أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوات تابعة له "بحفظ السلام" في منطقتي دونيتسك ولوهانسك الشرقيتين اللتين تقعان فى إقليم دونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، ويسيطر عليهما الانفصاليون، بعد الاعتراف الروسى بهما يوم 22 فبراير الفائت بوصفهما جمهوريتين مستقلتين، وبذلك يعاد رسم الخريطة الأوكرانية. وقد انتشر أكثر من 150 ألف جندي من القوات الروسية في نطاق 9 إلى 19 ميلا (15-30 كم) بالقرب من حدود الأوكرانية.
ويشهد إقليم دونباس منذ عام 2014، أى أكثر من ثماني سنوات نزاعا مسلحا عنيفا بين القوات الحكومية وميليشيات محلية مدعومة من روسيا. تجدر الإشارة إلى أنه يوجد في دونباس أحد أكبر احتياطيات الفحم في أوكرانيا، وقد كانت المنطقة إحدى أهم مراكز الصناعات الثقيلة في الاتحاد السوفيتي السابق. كما كانت أوكرانيا قد اعترفت بالوضع الخاص لمنطقة دونباس في اتفاقية مينسك، ووافقت على منحها المزيد من صلاحيات الحكم الذاتي. وفي استفتاء نظم عام 2014 ، أيد الناخبون في القرم الاتحاد مع روسيا[1].
لكن هذه النتيجة كانت محل خلاف إقليمى وعالمى. فقد فرضت الولايات المتحدة ودول غربية عقوبات على روسيا بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم. لكن روسيا أصرت على أن ضمها لشبه الجزيرة، كان وفقا للخيار الشرعي لشعب القرم، وأنها لم تلعب دورا في صراع دونباس. وبناء على ذلك، استمر الخلاف بين روسيا وأوكرانيا حول وضع الاستقلال الذاتي في دونباس والانتخابات المحلية المدرجة في اتفاقية مينسك. وفيما تتهم روسيا أوكرانيا بانتهاك اتفاقية مينسك، وقمع ذوي الأصول الروسية في دونباس[2]. تتهم كذلك حلف الناتو بممارسة "نشاط استفزازي" في منطقة البحر الأسود، وطالبت الناتو باستبعاد أوكرانيا ورفض انضمامها إليه بشكل نهائي ودائم.
اقتصاديا؛ عندما انهار الاتحاد السوفيتي السابق، احتفظت روسيا بأكبر احتياطيات الغاز في العالم، لكن أوكرانيا ورثت خطوط الأنابيب. ومنذ ذلك الحين، اختلف البلدان حول هذا الإرث. لذا تصر روسيا على مشروع نورد ستريم2 لنقل الغاز الطبيعي بطول 1200كم، يمتد من غربي روسيا إلى ألمانيا تحت بحر البلطيق[3].
والآن، قامت روسيا ومعها قوات بيلاروسية بغزو أوكرانيا، وسط أجواء أوروبية وغربية حذرة. هذا بالرغم من أنه قد استؤنفت المحادثات الرباعية ضمن "صيغة نورماندي" في يناير من الشهر الفائت كما أن جهود منظمة الأمن والتعاون في أوروبا[4]لم تسفر عن شئ لاحتواء الصراع. فيما يرى الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي أن بلاده لم تتلقى الدعم الغربى الكافى حتى الآن. برغم أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد عزز من وجوده في أوروبا الشرقية، ونشر سفنا وطائرات حربية إضافية وقوات النخبة الأمريكية 82 المحمولة جوا، والمتخصصة في الاستجابة السريعة لحالات الطوارئ في الأزمات في أي مكان في العالم[5].
ما يحدث قد يعرض الأمن الأوروبى بالكامل للخطر. فيما تباشر الدول الأوروبية الكبرى خاصة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا حملات وساطة دبلوماسية وتنديدات مكثفة وتعهدات بتطبيق عقوبات موجعة على الروس. فكيف يمكن فهم وتفسير الغزو الروسى لإوكرانيا؟ وما طبيعة المواقف الدولية ما بين التحالفات المؤيدة والمنددة للعملية العسكرية الروسية؟ وما سيناريوهات تطور المواقف الغربية الرافضة بالطبع للتمدد وإعادة التموضع الروسى خارج خط التماس وفقا لاتفاقية مينسك عام 2015؟.
أولا- الغزو الروسى والعملية العسكرية شمالا وجنوبا وشرقا:
أطلقت روسيا ما سماه الرئيس فلاديمير بوتين "عملية عسكرية خاصة" في دونباس، وقالت وزارة الدفاع الروسية إنها تستهدف البنية التحتية العسكرية والدفاع الجوي والقوات الجوية بـ"أسلحة عالية الدقة"، منهية بذلك أسابيع من التكهنات حول نوايا روسيا في أوكرانيا. فيما سبق ذلك تعرض مؤسسات حكومية أوكرانية لهجوم سيبراني شل العديد من خدماتها.
وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تطبيق الأحكام العرفية وقال إنه سيوفر أسلحة لكل من يريدها معلنا بذلك التعبئة الشعبية، وذلك بحسب وسائل الإعلام الحكومية في أوكرانيا، وتشجيع الأوكرانيين على الانضمام إلى وحدات الدفاع.
فقد بدأت روسيا عملية عسكرية واسعة النطاق في أوكرانيا على الرغم من التحذيرات الغربية والتهديد بفرض عقوبات غير مسبوقة على موسكو. وأفادت التقارير بوقوع ضربات صاروخية وتفجيرات في العاصمة الأوكرانية كييف ومدن أخرى، وسط أنباء عن سقوط العديد من القتلى[6].
فيما أوضحت تقارير أوكرانية أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تشهد تطورات ميدانية سريعة، إذ أن الدبابات الروسية دخلت بالفعل في خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا على بعد نحو 25 ميلا من الحدود الروسية. كما تتعرض العاصمة كييف لضربات بصواريخ، وكذلك رصدت تحركات للقوات الروسية في أوديسا جنوب أوكرانيا.
كما تكبد الجيش الأوكراني خسائر كبيرة على الحدود الجنوبية بالقرب من جزيرة القرم، وذكرت تقارير بحسب حرس الحدود الأوكرانى إلى أن حصيلة قتلى الجيش الأوكراني 53 جندى. وهناك خسائر عسكرية مؤكدة على طول الحدود الجنوبية مع شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا فى العام 2014. فيما تستخدم القوات المسلحة الروسية أنظمة صواريخ ومروحيات لمهاجمة المواقع الأوكرانية في الجنوب. وذكر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين في خطاب متلفز للشعب الروسي أن العملية العسكرية تهدف إلى "نزع السلاح" من أوكرانيا. ويشار إلى أن بيلاروسيا قد نفت مشاركتها في الغزو الروسي لأوكرانيا[7].
ثانيا- المواقف الدولية وانقسام التحالفات ما بين التنديد والتأييد:
نددت إدارة بايدن بالهجوم الروسي وتسعى إلى حشد الإدانة الدولية، ويبدو هنالك تباطؤ فى الرد الأمريكى والغربى. فيما صدرت تصريحات عن مسئولين فى الإدارة الأمريكية أن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات تصعيدية في حال أقدمت روسيا على المزيد من التصعيد. كما تبحث الإدارة الأمريكية مع الأمين العام للناتو هجوم روسيا المتعمد وغير المبرر على أوكرانيا، من أجل تكوين جبهة متحدة في الرد على روسيا وتعزيز جبهة حلف الأطلسي الشرقية.
وأعلن الاتحاد الأوروبي أن أوروبا ستقدم على تطبيق عقوبات غير مسبوقة تؤدى إلى عزل روسيا. فيما أصدر الاتحاد قائمة بكبار المسؤولين الروس الذين فرض عليهم عقوبات. وتشمل القائمة وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، ووزير الاقتصاد مكسيم ريشيتنيكوف، والقائد العام للبحرية الروسية وكذلك القائد العام للقوات البرية الروسية. كما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مارجريتا سيمونيان، رئيسة تحرير شبكة روسيا اليوم الإخبارية التي تصدر باللغة الإنجليزية.
كما تلقى زعماء الاتحاد الأوروبي دعوة لحضور قمة استثنائية في بروكسل اليوم 24 فبراير لمناقشة الأزمة. وفي رسالة إلى أعضاء المجلس الأوروبي، قال الرئيس شارل ميشيل: "الأعمال العدوانية التي تقوم بها روسيا تنتهك القانون الدولي وسلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها. كما أنها تقوض النظام الأمني الأوروبي"، من جانب آخر يذكر أنه في مداخلة له عبر الفيديو خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، انتقد وزير الخارجية الصيني وانغ إن ضمنيا حلف شمال الأطلسي، معتبرا أن "أمن منطقة ما لا يمكن تحقيقه بتعزيز التكتلات العسكرية" في إشارة منه إلى مساعي حلف الناتو للتوسع شرقا. وترى الصين في سياسة الغرب تجاه تايوان تدخلا مشابها لما تتّهم به موسكو الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في أوكرانيا[8]. لذا يلوح فى أفق الأزمة بروز الحلف بين موسكو وبكين الذى يهدف إلى تغيير القواعد القائمة في العلاقات الدولية.
ختاماً، برغم أن الرئيس بوتين أكد عدم سعيه لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية، غير أنه أدخل العالم عمليا فى أخطر مرحلة منذ الحرب الباردة. كما أن تحالفه مع الصين يؤجج مخاوف الغرب من استقطابات بتداعيات بعيدة المدى على العلاقات الدولية.
إذ يتثور مخاوف غربية من أن الغزو الروسى لأوكرانيا ومن قبله، خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن فيه الاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا كدولتين مستقلتين، بمثابة إعلان حرب ولحظة تحول أساسية ليس فقط على صعيد الأمن الإقليمى لأوروبا وإنما كذلك على مستوى العلاقات الدولية، قد تؤسس لحرب باردة جديدة ذات تداعيات جيوسياسية غير محسوبة العواقب.
غير أن التحالف الصيني الروسي ليس بالضرورة بتلك الصلابة التي يوحي بها، إذ يبدو فيه بوتين، وفق بعض التحليلات الشريك الأضعف اقتصاديا. وعربيا وخاصة بالنسبة لأمن الخليج فإن أى تدخل عسكرى أمريكي لصالح أوكرانيا، ربما يعرض القواعد الأمريكية في الخليج للهجوم.
الهوامش:
[1]بول كيربي، روسيا وأوكرانيا: لماذا تأمر موسكو قواتها بالدخول إلى أوكرانيا وماذا يريد بوتين؟، bbcعربى، 8 ديسمبر 2021، فى: https://www.bbc.com/arabic/world-59450489
[2]روسيا وأوكرانيا: ماذا نعرف عن منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين؟، bbcعربى، 24 فبراير 2022، فى: https://www.bbc.com/arabic/world-60494643
[3]بدأت أعمال إنشاء خط "نورد ستريم 1" عام 2011، واكتملت في العام التالي. وبدأ إنشاء خط "نورد ستريم 2" عام 2018، واكتمل في عام 2021.
[4]التجمع الدولي الأمني أو المنظمة الأمنية الوحيدة في العالم التي تربط بين كافة دول أوروبا وأمريكا الشمالية.وقد أصبحت المنظمة بمثابة منصة دبلوماسية مهمة في حل الصراعات الجيوسياسية الكبرى في أوروبا وآسيا الوسطى، بما في ذلك تخفيف التوتر بين روسيا الإتحادية والولايات المتحدة.
[5]روسيا وأوكرانيا: خمسة جوانب محورية لفهم الأزمة بين البلدين، bbcعربى، 22 فبراير 2022، فى: https://www.bbc.com/arabic/world-60389852
[6]روسيا وأوكرانيا: بوتين يعلن بدء عملية عسكرية وأنباء عن سقوط قتلى، bbcعربى، 24 فبراير 2022، فى: https://www.bbc.com/arabic/world-60502250
[7]فلاديمير بوتين يعلن عن "عملية عسكرية خاصة" في دونباس، وسماع انفجارات قرب مدن كبرى في أوكرانيا، bbcعربى، 24 فبراير 2022، فى: https://www.bbc.com/arabic/live/60505235