تعد إيران قوة إقليمية رئيسية في منطقة الشرق الأوسط. وبفضل قدراتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية الكبيرة، إلي جانب إرثها الحضاري والإمبراطوري الذي لا يمكن إغفاله، نجحت، خلال مراحل مختلفة، في أن تمارس أدوارا متباينة في صياغة الترتيبات الإقليمية في الإقليم. لكن ربما لم يحظ الدور الإقليمي الإيراني، في أي وقت مضي، بنفس الأهمية والزخم اللذين حظي بهما بعد نجاح الثورة الإسلامية في الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 . ففي هذه اللحظة، بدا أن ثمة تغييرا جذريا طال سياسة إيران الإقليمية وأدواتها.
فبعد أن كانت خلال عهد الشاه -وبالتحديد ابتداء من عقد السبعينيات من القرن الماضي- أحد أهم حلفاء الغرب، حيث لعبت دورا مهما في حماية المصالح الغربية عموما، والأمريكية علي سبيل الخصوص، وشكلت الركيزة العسكرية فيما يسمي ب-"مبدأ نيكسون" مع الركيزة الاقتصادية التي مثلتها السعودية، تحولت إيران إلي عدو ومصدر تهديد لمصالح الغرب، وعلي رأسها تدفق النفط من الخليج، وأمن إسرائيل. لكن رغم الانقلاب الشامل الذي أحدثته الثورة علي مجمل السياسات التي انتهجها نظام الشاه، فإن إيران في عهد الثورة لم تتخل عن طموحاتها الإقليمية، واعتمدت في هذا السياق علي ركائز جديدة، كان علي رأسها ما يسمي ب-"تصدير الثورة" إلي الخارج، والتي أدت إلي توتير علاقاتها مع معظم الدول العربية، ودخولها في حرب مع العراق دامت ثماني سنوات، فضلا عن تعرضها لعزلة دولية وإقليمية.
وبفعل عوامل عديدة، مثل تراجع أهمية الخطاب الأيديولوجي داخليا وخارجيا بعد وفاة الإمام الخميني، وانتهاء عصر الاستقطاب الدولي علي خلفية انهيار الاتحاد السوفيتي، وتدشين ما يسمي ب-"مرحلة التحول من حالة الثورة إلي حالة الدولة"، استبعدت إيران سياسة "تصدير الثورة" في تعاملها مع تطورات الإقليم، واستعاضت عنها بأدوات أخري، مثل تأسيس علاقات وثيقة مع قوي عربية رئيسية علي غرار سوريا بهدف إكساب تمددها في الإقليم غطاء عربيا، وفتح قنوات تواصل مع العديد من المنظمات، مثل "حزب الله" اللبناني، وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين، فضلا عن استثمار الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها العديد من القوي الإقليمية والدولية، لاسيما بعد بدء ما يسمي ب-"الحرب الأمريكية علي الإرهاب" التي انتهت باحتلال كل من أفغانستان والعراق، وذلك لدعم طموحاتها في أن تصبح رقما مهما في معظم الملفات الإقليمية، إن لم يكن مجملها.
1- الثورات تربك حسابات إيران :
لكن جاءت موجات التغيير والتحول الديمقراطي، التي تجتاح الدول العربية في الوقت الحالي، لتربك أوراق وحسابات إيران من جديد. ورغم أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن تأثير هذه الثورات والاحتجاجات الشعبية في التوازن الاستراتيجي في المنطقة، فإنه يمكن القول إن هذه التطورات تفرض تداعيات متباينة علي مصالح إيران ودورها الإقليمي. وهو ما يفسر حالة الارتباك الواضحة التي اتسم بها تعامل طهران مع هذه التطورات، لدرجة لا يمكن الحديث معها عن "سياسة إيرانية واحدة"، وإنما "سياسات متعددة"، وربما متناقضة في بعض الأحيان.
فقد بدت إيران مطمئنة إزاء التداعيات الأولية ل-"موجات "التسونامي الثوري" التي شهدتها المنطقة منذ يناير 2011، خصوصا مع نجاحها في الإطاحة بنظامي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، اللذين يعدان من حلفاء الغرب في المنطقة، بما يعني أن سقوطهما يقدم مؤشرا علي فشل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية، وتدعمها العديد من القوي الإقليمية في الشرق الأوسط، لفرض عزلة علي إيران لكبح طموحاتها النووية والإقليمية، وعلي انتصار ما يسمي ب-"محور الممانعة" الذي تقوده إيران، ويضم كلا من سوريا و"حزب الله" اللبناني، وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين في مواجهته مع "محور الاعتدال" الذي كان يضم دول مجلس التعاون الخليجي، إلي جانب مصر والأردن وبعض الدول العربية الأخري.
فضلا عن ذلك، فقد بدأ الحديث في إيران عن بعض المكاسب الآنية من قيام الثورات في العديد من الدول العربية، أولها: توجيه اهتمام المجتمع الدولي بعيدا عن أزمة الملف النووي الإيراني، ومحاولة كسب مزيد من الوقت، سواء لمواجهة الصعوبات التكنولوجية التي هاجمت البرنامج النووي في الفترة الأخيرة، مثل فيروس "ستوكسنت" الذي نجح في إخراج عدد غير قليل من أجهزة الطرد المركزي عن دائرة السيطرة، أو لتحقيق أكبر قدر من التقدم في عمليات تخصيب اليورانيوم، حيث كان لافتا نجاح إيران منذ فبراير 2011 -خلال ذروة اشتعال الثورتين المصرية والتونسية- في زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.5% بمقدار 500 كيلو جرام من 3600 كيلو جرام(1) إلي 4100 كيلو جرام(2).
وثانيها: تقليص حالة الأهمية والزخم التي حظيت بها حركة الاعتراض علي نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2009، وأسفرت عن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، والتي تمثل ما يمكن تسميته ب-"المعارضة من داخل النظام"())، وهو ما منح الفرصة للسلطات الإيرانية لتضييق الخناق علي حركة الاعتراض، من خلال تحديد إقامة زعيمي الحركة، مهدي كروبي ومير حسين موسوي، والتهديد بشن حملة اعتقالات ومحاكمات في حالة تنظيم مظاهرات جديدة. وثالثها: الاستفادة من الزيادة الملحوظة في أسعار النفط، خصوصا بعد وصول موجات التغيير الديمقراطي إلي ليبيا، وبروز توقعات باحتمال امتدادها إلي دول نفطية أخري في المنطقة.
وعلي ضوء هذه التداعيات الإيجابية الأولية، اندفعت إيران إلي الحديث عن ولادة شرق أوسط جديد في المنطقة علي أنقاض الأنظمة التي سقطت، واستدعت في هذه اللحظة مشروعها لإقامة شرق أوسط إسلامي الذي تبنته في مواجهة المشروعات التي طرحتها الولايات المتحدة الأمريكية، عقب احتلال العراق عام 2003، مثل مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، و"الشرق الأوسط الجديد". ويعتمد هذا المشروع الإيراني علي محورين، الأول: أيديولوجي يتمثل في إيمان النظام الإيراني بحتمية قيام الحكومة العالمية للإسلام، وبضرورة اضطلاع إيران بدور قوي في التمهيد لذلك. والثاني: استراتيجي يتصل بمحاولات إيران تكوين حزام أمني يكون بمثابة حائط صد لكل المحاولات التي يبذلها خصومها لاختراقها من الداخل، أو إحكام محاصرتها عبر دول الجوار(3).
2- مكاسب مؤقتة وخسائر محتملة :
لكن هذه التداعيات الإيجابية تبدو مؤقتة لحين تبلور ملامح نهائية للشرق الأوسط، بعد انتهاء موجات التغيير الديمقراطي الحالية، بل إن مؤشرات عديدة توحي بأن ثمة تداعيات أخري محتملة يمكن أن تنتج تأثيرات سلبية متعددة علي إيران. والمفارقة هنا أن هذه التأثيرات لا تقتصر فقط علي مصالح إيران وموقعها في الإقليم، بل تمتد أيضا إلي الجبهة الداخلية التي تواجه حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار لأسباب سياسية واقتصادية عديدة، بشكل يشير إلي أن إيران باتت حالة كاشفة للترابط القوي بين ما يموج في الداخل من تفاعلات كثيفة، وما يدور في الخارج من تطورات متسارعة.
فعلي المستوي الداخلي، وضعت هذه التطورات الإقليمية النظام الإيراني في مأزق. فبقدر ما ساعدته في تضييق الخناق علي قادة حركة الاعتراض علي نتائج الانتخابات الرئاسية، بقدر ما منحت الفرصة للأخيرة لاتخاذ خطوات عديدة بهدف إحراجه، وفرض مزيد من الضغوط عليه. إذ استثمرت تأييده العلني، وعلي لسان كبار مسئوليه، مثل المرشد الأعلي للجمهورية علي خامنئي، للثورتين المصرية والتونسية، لمطالبة السلطات الإيرانية بالسماح بتنظيم تظاهرات تأييد للثورتين المصرية والتونسية، علي غرار ما فعل النظام الإيراني. وهو ما تم رفضه بحسم من جانب النظام الذي برر ذلك بأن الحركة تتبني منذ بداية الأزمة أجندة داخلية صرفة، وأن مطالبها "قومية" بامتياز بدليل أن شعار "لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء إيران" كان أحد الشعارات التي ميزت تظاهراتها ضد النظام بعد إجراء الانتخابات الرئاسية عام 2009 ، بما يعني أنها تحاول استغلال الظرف الإقليمي من أجل إعادة تجديد نشاطها وتعبئة أنصارها، بعد التضييق الشديد الذي تعرضت له في الآونة الأخيرة.
كما اندفعت بعض الأقليات الإيرانية إلي استثمار الظروف الإقليمية التي تمر بها المنطقة لتفعيل مطالبها بمنحها حقوقها السياسية والاقتصادية التي يكفلها الدستور. فعلي غرار "جمعة الغضب"، و"جمعة الزحف"، و"جمعة القصاص" التي شهدتها العديد من العواصم والمدن العربية، نظم بعض الأحواز الإيرانيين "جمعة الغضب"، و"جمعة التحدي" في 15 و22 أبريل 2011، الأمر الذي أدي إلي وقوع مواجهات مع قوات الأمن والحرس الثوري، أسفرت عن مقتل وجرح عدد غير قليل من الأحوازيين(4).
لكن رغم نجاح النظام، إلي حد ما، في تضييق هامش المناورة المتاح أمام حركة الاعتراض علي نتائج الانتخابات الرئاسية، فإنه فشل حتي الآن في تجاوز الأزمة السياسية التي يواجهها منذ عام 2009 . بل إن الإجراءات التي اتخذها في هذا السياق رفعت من سقف المطالب التي تبنتها حركة الاعتراض من التشكيك في شرعية فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، إلي الطعن في كفاءة المرشد الأعلي للجمهورية، والدعوة إلي فرض رقابة علي صلاحياته الواسعة.
3- شرق أوسط غير موات :
أما علي المستوي الإقليمي، فقد فرضت التطورات التي تشهدها العديد من الدول العربية "بدائل ضيقة" أمام إيران دفعتها إلي تبني سياسات متناقضة إزاءها. ففي الوقت الذي دعمت فيه الثورات والاحتجاجات التي شهدتها دول، مثل تونس ومصر والبحرين، ورأت أنها "مستوحاة من الثورة الإسلامية الإيرانية"، وصفت الأحداث التي شهدتها سوريا بأنها "شأن داخلي"، وأيدت إجراءات النظام السوري في التعامل معها، كما رفضت تنظيم المظاهرات في العراق، حيث أصدر وكيل المرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية علي خامنئي في العراق، محمد مهدي الأصفي، فتوي بتحريم التظاهر(5).
هذا التناقض الواضح يطرح دلالة مهمة مفادها أن إيران تنظر إلي تطورات الإقليم بمنطق الدولة التي تعي مصالحها، وليس الثورة التي تلتزم بسقف أيديولوجي. ذلك لا يعني أن إيران استبعدت أيديولوجيتها في تعاملها مع تطورات محيطها الخارجي، بل إنها تستدعيها في كثير من الأحيان، لكن عندما تكون متسامحة مع مصالحها. أما في غير ذلك، فإنها تغلب الأخيرة في كل الحالات.
هذه الحقيقة تحديدا تضفي صعوبات متعددة أمام مشروع الشرق الأوسط الإسلامي الذي تتبناه إيران، والذي يفترض، في مضمونه الأعم، أن تستقيم العلاقات بين أطرافه علي أسس ومبادئ واضحة تقوم علي الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية وتوازن المصالح، وهو ما لا يتوافر في تفاعلات إيران مع محيطها القريب. فإلي جانب أن المشروع يفتقد تعريفا واضحا لأهدافه وحدوده، فإن ثمة مخاوف تنتاب العديد من الأطراف من أن يكون مجرد أداة تستخدمها إيران لدعم تمددها في الإقليم، فضلا عن أن الخلافات القائمة بين أطرافه تفرغه من مضمونه، بدءا من أزمة الملف النووي الإيراني وما تنتجه من تداعيات سلبية محتملة، مرورا بتهديدات إيران المتكررة باستهداف مصالح دول الجوار، في حالة تعرضها لضربة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية، وانتهاء بتدخلاتها في الشئون الداخلية لبعض هذه الدول.
4- إشكالية النموذج :
وبالإضافة إلي ذلك، فإن الثورات التي اجتاحت العديد من الدول العربية تخصم إلي حد ما من وجاهة وزخم "الصورة النمطية" التي رسمتها إيران لنفسها، باعتبارها "الأمة الثائرة" في الشرق الأوسط التي تقدم -في رؤية الإيرانيين- نموذجا "ملهما" في الثورة علي "الأنظمة السياسية الفاسدة" لكل الدول المحيطة بها. ففي هذا السياق، اتسمت الثورتان التونسية والمصرية تحديدا بعدد من الملامح التي لا تبدو مريحة بالنسبة لطهران، منها أنها كانت "ثورات بلا قائد"، حيث تجاوزت إلي حد بعيد حدود الاستقطاب السياسي الموجود علي الساحة بين ليبراليين ويساريين وقوميين وإسلاميين، وكان ذلك سر قوتها، لأنه جنبها الالتزام بسقف أيديولوجي كان من الممكن أن يقيد حركتها ويحكم تفاعلاتها.
لذا وعندما ادعت إيران، علي لسان المرشد الأعلي للجمهورية علي خامنئي، أن "الثورات العربية تستلهم روح ونموذج الثورة الإسلامية في إيران وبالتالي فهي استمرار لها"(6)، اندفعت العديد من التيارات الإسلامية التي شاركت في الثورات إلي رفض ذلك، حيث قال راشد الغنوشي، زعيم حركة "النهضة الإسلامية" التونسية، إنه "ليس الخميني وتونس ليست إيران"(7)، فيما قالت حركة "الإخوان المسلمين" المصرية إن "الثورة المصرية ثورة شعبية مصرية خالصة، ولا يستطيع أحد أن ينسب الفضل لنفسه في القيام بها"(8).
مخاوف إيران لا تنتهي عند هذا الحد، بل إن المسارات المحتملة للتطورات الجديدة في الشرق الأوسط يمكن أن تخصم من "النموذج" الذي سعت إيران، منذ قيام الثورة عام 1979، إلي ترويجه وتصديره إلي دول الجوار، لصالح نماذج أخري مثل "النموذج التركي"، الذي بدأ يحظي بأهمية وزخم خاص في رؤية العديد من الاتجاهات، باعتباره أنسب النماذج السياسية للحالتين المصرية والتونسية تحديدا. بل إن النموذج التركي نفسه يمكن أن يفقد جاذبيته في حالة نجاح مصر، علي سبيل المثال، في تأسيس "نموذج ديمقراطي" حقيقي، ربما يحظي في هذه الحالة بقبول عربي واسع لاعتبارات ثقافية وحضارية وتاريخية متعددة. وفي كل الأحوال، فإن الوصول إلي هذا النموذج لا يريح إيران، لأنه سيتضمن في كل الأحوال مبادئ وأسسا تتعارض مع طروحاتها وتوجهاتها، مثل المواطنة، والحريات العامة، والمجتمع المدني وغيرها.
5- رؤية عربية جديدة تجاه إيران :
كذلك، تبدو إيران غير مطمئنة لاحتمال أن تتمخض عن الثورات العربية الحالية ملامح رؤية عربية جديدة للتعامل مع المحيط الخارجي، لاسيما دول الجوار التي تشترك في صراعات علي قضايا مختلفة مع الدول العربية. وهنا، تكتسب العلاقة مع إيران أهمية خاصة، لاسيما أن التطورات الأخيرة أسهمت في تصعيد خلافاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي إلي مستويات غير مسبوقة، علي خلفية التباين في التعاطي مع الأزمة البحرينية.
فقد أسقطت إيران من البداية بعدا طائفيا علي الأزمة، من خلال تصويرها علي أنها مواجهة بين أغلبية شيعية محرومة من حقوقها السياسية والاقتصادية، وأقلية سنية تسيطر علي مقاليد الحكم، ونددت بإرسال دول مجلس التعاون الخليجي لقوات "درع الجزيرة" لحماية المنشآت الحيوية في البحرين، وهددت بأنها "لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء التدخل السعودي في البحرين"، وصعدت الخلاف مع دول مجلس التعاون بمطالبتها منظمة الأمم المتحدة باتخاذ إجراءات بشأن الأزمة في البحرين.
وقد أنتج وصول التوتر إلي هذه الدرجة غير المسبوقة تداعيات سلبية علي مصالح إيران. فقد دفع أولا دول مجلس التعاون إلي التخلي عن سياستها القائمة علي أن الوسيلة المثلي للتعامل مع إيران هي احتواؤها من خلال الدخول في شراكات أمنية واقتصادية متعددة معها، بل والتلويح بإمكانية الدخول في مواجهة معها إذا اقتضت الحاجة ذلك، وهو ما عكسه تصريح أحد وزراء خارجية دول المجلس الذي قال فيه إن "دول المجلس لن تسمح بتحول البحرين إلي لبنان آخر"، و"إنها مستعدة للدخول في حرب مع إيران وحتي مع العراق لحماية البحرين"(9).
كما أنه أدي ثانيا إلي تضييق مساحة التباين بين دول مجلس التعاون الخليجي في تعاملها مع إيران، حيث اتفقت الدول الست علي رفض موقف إيران تجاه الأزمة، ووافقت كل من سلطنة عمان وقطر، اللتين تتبنيان سياسة مختلفة تجاه إيران عن بقية دول المجلس، لاسيما السعودية، علي إرسال قوات "درع الجزيرة" إلي البحرين، وعلي التوجه إلي الأمم المتحدة للشكوي من التدخل الإيراني في شئونها الداخلية، وتوجيه اتهامات لإيران بتهديد الأمن الوطني الخليجي، خلال الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية دول المجلس الذي عقد بالرياض في 3 أبريل 2011(10).
وقد كشف ثالثا عن أن إيران تتعامل مع بعض الأزمات، مثل الأزمة البحرينية، من خلال اعتماد خطاب تهديدي، دون وجود رؤية واضحة تتضمن الأدوات التي يمكن أن تستخدمها لترجمة تهديداتها إلي واقع. فقد فشلت إيران في التعامل مع إرسال "قوات درع الجزيرة" إلي البحرين، رغم تهديدها بأنها "لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ذلك"، واكتفت بتصريحات غامضة في هذا السياق، مثل تصريح الرئيس أحمدي نجاد الذي قال فيه إن "إيران ستقترح عما قريب خطة لتسوية المشكلة في البحرين"، مضيفا أن "بلاده لا تتدخل في شئون البحرين، ولكن إذا تدخلت إيران، فإن كل خريطة المنطقة ستتغير"(11).
6- قلق علي الحلفاء :
وبالطبع، فإن أهم ما يثير قلق إيران في هذه اللحظة هو وصول موجات "التسونامي الثوري" الحالية إلي حلفائها في المنطقة، لاسيما سوريا، إذ إن ذلك ينتج تداعيات سلبية عديدة علي مصالحها ومساعيها إلي التمدد في الإقليم. والمفارقة هنا تكمن في أن مجمل السيناريوهات المختلفة التي يمكن أن تنتهي إليها الأزمة الحالية في سوريا تبدو غير مريحة بالنسبة لإيران. ففي حالة سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، فإن ذلك يعني في المقام الأول فقدان إيران لأهم حلفائها الإقليميين في المنطقة، وانقطاع "جسر التواصل" مع الحلفاء الآخرين، مثل حزب الله" اللبناني، وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين، بشكل يمكن أن يوجه ضربة قوية لطموحات إيران الإقليمية والنووية في آن واحد.
والمشكلة هنا، في رؤية إيران، لا تكمن في احتمال سقوط النظام السوري الحليف فحسب، بل في التعامل مع البدائل المطروحة في حالة حدوث ذلك، والتي يبدو أن إيران غير مستعدة لها حتي الآن. فلا توجد مؤشرات توحي بوجود علاقات تربط بين إيران والقوي والتيارات السياسية السورية الأخري التي يمكن أن تحل محل النظام القائم، بل إن بضعها ينتهج سياسة غير ودية تجاه إيران، فضلا عن أن الدعم الملحوظ الذي تبديه إيران تجاه السياسة التي ينتهجها النظام السوري في مواجهة الاحتجاجات يزيد من تباعد المسافة بين إيران وهذه القوي السياسية، ويمنح في الوقت ذاته الفرصة لقوي إقليمية أخري، علي غرار تركيا، للعب دور مهم في التواصل مع القوي السورية الأخري، استعدادا للسيناريوهات المختلفة التي يمكن أن تتمخض عنها الأزمة الحالية.
والمفارقة هنا أنه حتي في حالة نجاح النظام السوري في تجاوز الأزمة الحالية، فإن ذلك يمكن أن ينتج تداعيات غير مريحة بالنسبة لطهران لاعتبارين، أولهما: إن هذا السيناريو لن يتحقق إلا مع إقدام النظام السوري علي إجراء إصلاحات حقيقية، وتدشين حوار وطني جدي مع قوي المعارضة. ورغم أن هذا السيناريو يبدو صعب التحقق، في ظل رفض النظام تقديم تنازلات جوهرية في مواجهة الاحتجاجات وتأخره في طرح مبادرات التهدئة والاحتواء، فإنه يبقي مطروحا علي الطاولة. وفي حالة حدوثه، فإنه يمكن أن ينتهي إلي التوافق حول أجندة سياسات داخلية وخارجية ربما تتعارض مع مصالح إيران، لاسيما في ظل التحفظات التي تبديها العديد من هذه القوي علي التحالف الإيراني - السوري، أو بالأحري تجاه ما تسميه ب-"الهيمنة الإيرانية" علي سوريا.
وثانيهما: إن نجاح النظام في التوصل إلي هذه الصيغة التي يمكن أن تتيح له البقاء في السلطة لن يتحقق، في الغالب، إلا من خلال حصوله علي قبول دولي. وهنا مكمن الخطورة بالنسبة لطهران، لأن القوي الكبري، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، ربما لن توافق علي تمرير ذلك السيناريو بدون موافقة النظام السوري علي الاستجابة لشروطها المسبقة، وعلي رأسها فك التحالف مع إيران، والابتعاد عن كل من حزب الله" اللبناني وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين.
7- البرنامج النووي يواجه مشكلة :
فضلا عن ذلك، فإن نجاح إيران في استغلال الانشغال الدولي في قراءة تداعيات الثورات العربية لزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب لا يعزز موقفها كثيرا في الأزمة النووية، لاسيما في ظل وجود اطمئنان غربي، بدرجة ما، إلي أن البرنامج النووي الإيراني بات يواجه مشكلات وصعوبات كبيرة، وهو ما يوفر حرية حركة وهامش مناورة في التعامل مع إيران، علي أساس أن هذه المشكلات تمنح الغرب مزيدا من الوقت، يستطيع من خلاله فرض أكبر قدر من الضغوط والعقوبات الدولية علي إيران بشكل يمكن أن يدفعها في النهاية إلي الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي، خاصة وقف عمليات تخصيب اليورانيوم. ومن هنا، يمكن تفسير عدم الاهتمام الغربي بالرسالة التي وجهتها إيران إلي وزيرة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، والتي دعت فيها إلي مواصلة المفاوضات، حيث ردت الأخيرة بأن "الرسالة الإيرانية لم تتضمن أي جديد، ولا يبدو أنها تبرر عقد اجتماع جديد"(12).
خيارات متقاطعة ومسارات متشابكة كلها سوف تنتج تداعيات علي مصالح إيران وموقعها داخل الإقليم في اتجاه تراجع هذا الدور، في ظل بروز أدوار لقوي أخري تشكل خصما من الرصيد الإيراني، وفي ظل احتمالات تراجع قوة الحلفاء التقليديين (سوريا)، وتفجر العديد من الملفات الداخلية والإقليمية في وجه الدولة الإيرانية، بما يجعلها مضطرة لتقييد دورها الإقليمي والتراجع عن بعض أهدافها. ولكن كل هذه الاحتمالات تبقي، لكنها مؤجلة إلي أن تتبلور ملامح الشرق الأوسط الجديد، بعد انتهاء موجات التغيير الديمقراطي التي تجتاح المنطقة في الفترة الحالية.
الهوامش :
1- الوكالة الذرية: إيران ستسحب الوقود من قلب مفاعل بوشهر لأسباب "تقنية"، السفير، 26 فبراير 2011.
2- طهران: اتهامات وكالة الطاقة الذرية لا أساس لها، الشرق الأوسط، 26 مايو 2011.
- يقصد بحركة الاعتراض القوي السياسية التي تؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنها تختلف معه في بعض القضايا، وعلي رأسها الصلاحيات الممنوحة لولاية الفقيه وفقا للدستور. وفي هذا السياق، يمكن تضمين هذه القوي داخل فئة "المعارضة من داخل النظام"، تمييزا لها عن قوي المعارضة الأساسية التي ترفض نظام الجمهورية الإسلامية من الأساس وتسعي إلي تغييره، سواء بأدوات سلمية مثل حركة "حرية إيران" برئاسة الدكتور إبراهيم يزدي وزير الخارجية الأسبق، أو بأدوات مسلحة، مثل منظمة "مجاهدي خلق" بزعامة مسعود رجوي.
3- لمزيد من التفاصيل، انظر: د. محمد السعيد عبد المؤمن، هل تورطت إيران في الأزمة اللبنانية? مختارات إيرانية، العدد 73، أغسطس 6002.
4- عشرات القتلي والجرحي بين الأحوازيين في "جمعة التحدي"، الشرق الأوسط، 23 أبريل 2011.
5- الحائري ووكيل خامنئي يحرمان تظاهرة اليوم والسيستاني والنجفي يؤيدانها لأنها حق مشروع، الحياة، 25 فبراير 2011.
6- خالد الدخيل، إيران وموقفها من الثورات العربية، الحياة، 20 مارس 2011.
7- الغنوشي: سأعود قريبا ولا تقارنوني بالخميني، العرب القطرية، 23 يناير 2011.
8- الإخوان ينأون بأنفسهم عن إيران ويرفضون دولة دينية، سي إن إن، 16 مارس 2011.
9- د. محمد السعيد إدريس، آفاق تطوير علاقات مصر وإيران وتحديات الأزمة الخليجية، مختارات إيرانية، العدد 129، أبريل 2011، ص4-5.
10- في موقف موحد: دول الخليج تتهم إيران ب- "التآمر" علي أمنها الوطني، الشرق الأوسط، 4 أبريل 2011.
11- نجاد: إذا تدخلت إيران، فإن كل خريطة المنطقة ستتغير، العرب القطرية، 6 يونيو 2011.
12- أوروبا: رد إيران لا يبرر عقد اجتماع نووي جديد، الاتحاد، 12 مايو 2011.