معلوم أن الخيال أو القدرة على انتزاع شتى الصور الذهنية من الواقع واستحضارها والتصرف فيها، يعد من المواهب التي يمتاز بها الإنسان على سائر الأحياء، ويمتاز بها النابغة على سائر الناس.
ومعلوم أيضًا أن رُقي العلم رهين برقي الخيال الإنساني، فاتساع دوائر الإبداع الفنية، على سبيل المثال، متصل باتساعه، وهو الذي كان بين الجماعات الأولى مصدر تلك الأساطير والأوهام التي سادت بينهم، كما أنه مصدر ما تغص به اللغات من مجازات وتشبيهات، بها تتسع جوانب اللغة وجوانب التفكير معًا أيما اتساع، ولولا الخيال لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر في حالة موات وسكون ممل.
وعندما تنطلق أمة وتغير من واقعها وتخرج من عزلتها وتبسط سيادتها وتذهب إلى التحضر والتثقف، تتسع أذهان أبنائها ويترامى خيالهم ويتصوروا من الحقائق والمعاني والممكنات ما لم يكونوا يتصورون حدوثه، ويحلق أهل الإبداع في أجواء الخيال وآماد الماضي والمستقبل، مبتعدين عن دواعي الحاضر الحاذبة ومجالاته الضيقة، ولا يبلغ المبدع والفنان أوج رقيه حتى يرتقي الخيال فيه أروع ارتقاء، وحتى يشغل أكثر جوانبه.
هذا ما يؤكد عليه فكر الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط، الذى حدثنا عن أهمية الخيال والمخيلة فى بناء المعرفة، ولا شك فى أن هناك حاجة كبيرة للاهتمام بتنمية القدرة على الخيال وإطلاق ملكة المخيلة لدى الناس.
لذلك، ينبغي توجيه المواطن إلى إعمال وتفعيل طاقة الخيال الإيجابية، واختراع رؤى للأحلام، والذهاب بها إلى دنيا الواقع والتطبيق، وتطبيقها عمليًّا وتنفيذها على أرض الواقع، وهو ما يساهم في فتح آفاق الغد المرتقب أمام الفرد، وتعزيز ثقته بنَفْسه ومُجتمعه، وتجنيبه المرض بعلل الإحباط واليأس.
نعم، فعِندما يَغرق المجتمعُ الإنساني في الخطابات الحنجورية، يفتقد مواطنيه التحقق المعرفي، ويغيب عنهم الخيال الاجتماعي، الذي يقوم على التفكير النقدي العلمي للأحداث السياسية، والتحاور مع أصحاب الأنماط الفكرية التي تتحكَّم بالسلوك الفردي والجماعي، والتي تمكنهم في النهاية من المساهمة في طرح رؤى إبداعية جديدة.
هذا الأمر تؤكده مقولة ألبرت آينشتاين: "الخيال أهم من المعرفة. فالمعرفة محدودة حول ما نعيه ونفهمه، بينما الخيال يشمل العالم وكل ما سيكون هناك لنعيه ونفهمه مستقبلًا"، وهو ما طرحه الكاتب العربي "سعود كابلي" إلى الذهاب إلى فكرة أن ما عرف بالربيع العربي طرح هذا التساؤل من خلال الصدمة التي أحدثها، فسياسيا يمكن القول إن الربيع هو نتاج قصور كبير في المخلية السياسية العربية، وهو القصور الذي دفعنا -وما نزال- ندفع أخطاءَه. عجْز العقلية العربية عن تنمية الخيال السياسي (Political Imagination)لديها، وهو ما جعلها ضعيفة أمام تحديات واقعها، وعن فهم واقعها نفسه، فلم تتمكن من توليد رؤى استشرافية للمستقبل تواجه بها هذه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء. هذا الجمود في الخيال السياسي العربي جعل السياسات قاصرة لا ترى سوى موطئ قدمها، وفي أغلب الأحيان متأخرة في المنافسة مع الأمم الأخرى.
لا شك فى أن العائق الأهم أمام الخيال السياسي هو تفكير البعض وإعمال العقل في الاتجاه السلبي بتضييق حدود إعمال الخيال السياسي في مواجهة الأزمات والتحديات التي تتوالى على منطقتنا العربية، فضلًا عن الأزمات التي يعانيها العالم، ومنطقتنا في القلب منه.
لا بد من دعم ومؤازرة من ينادون بتنشيط آليات الخيال السياسي المنتج للمزيد من الرؤى الإبداعية، والمؤسس لمناهج فكرية جديدة في مواجهة أزمات التراجع في البحث العلمي والتعليم والأمية وزيادة النسل والتحديات الاقتصادية والاجتماعية. وعلى صعيد السياسية الخارجية، فالخيال أيضا قد يتيح لنا رؤية تدفع بمصالحنا بشكل أكبر وأعمق مما هي عليه بدلًا من مجرد السعي للاستمرار العبثي أو التمترس التقليدي عند العمل بالأنماط السائدة. فالربيع العربي جاء كبركان طائش غيَّر ملامح المنطقة، وما زلنا نتعامل مع تبعاته بذات الرؤى والمناهج الفكرية العتيقة التي باتت غير مجدية لإحداث تغييرات إيجابية.
هذا الأمر ذكرنا بتبعاتها الرئيس عبد الفتاح السيسي. إن خسائر الشعوب العربية جراء أحداث 2011 والثورات وما تبعها بلغت 900 مليار دولار، و1,4 مليون قتيل، و15 مليون لاجئ.وأضاف، أن الثورات العربية كانت تطمع وتطمح نحو التغيير للأفضل، ولها هدف نبيل، ولكن القوى صاحبة الأطماع، وجدت ضالتها في استغلال هذه الثورات، ووجدت في الجماعات الظلامية الطامحة في السلطة ملاذاً لتنفيذ مخططها الخبيث.
وعليه، تظل الدعوة الملحة لإعمال العقل وتفعيل الخيال السياسي بنضج وخبرة ضرورة ملحة.