خلال أي انتخابات فلسطينية مرتقبة بعد إعلان الرئيس، محمود عباس، عن إجرائها في عموم الأراضي الفلسطينية، ثم قراره اللاحق بتجميدها، اعتراضًا على عراقيل إسرائيلية تمنع مشاركة أهالي القدس من التصويت، سيتمسك كل طرف على الجانبين الفلسطيني، والإسرائيلي، بألا يُتَّهم من معسكره بالتهاون في الدفاع عن القدس، برمزيتها السياسية- الدينية.
بعض قوى الداخل الفلسطيني على الرغم من تشددها على شاشات الفضائيات في الدفاع المستميت عن كل شبر من الأراضي الفلسطينية، ترحب بإجراء الانتخابات التي كانت مقررة في 22 أبريل الماضي، حتى دون أن تشمل العملية مدينة «القدس الشرقية»!!، بل إن هذه القوى راحت توظف قرار تأجيل الانتخابات في كيل الاتهامات للسلطة الفلسطينية، رغبة في تحقيق «مكاسب ضيقة».
يتواصل مخطط هذه القوى، التي تحاول «السطو»، على كل المؤسسات الفلسطينية الرسمية (المجلس التشريعي، الحكومة، الرئاسة، والمجلس الوطني لمنظمة التحرير)، بالرغم من اعتراض هذه القوى علانية، على الخطوة المؤسسة للنظام السياسي الفلسطيني اتفاق أوسلو الموقع 13 سبتمبر 1993، تحت عنوان: إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي!!
-
معركة تكسير العظام في الداخل الفلسطيني تغري الاحتلال، وتفتح أمامه الأبواب على مصراعيها للتقدم، ومحاولة شطب القضية من الوجود بمساعدة داخلية من أطراف فلسطينية. تتفنن أطراف بالداخل في عمليات الاستعداء البينية، مرة عبر ادعاء «تآكل شرعية النظام السياسي الفلسطيني/ الرئاسة، المجلس التشريعي...»، ومرة أخرى عبر تحريض الاتحاد الأوروبي حتى يوقف الدعم المالي عن السلطة الفلسطينية عقابًا لها على قرار تأجيل الانتخابات التشريعية، وتمسكها بالقدس!!
في ظل متغيرات كثيرة، لا تتوافر للرئيس، محمود عباس، حالة المرونة التي كان يتمتع بها الزعيم الراحل، ياسر عرفات.. تلك الحالة كانت تتبدى بقوة في الجمع بين ثنائية: «البندقية»، و«غصن الزيتون».. أيضا، لم تعد حركة «فتح»، التي كانت ولاتزال تحمل لواء الدفاع عن القضية مع قوى الثورة الفلسطينية، كما كانت، في ظل تعرض الحركة لحملة ضارية من «العمليات النفسية». استهدفت الحملة خلال العقدين الماضيين، تحديدًا، إفساح الطريق لقوى داخلية حديثة العهد بالنضال والمقاومة، يجرى التعامل معها من قوى إقليمية- دولية باعتبارها البديل الذي يسهل السيطرة عليه.. ومحوه، إذا لزم الأمر!
حتى هذه القوى الصاعدة التي تقدم نفسها كبديل لحركة فتح، ذات الدور التاريخي، سقطت في اختبارات عدة، بعدما تكشَّف للجميع أن بعضها «فائض قوة»، للعدو.. تبدَّى ذلك من خلال انزلاقها في صراعات سياسية إقليمية سوريا، لبنان، ليبيا، اليمن.
-
لم تتخل مصر قبل، وبعد يونيو 2013، عن القضية الفلسطينية.. واصلت الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في كل المحافل الدولية.. أنجزت بتوافق وترحيب جميع قوى الثورة والمقاومة الفلسطينية، «اتفاق المصالحة» اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني، 4 مايو 2011، حتى لا تتحجج إسرائيل وحلفاؤها الغربيون: من بروكسل إلى واشنطن، بأنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام.. نجح جهاز الاستخبارات العامة المصرية بنزاهة، وشرف، وإطلالة موسوعية على ملف القضية، في انجاز «الاتفاق»، بعد سنوات من اللقاءات والاجتماعات الماراثونية، تبدَّى خلالها تعنت أطراف في الداخل، ودعمها لخيار «إدارة الانقسام»، بدلا من «إنهائه»!!
تواصلتالجهود المصرية بالرغم من التقاطعات المثيرة للجدل، من بعض القوى الفلسطينية التي تحاول اختصار القضية في تياراتها، وقياداتها، فيما كل المحطات تكشف للداخل الفلسطيني أن هذه القوى شديدة الهشاشة في المعادلة الإقليمية، الدولية، حتى إنها لا تجد عند شدة الوطأة والتجبُّر الإسرائيلي، سوى مصر.. ومصر، فقط، التي واصلت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة محاولاتها المضنية لمد الجسور، مجددًا، بين القوى والتيارات الفلسطينية- الفلسطينية، والعمل على إحياء «اتفاق المصالحة»، بدلًا من وضعه في الأدراج، كما يحلو لبعض أطراف الداخل الفلسطيني!!!
وثيقة إنهاء الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني الموقعة برعاية مصرية في القاهرة، قبل نحو 3 سنوات، حاولت ترميم كل المساحات الرخوة، وتمكين حكومة الوفاق الوطني من ممارسة مهامها بشكل كامل والقيام بمسئولياتها في إدارة قطاع غزة كما الضفة الغربية، وسرعة إنجاز اللجنة القانونية الإدارية لإيجاد حل لموضوع موظفي القطاع، وإنهاء أزمة الرواتب، والانتهاء من إجراءات تسلم الحكومة لمعابر قطاع غزة.
-
تركت الوثيقة للقوى والفصائل حرية حسم الملف الأمني بالتوافق البيني، بعدما نصت وفق المسودة التي وقعتها حركتا: فتح، وحماس، على توجه قيادات الأجهزة الأمنية الرسمية العاملة في فلسطين إلى قطاع غزة لبحث سبل وآليات إعادة بناء الأجهزة الأمنية مع ذوي الاختصاص، قبل العودة للقاهرة لتقييم ما تم من التوصل إليه من اتفاقات، ثم عقد اجتماع لجميع الفصائل الفلسطينية الموقعة بالقاهرة على اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني 4 مايو 2011؛ لبحث جميع بنود المصالحة الواردة في الاتفاق المذكور!
يمكن الوقوف على صدى الجهود المصرية (ممثلة في دور جهاز الاستخبارات العامة المصرية)، من خلال «الاحتفاء الشعبي»، الفلسطيني، بعد توقيع وثيقة إنهاء الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني.. تبدى ذلك في رد الفعل المرحب بالضفة الغربية، فضلا عن توزيع الحلوى في شوارع غزة (الأكثر معاناة من استمرار الانقسام، وتأثيره المباشر على الأوضاع المعيشية اليومية: الخدمات، الرواتب، التنقل، لما يقرب من 2 مليون نسمة يعيشون في القطاع)، في ظل عدم وجود حكومة مركزية تتولى توفير الظروف المعيشية المناسبة لعموم الشعب.
-
بالرغم من الجهود المصرية، ظل التلكؤ الفلسطيني- الفلسطيني في تطبيق «اتفاق المصالحة»، سيد الموقف، إلى أن أطلت الرؤية الأمريكية المطروحة لحل القصية الفلسطينية (صفقة القرن)، برأسها على المشهدين الفلسطيني، والعربي. حينها، تذكرت الأطراف الفلسطينية «الاتفاق»، الموقع في مصر، وأنه لابد من التمهيد لحوار وطني شامل لإقرار آليات المصالحة وإنهاء الانقسام، لمواجهة الصفقة الأمريكية!
غير أن أزمة الداخل الفلسطيني ظلت مستمرة، منذ إعلان الطرح الأمريكي المثير للجدل، إلى أن تفاقمت الأوضاع، حاليًا، في مدينة القدس، عبر اتجاه إسرائيل لتهجير عائلات فلسطينية، قسرًا، من منازلها بحي الشيخ جراح، ثم قيام سلطات الاحتلال باقتحام المسجد الأقصى المبارك، والاعتداء على المقدسيين والمُصلين الفلسطينيين.
ربما يكون هناك شعور مصري بالمرارة نتيجة تلكؤ الفرقاء الفلسطينيين في تفعيل «اتفاق المصالحة» (الكفيل بتوحيد الصف الفلسطيني، وتعزيز قراره السياسي)؛ لكن ذلك لم يمنع القاهرة من التعاطي مع التطورات الدرامية. فقد بادرت وزارة الخارجية المصرية، بالإعلان عن بالغ إدانتها واستنكارها للممارسات الإسرائيلية. لقد وضعت مصر سلطات الاحتلال أمام مسئولياتها، وفق قواعد القانون الدولي، التي تنص على توفير الحماية اللازمة للمدنيين الفلسطينيين، وحقهم في ممارسة الشعائر الدينية، مع وقف أي ممارسات تنتهك حُرمة المسجد الأقصى المبارك وشهر رمضان المُعظّم، أو الهوية العربية الإسلامية- المسيحية لمدينة القدس، ومقدساتها، وعدم تغيّير الوضع التاريخي والقانوني القائم.. أدانت القاهرة المساعي، الحالية، لتهجير عائلات فلسطينية من منازلهم في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية.
-
الآن، تبدو أزمة حي الشيخ جراح بالقدس سياسية، قبل أن تكون ديموغرافية.. الرئيس محمود عباس قال: «لن نقبل تحت أي ظرف بإجراء انتخابات عامة دون السماح لسكان القدس الشرقية بالمشاركة فيها - ترشيحًا، تصويتًا، ودعاية انتخابية- لخضوعها قانونيًا للسيادة الفلسطينية، وغير ذلك تنازل عن حق الشعب الفلسطيني في القدس». في المقابل، تزعم إسرائيل سيادتها على القدس الشرقية، وأنها لن توافق على إجراء الانتخابات الفلسطينية فيها، بالرغم من ضغوط الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والعديد من الأطراف الدولية.
الرئاسة الفلسطينية كما نصف الممثلين في الرباعية الدولية التي تضم: الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، الولايات المتحدة وروسيا، مع إجراء الانتخابات في الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية.. هذه الأطراف تطالب الحكومة الإسرائيلية بتسهيل إجراء الانتخابات، فيما يواصل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، التمسك بمواقفه، التي تمنعه من الضغط على إسرائيل للالتزام بالاتفاق الموقَّع حول تنظيم الانتخابات الفلسطينية في القدس.
تعهد الرئيس محمود عباس أمام أعضاء اللجنتين التنفيذية لمنظمة التحرير والمركزية لحركة فتح، بأنه في لحظة الحصول على موافقة تنظيم الانتخابات في القدس، سيتم إصدار مرسوم والذهاب للانتخابات فورًا. إذن، جمود المشهد السياسي الفلسطيني ليس رغبة داخلية أو حرصًا من رئيس السلطة على الاستمرار في منصبه، بل مرجعها مواصلة سلطات الاحتلال التعنت، علمًا بأنه منذ عام 2006، لم يجر الفلسطينيون أي انتخابات عامة، سبقها بعام واحد فقط إجراء الانتخابات الرئاسية، التي فاز فيها، آنذاك، الرئيس محمود عباس، بولاية تستمر لأربعة أعوام.
في ضوء هذه الملابسات، يمكن الوقوف، على من يتآمر على مبدأ الشراكة الوطنية، والمصلحة العامة في فلسطين؟. يتكشف للجميع من يبدد التوافق الذي من شأنه تحقيق آمال وطموحات الشعب الشقيق، الراغب في إنهاء الانقسام، وتعزيز الجبهة الداخلية، وتحقيق الوحدة الوطنية من أجل إنجاز المشروع الوطني، ودوره في إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس، وحلم عودة اللاجئين؟. يحدث هذا بينما على الجميع تذكر دور مصر الراغبة في قطع الطريق على محاولات شطب القضية الفلسطينية من الوجود. إحدى هذه المحاولات أزمة «الشيخ جراح»، التي تتمدد حاليا!!