علي مدار عقد كامل من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بمصر عقب أحداث 25 يناير، والتي علي أثرها لعب تيار الإسلام السياسي بزعامة تنظيم الإخوان الإرهابى دورًا فى محاولة زعزعت وجدان الإنسان المصري، بما طرحه من أفكار ورؤى ومشاريع لا تتسق وتاريخ وهوية الأمة المصرية العريقة التي صمدت أمام كل تلك التحديات، لتسترد وتعيد شكلها وملامحها ومضمونها في ثورة الـ 30 من يونيو، بعد أن تراءي أمام الشعب المصرى حقيقة هذه التيارات التي تحاول إعادة تشكيل هويتنا الوطنية مع مشاريعها وأفكارها المتطرفة والإقصائية، ولا تزال الأمة تتلمس الطريق خلف قيادة سياسية حكيمة، ما فتئت تعيد التأكيد علي هذه الهوية الوطنية المصرية الجامعة، وتنبذ الهويات والأيديولوجيات الأخرى في إطار جمهورية جديدة بمبادئ وقيم جديدة، ترتكز علي أسس وثوابت راسخة منذ آلاف السنين، لتعيد إحياء الآمال واليقظة، وتؤكد علي أن " الدين لله والوطن للجميع"، ولتبدأ صفحة جديدة من صفحات تاريخنا الوطني.
أزمة الهوية:
هزت الأحداث التي تلت اعتلاء تنظيم الإخوان الإرهابي قمة السلطة السياسية في مصر، والتي تزامنت مع سياسات خارجية وداخلية حاولت زعزعت وحدة النسيج الاجتماعي المصري، وأضرت بالمصالح القومية. فقد بدت مصر كأنها تسير باتجاه اتخاذ هوية أكثر بعداً وغرابة عن أصولها الوطنية، بشكل يؤدى إلى اقتلاعها من جذورها التاريخية الضاربة في عمق التاريخ، وبروافدها الحديثة التي أرستها ثورة 1919، التي رسخت بما لا يدع مجالا للشك الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي الوطني، وبرزت ملامح الأمة المصرية، أمة موحدة تطالب باستقلال الوطن/الأرض/والشعب، وكذلك ثورة 52 التي أرست قواعد الجمهورية الأولي بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر الذي صبغ مصر بصبغة عربية وقومية، كانت قاعدة وأساسًا انطلقت منه مصر نحو زعامة المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وعلي مدار تاريخ مصر الحديث، وبالرغم من التحولات والتقلبات من أحداث وحروب وثورات عصفت بمصر علي مدار قرن كامل، لكن ظلت النخب السياسية بشتي تنوعاتها لديها شعور بالزهو والفخر بالتراث التاريخي لبلدهم، وذلك عكس جماعة التنظيم الإرهابى التي ترفض باستنكار هذا التاريخ ويطلقون على فراعنة مصر أسماء مستمدة من مسميات ناتجة عن مغالطات دينية وتاريخية، مثل "الكفار" و"الطغاة"، حتى وصل الأمر إلى التقليل من شأن أعظم حضارة عرفها تاريخ الإنسان المكتوب، وتفجير المساجد والكنائس وترويع الشعب، أفعال لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تأتى من إنسان يعتبر نفسه "مصرياً".
لم تكن أزمة الهوية المصرية وليدة أزمات العقد الفائت، فقد دارت جدالات فكرية بين مفكري ومثقفي مصر، وعلي رأسهم طه حسين، والعقاد، وسلامة موسي، ولطفي السيد، والرافعي، بين من يؤيد مصر الفرعونية وآخر يراها عربية وثالث يرها شرق أوسطية وتشترك مع دول البحر المتوسط في الثقافة والتاريخ. لقد شكلت هذه الجدالات بين كبار المثقفين والأدباء وجها أدبيًا وإبداعيًا أضاف لمصر ولم ينل منها، وساهم في تحديد ملامح الشخصية المصرية ورفع وعيها بتاريخها وحضارتها وبالاعتزاز القومي الذي ينبغي أن تنظر به إلي ذاتها.
إن أزمة الهوية الوطنية ليست بجديدة عهد ولا تقتصر علي بلد بعينه، بل إن أغلب الدول إن لم يكن كل الدول عليها أن تخوض في هذا الجدال الكبير حول هوية الأمة، الذي يختلف في شكله ووحدته وجوهره من بلد لآخر، حيث تطرح الشعوب سؤال "من نحن" و"ما الذي يميزنا عن سائر الأمم الأخرى" لتعيد التأكيد علي ثوابتها وتجد طريقها نحو الخروج، ولقد فعلت الأمة المصرية هذا في أوقات الأزمات الكبرى.
لا شك فى أن ظاهرة العولمة والتطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي عمق من تلك الأزمة ودفعت بالشعوب إلي إعادة التفكير في هويتها الوطنية، والحكومات إلي تحصين شعوبها بالوعي من اختراقات الخارج وأصحاب المشاريع والهويات الفرعية في الداخل علي حساب الهوية الوطنية الشاملة، وهو ما أدركته القيادة السياسية، وأكدت علي أن قضية الوعي هي قضية مصيرية للشعب المصري.
قضية الوعي بالهوية:
الهوية الوطنية هي أحد العناصر الأساسية للدولة الحديثة، لأن انتماء الناس للوطن يقوم على انتمائهم إلى هويتهمالوطنية، وتشكل قضية الوعي بهذه الهوية أحد أهم ملامح تعزيز هذا الانتماء، فتحديد الهوية الوطنية وبناء الانتماء القومي أمر حاسم بشكل خاص للاستقرار الاجتماعي والتنمية الاجتماعية.
ولقد حازت قضية الوعي في خطاب الرئيس السيسي ما لم تحزه في خطابات أي رئيس آخر في تاريخ مصر، فلا يمل الرئيس من أن يستغل كل مناسبة ليعلن أن قضية مصر الأولي هي قضية الوعي، معلنا أن الدولة مستعدة لتقديم كل الدعم لكل ما من شأنه رفع وعي الإنسان المصري الذي يشكل الجدار الأول أمام استهداف الدولة الذي يمهد للعبث بمقدرات ومستقبل الدول، فالأيام تمر وتتعاقب السنوات وتتبدل الأفكار وتتغير أشكال الصراعات والحروب التقليدية التي اعتدتنا عليها في الماضي، حيث إنها تحولت اليوم إلى حروب غير نمطية تستهدف تدمير الأوطان من داخلها.
الهوية في إطار الجمهورية الجديدة:
تقوم الدولة الوطنية على المواطنة والحقوق والواجبات المتساوية لكل المواطنين، وتشكل الهوية الوطنية، التي ترتكز علي التاريخ المشترك واللغة والثقافة والالتزام الديني والمبادئ الوطنية وما تعنيه من عادات وتقاليد وقيم وروح الانتماء،وعاء هذه الدولة الوطنية، وهي أيضا تشكل القبول والشرعية لمؤسسات وسلطات الدولة. والدولة الوطنية والهوية الوطنية مفهومان لا ينفصلان يلازم أحدهما الأخر ويتكئ عليه، فلا يمكن أن تستقيم دولة وتزدهر بعيدًا عن حقيقتها التاريخية وهويتها القومية.
ولقد أدركت القيادة السياسية هذا وعملت علي تنمية الوعي بالهوية والمواطنة، لاسيما، وفي القلب منها حقوق الإنسان، التي ترتكز علي فلسفة في إطار الجمهورية الجديدة تقوم على ركيزتين إحداهما الحقوق الاقتصادية للمواطن، والثانية هي الحقوق الاجتماعية، ثم وكنتيجة تأتي الحقوق السياسية، فلا يمكن أن يمارس المواطن حقوقه السياسية دونما توافر الحقوق الأساسية له، والتي تتمثل في المأكل والمسكن اللائق والملبس، وكذلك الحقوق الأساسية الأخرى، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.
تشكل المواطنة أساس الهوية الوطنية، وهي فكرة أصيلة في الجمهورية الجديدة ، حيث لا تمييز بين أبناء الوطن الواحد، ويعكس ذلك التحولات التي تحدث في المجتمع المصري، والتي ترفض تلك المسميات، فالدولة المصرية تنظر إلي الشعب المصري وإلي المواطنين المصريين علي أنهم جميعًا مواطنون ولهم حق المواطنة ولهم ذات الحقوق، بعد فترات مرت على مصر كانت هناك جماعات تسيطر على الدولة المصرية ميزت فيها بين أبناء الوطن الواحد وانتهكت تلك الحقوق التي سعت الدولة المصرية إلى الحفاظ عليها في إطار حرصها على الحقوق كافة.
ولنتذكر أنه إذا كانت قد وقعت يوما بين أبناء الوطن الواحد من المصريين "أحداث مؤسفة" نادرة الحدوث, فهى حالات فردية بحت وثانوية للغاية، لا تنفى القاعدة العامة، وهى وحدة النسيج الوطني المصري، فشيئا فشيئا تتراجع الروابط المختلفة أمام الهوية الوطنية.
الهوية والمصلحة الوطنية:
إن المصلحة الوطنية مرتبطة بالهوية القومية، ومعرفة من نحن ضرورية لتحديد مصالحنا، وهكذا، فإن كل تحديد للهوية يولد مصالح قومية مختلفة وأولويات سياسية متعددة، فعلينا أن ندرك من نحن قبل أن نحدد أولوياتنا، وإلا فإننا سنجد أنفسنا ندور في أجندات ومشاريع غير وطنية، وهو ما حدث في فترة حكم التنظيم الإرهابي، الذى أغفل الهوية الوطنية، فإذا به يهدر المصالح القومية ويلحق ضررًا بالغا بالأمن القومي المصري، فإن ما يعترض الهوية الوطنية من تحديات بسبب هويات أخري فرعية يعترض أيضا مسار المصالح القومية العليا للبلاد، ويقوض أمنها القومي، كذلك ترتبط الهوية الوطنية بالمصالح القومية والأمن القومي، ويرتبط الأمن القومي والمصالح القومية بالسياسة الخارجية وأهدافها التي تمليها المصالح القومية والتاريخ والجغرافيا وكلها ثوابت ينبغي إدراكها وزيادة الوعي بها من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب التي تخدم مصالحنا في الفضاء الخارجي.
ختامًا، لقد أيقظت الأحداث والتحديات المتتابعة المصريين علي حقيقة جديدة، مفادها أن المسافة لم تعد تعني المناعة، فقد ترعرعت تلك التيارات ونشأت بين جموع الشعب المصري، ومع ذلك لم تندمج في النسيج الاجتماعي المصري، وظلت متوارية خلف راية الوطنية، ليكتشف المصريون حقيقة هذه التيارات التي ما إن سنحت لها الفرصة للانقضاض علي الدولة الوطنية واختطافها ومحاولة اختطاف هويتها الوطنية الجامعة لمصلحة هويات فرعية تخدم مشاريع وأجندات خاصة بها وبمن ورائها، لم تتوان في ذلك، وفطن المصريون لذلك، مما دفعهم إلي الحفاظ علي هويتهم والالتفاف حول القيادة السياسية، والدولة المصرية التي تمثل الحصن والأمان والمستقبل.