في الثالث عشر من شهر أغسطس الجاري، وقع ممثلون عن الحكومة والمعارضة الفنزويلية، في العاصمة المكسيكية، مكسيكوسيتي، على مذكرة تفاهم، لبدء جولة جديدة من المفاوضات، تستهدف إيجاد مخرج للأزمة السياسية والاقتصادية الحادة التي تعاني منها البلاد، والتي تعود جذورها إلى عام 2018، عقب إعادة انتخاب الرئيس "نيكولاس مادورو"، في انتخابات رُفضت على نطاق واسع من المجتمع الدولي، باعتبارها غير حرة ولا نزيهة.
وسرعان ما اتخذت الأزمة أبعادًا جديدة مع إعلان زعيم المعارضة "خوان جوايدو"، نفسه "رئيسًا انتقاليًا" للبلاد في يناير 2019، وهو اعتراف حظي بدعم ما يزيد على خمسين دولة حول العالم، في مقدمتها الولايات المتحدة، في حين ساندت روسيا والصين، من بين دول أخرى، مادورو، ليكون لفنزويلا رئيسين يتنافسان على السلطة في البلاد.
أهداف متباينة:
اتفق المشاركون في المحادثات التي بدأت باجتماع أولي في المكسيك على مجموعة من الخطوط العريضة التي تُمثل إطار عمل للمفاوضات المستقبلية بين الحكومة والمعارضة، والتي من المقرر أن تُجرى فى أوائل سبتمبر المقبل. ويسعى الجانبان -من خلال المشاركة فى المفاوضات- إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها:
1- رفع العقوبات الأمريكية: تنظر الحكومة إلى مشاركتها في المفاوضات مع المعارضة السياسية كخطوة أساسية يمكنها أن تُسهم في كسب دعم المجتمع الدولي، و"استعادة" الحق في استخدام الأصول الفنزويلية المجمدة في الخارج، ورفع العقوبات الأمريكية على البلاد، والتي أدت إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وتعاني فنزويلا من حالة من السخط الشعبي، الذي يغذيه الارتفاع الهائل في التضخم وانقطاع التيار الكهربائي ونقص الغذاء والدواء. وقد ساهمت هذه الأوضاع في فرار أكثر من 5.6 مليون فنزويلي إلى خارج البلاد في السنوات الأخيرة. وقد رحبت الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي بالإعلان عن البدء في المفاوضات، وقالت إنها مستعدة "لمراجعة سياسات العقوبات إذا حقق النظام تقدمًا ملموسًا" في المفاوضات.
2- إدخال المساعدات الإنسانية: تتطلع المعارضة إلى أن تُسهم مشاركتها في المفاوضات في خلق حالة من التوافق مع الحكومة حول خطة لاستيراد الكميات اللازمة من اللقاحات المضادة لكوفيد -19، التي تحتاجها البلاد من أجل مواجهة الأزمة الصحية التي تعاني منها، خاصة مع تدني معدل تطعيم المواطنين الفنزويليين؛ إذ لم يتم تطعيم إلا نحو 3.9٪ فقط من سكان فنزويلا، البالغ عددهم 28.5 مليون نسمة، وفقًا لجامعة جونز هوبكنز.
وتُعاني فنزويلا من أزمة صحية قاسية، تفاقمت بفعل النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية نتيجة عدم توافر العملات الأجنبية، إضافة إلى مشكلة التلاعب باللقاحات وتوظيفها سياسيًا، في ظل المزاعم بقيام الحكومة بتقديم اللقاحات للأشخاص الموالين لها، مع حجبها عن المعارضين السياسيين.
وقد سجلت البلاد ما يزيد على 319 ألف إصابة وأكثر من 7000 حالة وفاة، ويُعد هذا الرقم أقل بكثير عن الأرقام الفعلية خاصة مع انخفاض عدد الاختبارات التي تُجريها السلطات الصحية يوميًا. وبالرغم من تقديم الولايات المتحدة ملايين من جرعات اللقاح المضاد لكوفيد – 19 إلى العديد من دول أمريكا اللاتينية، فإن فنزويلا لم تكن من بين هذه الدول، لكنها حصلت على لقاحات روسية وصينية.
3- تحسين الأوضاع السياسية: تستهدف المعارضة، من إجراء المفاوضات، إيجاد أسس قوية للتفاعل الإيجابي مع "اتفاقية الإنقاذ الوطني" التي اقترحها جوايدو في مايو الماضي، لإيجاد حل للأزمة المتفاقمة في البلاد، وذلك عبر إطلاق إجراء حوار شفاف وبنّاء مع حكومة مادورو وحلفائها المحليين ومنظمات المعارضة والمجتمع الدولي. وتحرص المعارضة من خلال المشاركة في الحوار مع الحكومة، على الدفع بمطالبها الساعية إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووضع برنامجًا زمنيى واضحًى للانتخابات الرئاسية، والحصول على ضمانات حقيقية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، خاصة مع استعداد الفنزويليين لانتخاب حكام ورؤساء بلديات في 21 نوفمبر المقبل. على الجانب الآخر، يُطالب الرئيس مادورو بالاعتراف بكل "السلطات الشرعية في فنزويلا"، كما يدعو المعارضة إلى نبذ العنف.
محددات النجاح:
ليست هذه المرة الأولى التي تجتمع فيها المعارضة مع الحكومة، حيث عُقدت جلسات سابقة في الأعوام 2017 و 2018 و 2019، وقد فشلت جميعًا. ويتوقف نجاح الجولة الجديدة من المفاوضات، التي تأتي بوساطة نرويجية، في إيجاد مخرج حقيقي للأزمة المتفاقمة في البلاد، على عدة عوامل:
1- توجهات النظام الحاكم: تحاول الحكومة الفنزويلية إبداء قدر من المرونة وتقديم التنازلات من أجل إنجاح المفاوضات، وهو ما برز بشكل جلي مع الإفراج عن السياسي الفنزويلي المعارض "فريدي جيفارا" من السجن بعد يومين من انعقاد الاجتماع بين ممثلي الحكومة والمعارضة. وسبق أن اُعتقل جيفارا في يوليو الماضي، ووجهت إليه تهمة الخيانة والإرهاب، ومن المتوقع أن يُشكِّل جزءًا من الفريق التفاوضي للمعارضة.
ومع ذلك، فمن الواضح أن حكومة مادورو تحاول "كسب الوقت"، و"تجميل صورة النظام" أمام الولايات المتحدة، التي طالبت السلطات الفنزويلية ببذل جهود جادة نحو إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية حرة ونزيهة، إذا كانت راغبة في تخفيف العقوبات المفروضة على البلاد.
2- اختلال موازين القوى السياسية: لا تمتلك المعارضة الفنزويلية أوراق ضغط كافية تمكنها من تحقيق الأهداف التي سعت لإنجازها خلال العامين الماضيين، وفي مقدمتها الإطاحة بالرئيس مادورو. ويعود ذلك إلى سيطرة الحكومة على كافة مؤسسات الدولة الفنزويلية، ومنها السلطتين التنفيذية والقضائية.
وكانت الجمعية الوطنية هي المؤسسة الوحيدة التي لا يسيطر عليها مادورو، واحتفظت المعارضة بأغلبية مقاعدها منذ عام 2015، ولكن فقد زعيمها "خوان جوايدو" رئاستها في الخامس من يناير 2020، كما فاز ائتلاف بقيادة حزب مادورو، الحزب الاشتراكي الموحد، بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية في الانتخابات التشريعية التي أجريت في ديسمبر 2020، وقاطعتها معظم أحزاب المعارضة.
وبالرغم من الدعم الدولي لجوايدو، فإنه لا يتمتع بقوة كبيرة من الناحية العملية، حيث ظلت قوات الجيش والشرطة موالية لمادورو، علاوة على افتقار المعارضة إلى الدعم الشعبي لمواقفها، وقد أصيب بعض الفنزويليين بخيبة أمل بسبب فشل جوايدو في إزاحة منافسه من السلطة، وهو ما برز مع التراجع الملحوظ في أعداد المشاركين في المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية التي تنظمها المعارضة من حين لآخر.
2- العامل الأمريكي: يُعد دور الولايات المتحدة محددًا محوريًا لمستقبل المفاوضات، وكذلك للأزمة السياسية الفنزويلية. وفي حين فرضت واشنطن خلال عهد الرئيس "دونالد ترامب" عقوبات واسعة النطاق على مادورو وكبار مساعديه، وكذلك صناعة النفط الفنزويلية، لكن هذه العقوبات فشلت حتى الآن في إضعاف مادورو بما يكفي لإبعاده عن منصبه.
ومع تولي "جو بايدن" رئاسة الولايات المتحدة، تصاعدت الآمال داخل فنزويلا في إمكانية تخفيف العقوبات الأمريكية عليها، في ظل تفضيل إدارة بايدن لحل تفاوضي - سلمي للأزمة هناك، وقد وافقت واشنطن فى الشهر الماضي على السماح للشركات غير الأمريكية بتصدير غاز البترول المسال إلى فنزويلا، وهي خطوة مهمة يمكن أن تُسهم في تخفيف الأزمة الإنسانية المتفاقمة هناك. مع ذلك، ثمة مجموعة من القيود التي قد تضعف من قدرة الرئيس بايدن على اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الحكومة الفنزويلية، منها رفع العقوبات الاقتصادية، ويأتي في مقدمتها، انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، والمقرر إجراؤها في عام 2022.
ومن المُرجح أن تتصاعد الضغوط على إدارة بايدن من قبل المواطنين الأمريكيين من أصول فنزويلية والكوبية، الذين يعارضون الرئيس مادورو، ويتركز هؤلاء في عدة مدن، وبالتحديد داخل ولاية فلوريدا، التي تُمثل كتلة تصويت حاسمة (29 مندوبًا في المجمع الانتخابي)، وهي أكبر ولاية أمريكية متأرجحة.
مسارات محتملة:
في ضوء المعطيات الخاصة بمواقف الأطراف الداخلية الفنزويلية، ودور الولايات المتحدة، يتضح وجود مساران محتملان لهذه المفاوضات التي من المقرر أن يُشارك فيها، أكثر من اثنتي عشرة دولة، بما في ذلك النرويج وروسيا وهولندا، وذلك على النحو التالي:
1- إطلاق عملية تفاوضية ممتدة: تُمثل العودة إلى طاولة المفاوضات تغييرًا ملحوظًا في مسار المعارضة التي اتهمت مادورو في الماضي باستخدام الحوار لكسب الوقت وتخفيف الضغط الدولي، وفي الوقت نفسه يُمثّل قبول الحكومة المشاركة في المفاوضات خطوة مهمة بعدما انسحبت من المحادثات التي جرت في باربادوس عام 2019، عقب تصعيد إدارة ترامب من وتيرة العقوبات المفروضة على فنزويلا.
بناء على ذلك، يمكن الإشارة إلى وجود فرص لنجاح المفاوضات في تحقيق نتائج مرضية للطرفين، ولكن بدرجة محدودة، ويتوقف هذا النجاح على ثلاثة عوامل، تتمثل في قبول الرئيس مادورو تقديم تنازلات ملموسة للمعارضة، وتوفير الأجواء اللازمة لإجراء الانتخابات الإقليمية بشكل حر وشفاف، واستمرار الموقف الأمريكي الذي يربط تخفيف العقوبات بإحراز تقدم ملموس في المفاوضات، وتبني المعارضة نهجًا تدريجيًا وواقعيًا بشأن مطالبها السياسية. وفي ضوء المعطيات المتوافرة، يمكن أن يؤدي الحوار بين الجانبين إلى انفراجة في الأزمة السياسية في البلاد، وربما سيسفر عن تنازلات من قبل النظام خاصة فيما يتعلق بملف السجناء السياسيين، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تخفيف نسبي للعقوبات الأمريكية.
2- الفشل وتعميق الأزمة المتفاقمة: تُطالب المعارضة الفنزويلية والإدارة الأمريكية بضرورة الإفراج غير المشروط عن جميع المعتقلين السياسيين، وضمان استقلال الأحزاب السياسية، وحرية التعبير بمن في ذلك أعضاء الصحافة، ووضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان.
وجميعها أمور يمكن أن يقدم الرئيس مادورو تنازلات بشأنها، وإن بدرجات متفاوتة، غير إن مطلب المعارضة بضرورة وجود ضمانات حقيقية تسمح لممثليها بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بشكل مستقل وبدون مضايقات من الحكومة، من غير المرجح أن يحظى بقبول مادورو، الذي نجح في البقاء في منصبه، خلال السنوات الماضية، بالرغم من كافة الضغوط الدولية التي تعرض لها، وليس من المُرجح أن تمارس إدارة بايدن ضغوطًا عليه أكبر من تلك التي فرضها الرئيس ترامب.
وفي ظل بقاء مادورو في منصبه، واستمرار قبضته القوية على مقاليد السلطة في البلاد، واستمرار موازين القوى الذي لا يصب في مصلحة المعارضة، التي تعاني من الضعف والتشرذم، فسوف تستمر الأوضاع السياسية في فنزويلا على حالها، وستتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بدرجة أكبر، الأمر الذى ستكون له تداعيات إقليمية خطيرة.