التنمية الاقتصادية هي العملية التي يزداد فيها الناتج القومي "الدخل القومي الحقيقي" بمُعدل أكبر من مُعدل نمو السكان بصورة مُستدامة تُرتب تطور في كافة مناحي الحياة بما فيها النواحي الاجتماعية، والثقافية، والصحية، والتعليمية، والسياسية، وإن كان البعض يُخالف ذلك ويجعل من التنمية الاقتصادية أثراً لإصلاحات في قطاعات، مثل التعليم، والصحة، إلا أنه من الصعب إصلاح تلك القطاعات بدون تمويل تحصل عليه الدولة من ثمار خطط زيادة الدخل القومي التي يتحتم البدء بها.
والتصدي لعملية التنمية يحتاج لاستراتيجية طويلة تتشكل من آليات وسياسة تنموية، تُعالج الاختلالات التي تُعرقل تطور المُجتمع، والأمر يبدأ بتشخيص طبيعة المُشكلات من خلال فهم وتتبع عملية التكوين التاريخي للوقوع في دائرة التخلف، والتركيب الاجتماعي للمُجتمع، والواقع الدولي الذي تتم خلاله عملية التنمية ليكون ذلك مدخلاً لاختيار استراتيجية تطوير تُناسب خصوصية المُجتمع، وتتواءم مع الواقع الدولي، وغالباً ما يدور ذلك في فلك ثلاث استراتيجيات رئيسية.
الأولى: هي استراتيجية إحلال الواردات، والتي تقوم على إنتاج، وصناعة السلع التي يتم استيرادها، ودعم تلك الصناعات من خلال فرض قيود على الاستيراد بصورة تجعل من الاستثمار في تلك السلع أكثر ربحية، واختارت غالب الدول أن تبدأ بالسلع الاستهلاكية باعتبار أن الفجوة بين تكلفة إنتاجها ونفقة استيرادها أقل من السلع الوسيطة، أو السلع الإنتاجية. ورغم تطبيق الكثير من الدول النامية لتلك الاستراتيجية، إلا أنها لم تنجح لأسباب أهمها تفوق الدول الرأسمالية في الفن الإنتاجي بصورة جعلها تُقدم مُنتجات أكثر جودة وأقل سعراً، فضلاً عن أن الدول التي طبقت تلك الاستراتيجية اعتمدت في جانب كبير من مُدخلات الإنتاج على الخارج الذي أعطاها تلك المُدخلات بأسعار مُرتفعة رفعت تكلفة الإنتاج، وكان لتقييد الواردات لحماية المُنتج المحلي وضعت الدول الأخرى قيودا أمام صادرات تلك الدول.
والاستراتيجية الثانية تقوم على بناء صناعات من أجل التصدير، حيث يتم استهداف خلق بعض الصناعات التي يُخصص إنتاجها للبيع في السوق الخارجي، مع إمكانية تسويق جزء من هذا الناتج في السوق الداخلي، من أجل زيادة الصادرات باعتبارها مورد للنقد الأجنبي يُمكن من خلاله استيراد الاحتياجات التي لا تتوافر محلياً. ويواجه تطبيق تلك الاستراتيجية نفس تحديات الاستراتيجية الأولى من صعوبة تدبير التمويل، والتكنولوجيا، ولعل تزايد فرص نجاحها تكون في حال توافر مواد أولية محلية ذات ميزة نسبية تجذب الاستثمار الأجنبي ، سيما في مجالات صناعة الحديد والصلب، والأسمنت، والسيراميك، والأسمدة.
بينما تقوم الاستراتيجية الثالثة والأخيرة على بناء الصناعات الأساسية باستهداف خلق صناعات أساسية ومشروعات كبرى يكون من آثارها خلق سلسلة مُتنوعة من الصناعات المُرتبطة بها بصورة تُنشط الاقتصاد القومي بأكمله من خلال البدء بصناعات كبرى، مثل صناعات النسيج، والطاقة، والحديد والصلب، والكيماويات، والإنتاج هنا يقوم في الأساس لإشباع السوق الداخلي اعتماداً على المواد الأولية المحلية. وقد تبنت مصر تلك الاستراتيجية في الخمسينيات والستينيات وفتحت لها أسواقا في شرق أوروبا وإفريقيا، لكن واجهتها مُشكلات فتح الأسواق وتأخر الفن الإنتاجي، وارتفاع تكلفة الإنتاج.
والمؤكد أن طريق التنمية لا يكون من خلال قوالب أو استراتيجيات جاهزة، وإنما تؤخذ تلك الاستراتيجيات كأساس يُمكن البناء علية لتكوين استراتيجية خاصة تُناسب كل دولة حسب ظروفها، ومقوماتها، وبما يتناسب مع الواقع العالمي، شريطة أن تكون تلك الاستراتيجية تتسم بالتجرد، والشمول، وإمكانية التطبيق. ومع اختيار وتصميم استراتيجية التنمية المُناسبة، نكون في حاجة إلى عملية إصلاح لهياكل الاقتصاد لتُناسب تطبيق تلك الاستراتيجية.
والهيكل الاقتصادي هو مجموع الأجزاء التي يتكون منها الاقتصاد، مثل القطاعات، والفروع، والوحدات الإنتاجية، وآليات الربط والتفاعل بين هذه القطاعات، مما ينتج عنه شكلاً تنظيمياً يكشف عن مُحددات الاقتصاد، وقُدرته على الحركة، والنمو، والإنتاج، ومدى تطوره، ومواكبته مع الهياكل الاقتصادية الأخرى في العالم. كما يُمكن من خلاله التعرف على المشكلات التي يُمكن أن تواجه الاقتصاد، ووضع السياسات، والحلول لها.
ويرتبط مفهوم الدولة المُتخلفة بتخلف هيكلها الاقتصادي، الذي يقوم على أساليب إنتاجية غير مُتطورة في ظل تخلف البناء الاجتماعي، والعلمي، والصحي، والإداري، والسياسي. ويتسم الهيكل الاقتصادي في الدول المُتخلفة بسمات أهمها اعتماده على النشاط الأولي، مثل الزراعة، والصيد، والنشاطات الاستخراجية التي تعتمد على تكنولوجيا ورأس مال، تُقدمها الشركات الأجنبية الكبرى وتحصل مُقابلها على الحصة الأكبر من الربح، أما الصناعة فدورها محدود جدا، حيث تتركز على الصناعات الاستهلاكية، والوحدات الحرفية. وفي قطاع التجارة والخدمات، نجد أنه يتميز بحجم كبير مُقارنة بالقطاع الإنتاجي، فضلاً عن أنه لا يُفرق بين ما هو محلي وما هو مستورد، مما يجعله أداة استنزاف للعملات الأجنبية، في ظل غياب دور فاعل لمنع الاحتكار، أو حماية المُستهلك، كما يتسم الهيكل المُتخلف بعدم كفاية وكفاءة الخدمات الاجتماعية، سيما في قطاعات الإسكان، والصحة، والتعليم، والثقافة، وتردي الخدمات الحكومية لعدم كفاءة الجهاز الإداري الذي يضُم أعدادا هائلة من الموظفين تفتقد التأهيل والتنظيم الحديث. ويترتب على تخلف هياكل الاقتصاد ارتفاع في نفقات الإنتاج وتأخر الفن الإنتاجي، وصغر حجم الناتج القومي، وانخفاض متوسط الدخول، وعدم عدالة توزيعها، وعدم استغلال الثروات والموارد. وفي ظل سيادة المظاهر الاجتماعية المُتخلفة، يُعاني الاقتصاد من الاستهلاك المظهري، وغياب التنظيم المؤسسي، وانتشار المُضاربة، وتفضيل رءوس الأموال الاستثمار في العقارات عن الاستثمار الإنتاجي، مما يخلق نقصا حادا في رءوس الأموال التي هي أساس التنمية.
ربما تجتمع تلك المظاهر في اقتصاد واحد، أو يُصاب اقتصاد بأحدها أو بعضاً منها، الأمر الذي يحتاج دراسة وافية لمدى تخلف الهيكل الاقتصادي ونسبة ذلك في كل قطاع حتى يُمكن تصميم برنامج التنمية. وإذا كان البعض يرى بداية الإصلاح تكون من التعليم والصحة إلا أن ذلك التصور يقف أمامه عدم قُدرة الدولة المُتخلفة على تدبير موارد لذلك في ظل تردي الناتج القومي، وزيادة مُعدلات البطالة، وعدم ثقة المُستثمرين في الداخل، والخارج، لذا يُحتم الأمر أن تكون البداية من خلال خطة إصلاح مالي ونقدي قصيرة الأجل تُحسن من الهيكل المالي والنقدي للدولة وتجعلها أهلاً للثقة في ضخ استثمارات خاصة، على أن يواكب ذلك تحرك الدولة نحو تمويل عمليات البدء في تنمية باقي القطاعات حتى ولو بوتيرة مُنخفضة (غالبا ما يكون التمويل بالاقتراض) مع اختيار قطاع أو أكثر لقيادة النمو من القطاعات الأقل حاجة لمكون أجنبي، والأكثر تشغيلاً لتكون رواتب العاملين بها الوقود الذي يُحرك الاقتصاد، ومع قطع شوط كبير في إصلاح القطاع المالي، والنقدي ستتحسن مالية الدولة وتكون أكثر قُدرة على تمويل عمليات إصلاح هيكلي شاملة تنقل باقي القطاعات إلى آفاق التنمية، وضمانة نجاح ذلك هو التخطيط الجيد، والتمويل المُناسب، وأن يشمل الإصلاح جميع القطاعات دون تمييز ، أو تأثير من أصحاب مُكتسبات الهيكل المُتخلف، وأن تتم عملية الإصلاح الهيكلي بجدول زمني دقيق، وإرادة لا تلين، ولا تقف فى مُنتصف الطريق.
ولتشخيص المُشكلة يكون السؤال، متى تخلفت هياكل الاقتصاد المصري؟ وهو موضوع المقال القادم بإذن الله.