معلوم أنه قد بات معلومًا أن للتقدم مقاييس متعددة، فلكل بعد من أبعاد التقدم في واقعنا أكثر من مقياس، حيث يوجد مقاييس للتقدم الاقتصادي، والتقدم الاجتماعي والتقدم الثقافي ، بل وأيضًا توجد مقاييس للتقدم السياسي .. سواء على مستوى حياة الدول والمؤسسات والأجهزة بل والأفراد أيضًا، وهو ما يفيد بقناعة أن التقدم ليس تعريفًا أو وصفًا مصطلحًا غامضًا ويتسم بالعمومية، بل هو مصطلح واضح لأنه قابل للقياس الكمي والتعريف الوصفي البسيط ..
في مجال السعي نحو تحقيق التقدم شهدت الساحة الإعلامية في الفترة الأخيرة تناول قضايا ملحة على أرضية جديدة أكثر انفتاحًا وجرأة والتزامًا بشفافية العرض، وبالسرعة المطلوبة ورد الفعل الأكثر اتساعاً ..
ولعل ظهور جماعات وتيارات إصلاحية تقوم أحياناً بتبني وجهات نظر متجددة تسعى إلى تحريك قوى المجتمع المدني لتحفيز السلطات المختلفة للقيام بدورها في دعم قيم التقدم والمواطنة وتفعيل مفاهيمها خير شاهد على ذلك وداعم لذلك التوجه، وفي هذا الإطار أرى بعض النماذج الإيجابية للدعوة لإعلام يدعم فحوى رسالة إصلاحية مُحفزة لتفعيل الاصطفاف المحايد من أجل تقديم وجهتي النظر الموالية والمعارضة بشفافية كان لها صدى جيد في الشارع المصري في الفترة الأخيرة.. .
ولكن للأسف وفي الاتجاه العكسي، هناك العديد من الصور والأشكال الإعلامية الجديدة التي تحاول أن تُحدث قدرًا من التوازن عبر اللعب على محاور مضادة في الأهداف والاتجاهات وتعمل بقناعة متطرفة في تصور أن ذلك يتيح لها قاعدة أكثر اتساعًا من القراء أو المستمعين أو المشاهدين، فتكون النتيجة مساهمتها فى تراجع المصداقية وبُهتان المشهد الإعلامي والتأثير السلبي على حال المواطنة، وهو إعلام يتصور صانعوه أنهم يقدمون نموذجًا حرًا مستقلًا ..
معلوم، هناك بعض القنوات الفضائية الدينية، وأيضًا نوعية من الصحف التي تعمل بشكل جاد وأمين وصادق في مجال إثراء الوعي الديني والروحي الهادي لمتلقيها للخصال والسلوكيات الحميدة ونشر المفاهيم التي تُعلي من قيم الانتماء للأديان وتوظيفها في الدعوة إلى الإصلاح والتقدم والمزيد من العمل المخلص والإنتاج الطيب ونبذ العنف ورفض التزيد في أشكال التدين المظهري .. إلخ ، وينبغي أن تجد هذه المنابر الإعلامية المعتدلة دعمًا مجتمعيًا لمجابهة هذه الموجة الشرسة من قنوات وصحف أخرى تعمل وفق رؤية متعصبة وطائفية بتنا نستشعر خطورتها وتأثيرها في الشارع والنادي والمسجد والكنيسة، بل وداخل بيوتنا عبر رسائلها السلبية من حيث المحتوى وأعداد متابعيها واجتذاب نوعيات من الشباب المحدود المعرفة والتجربة والخبرة بدعوى العمل من أجل حماية الأديان والمعتقدات من خلال بث رسالة رئيسية يتم تكرارها أن هناك نظمًا وحكومات لا تحكم بعدل الأديان وشرائع السماء وأن الفضيلة تنتحب والعقيدة تتوارى أحكامها ونواهيها ودعواتها المقدسة في مجتمع يرونه يسعى إلى تحقيق تقدم أرضي زائف ..
أما عن أهم أشكال وتبعات تلك الرسائل السلبية لتلك الوسائل أنها تحاول خلق تباعد بيننا كبشر ومجتمعات ونحن في سبيلنا لتوطين ودعم قيم المواطنة على أرض جمهورية جديدة بتنا على أبوابها بحماس ووطنية قيادة مصرية مخلصة، وهنا تتمثل ملامح أبعاد وجودها وخطورتها في :
♦ أن من أهم تلك الرسائل السلبية استثمار وجود الأمية الهجائية والعلمية والمعرفية والتقنية للزج بآيات الأديان التي يقدمونها في افتتاحيات مكلماتهم ويزيلون بها رسائلهم وخطابهم الإعلامي في محاولة إضفاء لون من الإبهار الزائف والإدعاء بالتفرد بامتلاك الحقائق بشكل حصري لدعوة البسطاء للتمسك بحروف تلك الأديان وليس بمعانيها وتفاسيرها الصحيحة لفرض رؤى وتعاليم لا تتسق مع صحيح وروح الرسالات الدينية السامية ودعاواها النبيلة الرفيعة ..
♦ استثمار حال المجتمعات الفقيرة التي يعاني الناس فيها من مشاكل في تراجع الدخل والعيش في ظروف يصعب فيها إشباع الاحتياجات الضرورية، وبالتالي حدوث حالة وهن وضعف إنساني يجعلهم أكثر تشبثًا بأي حلول سهلة المنال قد تتمثل في مجموعة غيبيات أو نصائح فلكلورية أو حكاوي من التراث المجهول الهوية التي يُعاد بثها بشكل عصري وصولا ً لانتقاء مجموعة عِبر وحكم وأمثال لتجاوز المحن والأمراض والشدائد فيكون التوقف عن الحياة وتراجع الإنتاجية ..
♦ لقد بتنا نشاهد ونسمع برامج ونتابع إنتاج قنوات ووسائط إعلامية متعددة تروج لمعارف سلبية في انحراف وتنازل مذهل عن سبل المعرفة العلمية للترويج للأمور التالية على سبيل المثال :
- علاج المرضى بآيات الأديان ووضع الأيادي على رؤوس "الغلابة" وإدعاء صنع المعجزات ..
-الترويج لمنتجات إعلامية متشددة ومتطرفة ( كتب وكتيبات ونشرات ـ اسطوانات كمبيوترية ) حتى كان انتشارها على أبواب المؤسسات الدينية ودور العبادة لتبيع للناس أوهاماً بعيداً عن شرطة المصنفات وكل أعين الرقابة للسطو على قلوب ووجدان ومشاعر وعقول البسطاء الذين ينتظرون حلولًا تأتيهم من العالم الآخر بدلًا من الطبيب والدواء والعيادة والمستشفى وبعيداً عن فواتيرهم المرهقة فيكون العيش في عالم الأحلام الوهمية حتى لو أدركوا مدى استحالة تحقيق تلك الأحلام ، إلا أن ختمها بصكوك الآيات والتعاليم الدينية والروحية يدفع البسطاء عبر حالة إيمانية وهمية تبشر بها تلك الوسائل الإعلامية للتواصل معها من خلال ربطهم بوصلات البكاء والنحيب للتكفير عن الخطايا والإعلان عن تواصل الأرض بالسماء والناس بخالقهم !!
مع مشروع " حياة كريمة " والذي باتت تباشير ثماره تطرح خيرًا وأمانًا وسلامًا على أرض الكرامة الإنسانية المصرية، ننتظر من الإعلام المصري أن يدفع في اتجاه التأكيد على أهداف المشروع الوطني في تحقيق المواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية وتجاوز أزمنة البلادة والتخلف، وأن تنمو فكرة العمل التطوعي والانصهار في مبادرات جماعية إيجابية يدفع في اتجاه تنميتها مؤسساتنا الدينية ومؤسسات التنشئة والتعليم والثقافة ..