدول، وهو الجسر الذي تقيمه البنائية لفهم التغيرات الأساسية في السياسة الخارجية الأوكرانية من خلال العلاقة بين الهوية وتحديد مصالح الدولة.
فأثناء حكومة "فيكتور يانكوفيتش" كان التقارب الروسي-الأوكراني في أوجُّه، وكان ذلك علي حساب التقارب مع الاتحاد الأوروبي، وهكذا لعبت هوية النخبة والقيادة السياسية دورًا رئيسيًا في تشكيل المصالح الخارجية لأوكرانيا، فيانكوفيتش الذي ينحدر من أصول روسية رأى في التقارب الروسي مصلحة أوكرانية، وزيادة هذا التقارب علي المستوي التجاري والاقتصادي والسياسي والثقافي هو ما يحتاج إليه بلاده. علي عكس حكومة "زيلينسكي" التي رأت في التقارب مع الاتحاد الأوروبي والشراكة معه والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإلغاء اللغة الروسية والانفكاك من هيمنة ونفوذ موسكو هو ما يشكل قلب مصالح أوكرانيا. وهكذا، تغيرت العلاقات والمصالح ليس استنادًا علي شىء، إلا علي أفكار وهويات ومعتقدات صانع القرار، الذي قاد في نهاية المطاف إلى تدمير البنية التحتية لأوكرانيا وتشريد شعبها.
الأفكار والثقافة والمعتقدات:
تعتمد التغييرات على المعتقدات والأفكار التي تتبناها الدول من خلال الوكلاء، وإذا تغيرت هذه المعتقدات والأفكار، يمكن أن تتغير علاقات العداء إلى علاقة صداقة وتعاون، وبالتالي يمكن فهم التعاون والصراع استنادًا إلى المعنى الذي يعطيه الفاعلون تجاه بعضهم بعضا، ورغم فوضوية النظام الدولي إلا أن البنائية تجادل بأن الفوضى هي ما تصنعه الدول منها، هذا يعني أنه يمكن تفسير الفوضى بطرق مختلفة اعتمادًا على تأويلات الفاعلين لها. فعندما أعادت روسيا النظر في معتقداتها وأفكارها من خلال الوكلاء (فلاديمير بوتن) حول أوكرانيا قررت ضم شبه جزيرة القرم ودعمت الانفصاليين في شرق أوكرانيا واعترفت بجمهوريتي دونيتسك ولوجانيسك انتهاءً بالهجوم على البلاد بالكامل، فالاعتقاد بأن أوكرانيا هي دوله حليف وصديق في ظل حكومة يانكوفيتش، وبناء تصورات حول ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الأوكراني استنادًا علي هذا الأساس قد تغير بوصول "زيلينسكي".
إجمالا، يمكن القول إن الهويات والأيديولوجيات هي ما تشكل المصالح ويحدد تصرفات وسلوك الدول، وبالتالي فإن السؤال حول مدي جدوي المقولات التي تفترض أن الدول متشابهة، وهي تتسم بالعقلانية والرشادة في سلوكها متبعة مصالحها الذاتية المتعلقة بالسعي نحو زيادة القوة والثروة والاعتماد علي الذات في ظل الفوضى بات ملحا في ضوء الحرب الروسية–الأوكرانية، التي أثبتت أن هويات القيادة السياسية والنخب يمكن أن تشكل انفراجات ويمكن أن تقود إلى التأزم والحرب، ويمكن أن تورط بلدانها في حروب وصراعات لا قبل لها بها، وأن الانشقاقات الداخلية العميقة التي تتعلق بالهوية الوطنية والتوافق هي ما تجعل احتلال بلد ما أمر ممكن لباقي الدول، وليس فقط مقاييس القوة المادية، وأن المصالح الدولية يمكن التوفيق بينها وتجنب الحرب والصدام شرط توافر بيئة من التقارب الثقافي يمكن أن تسهم في بناء التوافق، إذا ما نجحت الدول وعبر وكلائها من إعادة النظر في مفاهيمها حول فهم الفوضى الدولية وتوظيفها في مصلحة السلام لا الحرب.