أصبحت المنافسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين هي العنوان الأبرز للقرن الحادي والعشرين، والشاغل الأساسي لصانع القرار الأمريكي. فخلال السنوات القليلة الماضية أصبحت ثوابت السياسة والإعلام في واشنطن تفيد بأن الوضع الراهن لسياسة الولايات المتحدة تجاه الصين لا يمكن أن يستمر، وأن صعود الصين قد وصل إلى نقطة تحول، بحيث أصبح مزيج الاحتواء والتجارة الذي ميّز السياسة الأمريكية لعقود من الزمان محكوماً عليه بالفشل، وهو ما دفعهم للقاء وسط أجواء مشحونة بالتوتر.
1- اجتماع مشحون بالتوتر
على مدار يومي 19 و20 مارس 2020، جرى اللقاء الأول بين القوتين الأبرز عالمياً، والذي جمع كبار الدبلوماسيين الأمريكيين والصينيين في ولاية ألاسكا الأمريكية، شارك فيها من الجانب الأمريكي وزير الخارجية أنتوني بلينكين، ومستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جاك سوليفان، ومن الجانب الصيني مدير مكتب اللجنة المركزية للشئون الخارجية يانغ جيه تشي، ووزير الخارجية وانغ يي. وصفت واشنطن المحادثات بأنها"صعبة ومباشرة"، وكشفت عن عمق التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم، حيث طرح الطرفان مواقفهما، لاسيما الولايات المتحدة التي عبرت بوضوح عن مخاوفها بشأن الصين، حول قضايا عدة، من النشاط في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وتايوان وهونغ كونغ، إلى حقوق الإنسان، والتنافس التكنولوجي، والهجمات الإلكترونية، والتجسس، ومعاملة أقلية الإيغور، والتجارة، والعلاقة الصينية مع إيران. وانتهت المحادثات بعد بداية نادرة وساخنة، عندما قام كل من الجانبين بتشويه سياسات الطرف الآخر أمام كاميرات التليفزيون.
ولم تسفر المحادثات عن انفراجة دبلوماسية، كما أن التناحر المرير العلني أشار إلى عدم وجود أرضية مشتركة تذكر بين البلدين من أجل إعادة ضبط العلاقات التي تدهورت إلى أدنى مستوى منذ عشرات السنين. واتَّسمت الفترة التي سبقت المباحثات بزيارات لمسئولين أمريكيين لليابان وكوريا الجنوبية، حليفتيّ واشنطن، وسلسلة تحركات من جانب الولايات المتحدة، أظهرت أنها تتخذ موقفاً حازماً من الصين.
وأعلن وزير الخارجية الأمريكي أنه لم يتفاجأ من تلقي الولايات المتحدة "رداً دفاعياً" من الصين، لكن بلينكن قال إن الجانبين لديهما أيضاً مصالح متقاطعة بشأن إيران وكوريا الشمالية وأفغانستان وتغير المناخ، وإن الولايات المتحدة قد أنجزت خلال الاجتماعات ما جاءت من أجله. وقال أيضاً "فيما يتعلق بالاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا، أخبرنا نظراءنا أننا نراجع هذه القضايا بالتشاور الوثيق مع الكونجرس، ومع حلفائنا وشركائنا، وسوف نمضي قدماً بشأنها بطريقة تحمي تماماً مصالح عمالنا وشركاتنا وتعززها".
فيما نُقل عن وزير الخارجية الصيني، قوله إن الصين أوضحت للجانب الأمريكي أن السيادة مسألة مبدأ، وعليها ألا تهوّن من تصميم الصين على الدفاع عنها، وإنها "لا تقبل الغزو، وإسقاط الأنظمة، وذبح شعوب الدول الأخرى"، في تلميح منه إلى الولايات المتحدة. وتابع قائلاً "من المهم لواشنطن أن تغير صورتها أولاً، وأن تتوقف عن تصدير ديمقراطيتها إلى العالم. وانتقد الوزير يانغ حديث الولايات المتحدة عن القيم العالمية، مشدداً على أن "لا الولايات المتحدة نفسها، ولا العالم الغربي يمثلان الرأي العام الدولي". وفي تعليق منه على العقوبات الأمريكية ضد بلاده قال"من المستحيل خنق الصين".
2- أزمات متعددة:
وصلت العلاقات بين بكين وواشنطن لأدنى مستوياتها بين البلدين، خلال رئاسة دونالد ترامب، لكن ذلك التدهور في العلاقات لم يحمل الطابع العسكري في أغلب الأحيان؛ بل تركَّز على الجوانب الاقتصادية والتجارية، ووصل إلى "الحرب التجارية" التي تمثلت في فرض الإدارة الأمريكية رسوماً جمركية على البضائع الصينية، وردّ بكين بالمثل. وتدهورت العلاقات أكثر، خلال العام الماضي، بسبب جائحة فيروس كورونا، وإصرار ترامب على تسميته "الفيروس الصيني"، ومع ظهور المؤشرات على هزيمة ترامب بالانتخابات الأمريكية في نوفمبر الماضي، بدا أن ذلك التدهور في العلاقات في طريقه للتوقف، وأن الأمور في طريقها إلى أن تشهد تحسناً تدريجياً بتلك العلاقات، خصوصاً مع النهج التعاوني على مستوى السياسة الخارجية الذي أعلنت إدارة بايدن أنها ستتبناه.
أولا- فرض الولايات المتحدة عقوبات على (24) مسئولاً من الصين وهونغ كونغ بسبب القمع الصيني للمعارضين في هونغ وكونغ، وما قيل عن تدخل صيني في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لمصلحة خصم بايدن.
ثانيا- يرى الشيوعي الصيني أن نظاماً قائماً على قيادة قوة عظمى ديمقراطية ويرتكز على قيم ديمقراطية هو نظام يشكّل تهديدًا وجوديًا لبقائه. وعلى الرغم من أن التوترات الصينية - الأمريكية قد بلغت ذروتها في عهد شي جين بينغ، فإن هذه التوترات تعكس شيئاً أعمق بكثير من مجرد طموحات متضخمة لرجل واحد هو (الرئيس الصيني الحالي). إذ كثيراً ما أكد كبار المسئولين الصينيين علناً وجهة النظر القائمة داخل الحزب بأن الولايات المتحدة دائماً كانت متمسكة برؤية تسعى إلى تقويض النظام الشيوعي. ووفقًا لـنظرية إسقاط النظام هذه، فإن ما سيُنهي المنافسة الصينية - الأمريكية حقًا هو التأثير المتراكم لضغوط داخلية عميقة تواجهها الصين، جنبًا إلى جنب مع صعوبات خارجية مستمرة. وتخشى المؤسسة الدبلوماسية في الحزب الشيوعي الصيني أن تشكل إدارة بايدن، بعد أن تدرك أن الولايات المتحدة ستعجز قريباً عن مجاراة القوة الصينية وحدها، تحالفًا قويًا يضم بلدان العالم الرأسمالي الديمقراطي، يهدف صراحة إلى التصدي للصين. ويخشى قادة الحزب الشيوعي الصيني تحديداً، أن يكون اقتراح الرئيس جو بايدن لعقد قمة لكبرى ديمقراطيات العالم خطوة أولى على هذا الطريق.
ثالثًا- واجهت الحكومة الصينية أيضاً مزاعم متعلقة بمجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان ضد شعب الإيغور وأقليات مسلمة أخرى، من ضمنها التعقيم القسري، والاعتداء الجنسي، والاغتصاب، واحتجاز أطفال الإيغور. لكن الحكومة الصينية تنفي احتجاز الإيغور بمعسكرات اعتقال بمنطقة شينجيانغ، شمال غرب الصين، وتقول إن هذه المعسكرات ما هي إلا مرافق مهتمة بـ "إعادة التثقيف"، يتم استخدامها في مكافحة الإرهاب. فضلاً عن الحملاتٍ القمعية في هونغ كونغ ومنغوليا الداخلية والتبت، وتشديد الخناق على المعارضين من المفكرين والمحامين والفنانين والمنظمات الدينية في جميع أنحاء الصين؛ ويعتقد الرئيس الصيني بأن بلاده لا ينبغي أن تخشى بعد الآن أي عقوبات يمكن أن تفرضها واشنطن على بلاده أو على المسئولين الصينيين كأفراد، ردًا على انتٌّهاك حقوق الإنسان. فهو يرى أن الاقتصاد الصيني صار الآن قويًا بحيث يكفى لتحمل مثل تلك العقوبات، وأن بوسع الحزب حماية المسئولين من أي تداعيات.
رابعًا- التهديد الصيني بغزو تايوان، في ظل تزايد أسباب التوتر الذي يدفع لهذا الاحتمال داخل الصين وتايوان على حد سواء، حذر الأدميرال فيليب ديفيدسون، الضابط العسكري الأعلى في واشنطن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مؤخراً من أن الصين قد تغزو تايوان في غضون السنوات الست المقبلة مع تسريع بكين لتحركاتها لتحل محل القوة العسكرية الأمريكية في آسيا. إن أقوى دافع لزيادة الإصرار الصيني على غزو تايوان هو الاقتناع المتزايد في بكين بأن النظام الغربي، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، في حالة تدهور. وفي العام الماضي قال شي إن "إعادة التوحيد السلمي لتايوان مع الصين"، ستكون الأفضل على الرغم من أنه لن "يتخلى عن استخدام القوة". ووصف اندماج تايوان مع الصين بأنه "أمر لا بد منه للتجديد العظيم للأمة الصينية في العصر الجديد"، وهو السبب الرئيسي الذي استخدمه لتبرير إلغاء حدود الفترة الرئاسية ليصبح أقوى زعيم للصين منذ ماو تسي تونغ. علاوة على ذلك، فإن حماية سياسة "الصين الواحدة"، والرغبة في توحيد البر الرئيسي الصيني هما متغيرات حاسمة تشكل تركيز بكين على التقدم العسكري.
خامساً- سنّ بكين لقانون الأمن القومي لهونغ كونغ في عام2020، وذلك على الرغم من ردود الفعل الدولية الشديدة. ويجرم قانون الأمن في هونغ كونغ المطالبة بالانفصال وأعمال التخريب والتواطؤ مع القوى الأجنبية، ويفرض قيودًا على تنظيم الاحتجاجات، وعلى حرية التعبير.
سادسًا- تفوق الصين على الولايات المتحدة لتصبح الوجهة الأولى في العالم للاستثمار الأجنبي المباشر الجديد خلال عام 2020، حيث زادت جائحة كورونا من وتيرة التحوّل نحو الشرق في مركز ثقل الاقتصاد العالمي. وأظهرت بيانات رسمية أن الناتج المحلي الإجمالي للصين نمّا (2.3%) في 2020، لتصبح الصين الاقتصاد الكبير الوحيد في العالم الذي تفادى انكماشاً، خاصةً في ظل تدهور معظم الاقتصادات الكبرى الأخرى في العام الماضي. ويشعر الحزب الشيوعي حالياً بثقة متزايدة في أنه بحلول نهاية العقد الجاري سيتخطى الاقتصاد الصيني أخيراً اقتصاد الولايات المتحدة ليكون الأكبر في العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي في معدلات الصرف السوقية. لكن الصين في الوقت نفسه مستمرة في التقدم على جبهات أخرى كذلك؛ إذ تهدف الخطة السياسية الجديدة، المُعلنة في الخريف الماضي، إلى تمكين الصين من الهيمنة في جميع مجالات التكنولوجيا الجديدة -بما في ذلك الذكاء الاصطناعي- بحلول عام 2035. وتنوي بكين إكمال برنامج التحديث العسكري الخاص بها بحلول 2027، وهدفه الرئيسي هو منح الصين ميزة حاسمة في جميع التصورات المحتملة إذا ما حدث نزاع مع الولايات المتحدة على تايوان.
سابعاً- في تحدٍّ واضح لواشنطن، ولأولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وقعت بكين وطهران في 27 مارس 2021، اتفاقية تعاون يكون أمدها (25 عاما) تستثمر فيها الصين ما مقداره (400) مليار دولار في مختلف القطاعات الاقتصادية الإيرانية، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن للتعبير عن قلقه من هذه الاتفاقية. كما قررت الصين زيادة وارداتها النفطية من إيران وفنزويلا بشكلٍ حاد، وهي خطوة تُقوّض النفوذ الدبلوماسي الرئيسي الذي تحتاجه واشنطن لاستئناف المفاوضات المتوقفة منذ فترةٍ طويلة.
3- حرب باردة جديدة
إن ما كشف عنه هذا اللقاء بين القوتين يؤكد أن الحرب الباردة بينهما قد دخلت بالفعل مرحلة جديدة تتخطى التعامل الدبلوماسي الحذر إلى الصراع المفتوح على كافة الاحتمالات. وتسعى الولايات المتحدة إلى بناء تحالف جديد يضم شبكة من البلدان. هذا التحالف الذي يضم استراليا، واليابان، والولايات المتحدة، والهند، قد عقد اجتماعاً افتراضياً في 12 مارس 2020. صحيح أن هذا التحالف موجود منذ أكثر من عقد من الزمان، لكن واشنطن التفتت إليه في السنوات الأخيرة، مع اشتداد التنافس بين أمريكا والصين. وكان الاشتباك العام الماضي بين القوات الهندية والصينية على طول حدودهما المتنازع عليها في جبال الهيمالايا هو الأكثر دموية منذ أكثر من خمسة عقود، ووفر فرصة إضافية لواشنطن للتقرب من نيودلهي.
كما عبَّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبيرغ، العام الماضي، عن قلق بالغ، عندما قال إن الصين "تقترب (منا) في الفضاء السيبراني، ونراهم بالقطب الشمالي، وفي إفريقيا، ونراهم يستثمرون في بنيتنا التحتية الأساسية"، وكانت تلك هي نهاية ذلك الزمن الذي كانت فيه عبارة "صُنِع في الصين" تُطلَق باعتبارها مزحة. ثم كرر ستولتنبرغ، التحذير خلال اجتماع للناتو في بروكسل، 24 مارس 2021، أنه يتعيَّن على حلف الناتو أن يوحِّد قواه مع الدول الصديقة في جميع أنحاء العالم لمواجهة القوة المتنامية للصين، في الوقت الذي توحِّد فيه الدول الغربية صفوفها ضد بكين. كما انضمَّ الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا للرقابة الأمريكية على انتهاكات الصين في شينجيانغ بفرض عقوبات، وذلك في أول تحرك غربي منسق ضد بكين، في ظل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ. وقد تناغمت بيانات استراليا ونيوزيلندا في إدانتها ممارسات بكين.
بينما ردت بكين فورًا بإجراءات عقابية ضد الاتحاد الأوروبي، بدت أوسع نطاقاً، فأدرجت على القائمة السوداء مشرعين ودبلوماسيين أوروبيين ومراكز أبحاث، ومنعت شركاتهم من التجارة مع الصين. كما زار وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الصين في 22 مارس 2021، حيث حثَّ الصين على توحيد الجهود من أجل تفكيك قبضة الدولار الأمريكي على نظام المدفوعات الدولي الذي يسمح بفرض عقوباتٍ أمريكية. وقال لافروف "إن الولايات المتحدة كانت تعتمد على التحالفات العسكرية السياسية في حقبة الحربة الباردة".
ختامًا، تتنوع النتائج المحتملة عن المنافسة بين أمريكا والصين، وتتأرجح بين مآلات عدة: من تنازل الولايات المتحدة عن نفوذها للصين، أو توافق متبادل، ومن انهيار صيني، إلى صراع عالمي مدمر. ومع ذلك، إذا كان الهدف من المنافسة بين أمريكا والصين هو تأمين سلام يقوم على أسس أرسخ بوسائل غير الحرب، فإن السؤال المحوري في هذا السياق هو ما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع بلوغ هذه النتيجة عن طريق تغيير تصورات القادة الصينيين -إقناعهم بأن التوسع وتعظيم النفوذ على هذا النحو أمرٌ لا طائل من ورائه- أو ما إذا كان الأمر سيتطلب العمل على انهيار القوة الصينية، أو إسقاط الحزب الشيوعي الصيني.