يبدو أن تنظيم "داعش"، الذي صار يعانى بشكل واضح الانحسار والتراجع، خلال الفترة الماضية، بعد أن تعرض هيكله التنظيمي للانهيار التام فى سوريا والعراق، يحاول في المرحلة الحالية تعويض ذلك عن طريق التوسع فى شن الهجمات الخارجية، خاصة فى المناطق البعيدة عنه جغرافيا، والتي كشفت عنها الهجمات الدموية التي استهدفت سريلانكا، وذلك من خلال سلسلة تفجيرات منسقة، استهداف كنيستين و4 فنادق في العاصمة كولومبو ومناطق واقعة حولها، وكنيسة ثالثة في الساحل الشمالي الشرقي للبلاد، فى 21 أبريل الماضي، مما أودى بحياة ما يقرب من 359 شخصا، فيما تجاوز عدد المصابين الـ 500 شخص، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مهما حول أسباب أستهدف التنظيم لـ "سريلانكا" في ذلك التوقيت، لاسيما أن الهجمات قد جاءت بعد أيام قليلة من إعلان التنظيم عن أول هجوم له في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي أطلق عليها مسمى "ولاية وسط إفريقيا".
وقفات مع الهجوم:
على خلاف المعتاد، تأخر تنظيم "داعش" في إعلان مسئوليته عن هجمات سريلانكا، لاسيما أنه من المعتاد أن يبادر بإعلان مسئوليته عن الهجمات الإرهابية، خاصة تلك التي تستهدف دور العبادة، للتفاخر والتباهي بها على استهدافه الكاتدرائية الكاثوليكية في مدينة هولو الفلبينية، فى 27 يناير 2019، وأسفرت عن مقتل 27 شخصًا، والتي أعلن مسئوليته عنها عقب الهجوم بوقت قصير. فيبدو أن تنظيم "داعش" تعمد التأخر فى إعلان مسئوليته لإحداث حالة من الزخم الإعلامي والسياسي للهجمات، خاصة أنها تعد أعنف هجماته الخارجية على الإطلاق، نظراً لأعداد الضحايا التي وصلت للمئات.
وقد كان من اللافت أن تلك الهجمات جاءت بعد فترة وجيزة من سقوط الباغوز، آخر معاقل داعش في سوريا، على يد "قوات سوريا الديمقراطية" مما يشير إلى أن التنظيم يحاول توجيه رسائل متعددة، تفيد قدرته على تنفيذ هجمات دموية في مناطق جديدة من غير المتوقع استهدافها، وذلك عقب تراجع نفوذه ونشاطه في المناطق الرئيسية التي كان قد سيطر عليها في سوريا والعراق خلال الأعوام الماضية.
من جهة أخرى، ورغم اتهام السلطات السريلانكية لـ"جماعة التوحيد الوطنية" بالمسئولية عن تلك الهجمات، فإن المعطيات الأولية كانت تشير إلى خلاف ذلك، حيث إن الجماعة لم يسبق لها من قبل شن هجمات إرهابية أو ممارسة العنف داخل البلاد، حيث يقتصر نشاطها على العمل الدعوى والاجتماعي، مع وجود حالة من العداء العقائدي تجاه الديانة البوذية، ظهر من خلال سخرية بعض عناصرها من معتقداتها الدينية، في حين أن تلك الهجمات المنسقة تحتاج إلى عناصر لديها احترافية وخبرة كبيرة فى ممارسة الهجمات الإرهابي، والقدرة على الرصد والتنفيذ بشكل جيد، وهو ما يحتاج إلى عناصر تلقت تدريبات لفترة طويلة في إحدى بؤر الصراع.
وحتى مع افتراض أن الجماعة كانت ترغب فى شن هجمات إرهابية داخل سريلانكا، فقد كان من الأولى بها –طبقاً لآليات الصراع والنهج العقائدي- أن تستهدف المعابد البوذية وليس الكنائس المسيحية، وهو ما يشير إلى أن من نفذ تلك الهجمات أحد التنظيمات الكبيرة العابرة للقارات، على غرار تنظيم "داعش" الذي يركز على استهدف المسيحيين فى المناطق التي تنشط فيها عناصره، على خلاف تنظيم القاعدة الذى يحرص بشكل رئيسي على استهداف القوات العسكرية.
لكن فى المقابل، فإنه رغم إعلان تنظيم "داعش" مسئوليته عن الهجمات، فإنه من الصعب على التنظيم إدخال عناصره الأجنبية إلى سريلانكا لتنفيذ مثل تلك الهجمات، دون اكتشاف أمرهم، خاصة أن مثل تلك الهجمات تحتاج إلى وقت طويل من الإعداد الدقيق، الى جانب الخبرة العملياتية لتنفيذها بهذا الشكل المحترف، وهو ما تؤيده تصريحات ساراث فونيسكا، القائد السابق لجيش سريلانكا، وزير التنمية الإقليمية، أمام البرلمان فى 24 أبريل 2019، والتي قال فيها إنه يعتقد أن التفجيرات التي وقعت يوم عيد الفصح "لا بد أنه جرى التخطيط لها طوال سبع أو ثماني سنوات على الأقل".
وبالتالي، يمكن القول إن تنظيم "داعش" هو من قام بتنفيذ تلك الهجمات الدموية، لكن من خلال مجموعة من عناصر جماعة التوحيد الوطنية، تمكن التنظيم من استقطابهم وتجنيدهم للقيام بتلك التفجيرات، دون علم أو قيادة الجماعة، خاصة أن "داعش" صار يركز، خلال الفترة الأخيرة، على استقطاب المتطرفين من الجماعات الأخرى، كونهم مؤهلين فكرياً وعقائدياً للانخراط في صفوفه، وربما هذا ما يفسر اتهام الحكومة السريلانكية لجماعة التوحيد الوطنية بأنها هى التى تقف وراء الهجمات.
دوافع متعددة:
يمكن تفسير استهداف تنظيم "داعش" لسريلانكا فى ذلك التوقيت، في ضوء مجموعة من الأمور المرتبطة بشكل رئيسي بالتنظيم وبالأوضاع الداخلية في البلاد، يمكن تحديد أبرزها في النقاط التالية:
القصور الأمني: يحرص تنظيم "داعش" على شن هجماته الإرهابية فى المناطق التي تتسم بالقصور الأمني، ومن غير المتوقع شن الهجمات بها، نظراً لأن ذلك القصور يعنى تراجع قدرة مؤسسات الدولة على الاضطلاع بدورها بشكل فعال في مواجهة التهديدات المحتملة، وهو ما توافر بشكل واضح فى سريلانكا، حيث أفادت العديد من التقارير بوجود قصور أمني شديد من قبل المؤسسات الأمنية، لدرجة أنها لم تأخذ فى الحسبان العديد من التحذيرات بشأن احتمالية وقوع هجمات إرهابية داخل البلاد خلال الفترة القادمة، وهو ما استغله التنظيم فى شن تلك الهجمات، وهو ما أشارت إليه تصريحات نائب وزير الدفاع السريلانكى فى 24 أبريل 2019، والتى قال فيها "إن الهجمات الدموية كان يمكن تفاديها"، وهو ما أدى إلى إقالة العديد من القيادات الأمنية، إثر تلك الهجمات.
القدرة على البقاء: جاءت هجمات "داعش" فى سريلانكا بعد وقت وجيز من إعلانه عن أول هجوم له في جمهورية الكونغو الديمقراطية، مما أدى إلى مقتل جنديين ومدني، وذلك فى 18 أبربل 2019، وهو ما يشير إلى أن تنظيم "داعش" يهدف من وراء هجماته الخارجية بشكل عام، وتفجيرات سريلانكا، إلى إثبات قدرته على البقاء، وعدم تأثره بالحرب الدولية ضده منذ سنوات، وذلك فى ظل تفاقم أزماته بعد عجزه عن استعادة المناطق التى خسرها فى سوريا والعراق، بل واقتراب نهاية قادته من أمثال أبو بكر البغدادي، مما يدل على احتمالية تصاعد الهجمات الخارجية لـ "داعش" خلال المرحلة القادمة، ليس عن فقط عن طريق مجموعاته الخارجية وفروعه التقليدية فحسب، على غرار ولاية خراسان وغرب إفريقيا، وإنما من خلال خلايا كامنة فى بعض الدول، وبالتالي إيصال رسالة مفادها أنه لا يزال في جعبته الكثير من الأوراق التي يهدد بها العالم، وأن الحرب الدولية ضده لم تتمكن من القضاء عليه أو حتى تحجيم نشاطه.
الأذرع الطويلة: يبدو أن هدف تنظيم "داعش" من وراء هجماته على سريلانكا، التى تعد من الدول البعيدة عنه جغرافيا، ليس فقط تأكيد قدرته على البقاء، وإنما، إثبات قدرته على التمدد في مناطق متفرقة وفي وقت واحد، من خلال عناصره وخلاياه النائمة، المنتشرة فى مناطق متعددة من العالم، على غرار أفغانستان، والفلبين، وشمال إفريقيا، ونيجيريا، إلى جانب الكونغو الديمقراطية أخيرا.
يسعى التنظيم من وراء تصعيد هجماته الخارجية إلى إثبات أنه صاحب الأذرع الطويلة، القادرة على شن الهجمات الإرهابية في مناطق ودول متعددة، مهما اعُتقد أنها بمنأى عن ضرباته، وبالتالي لا تزال لديه القدرة على المحافظة على الشعارات التي سبق أن تبناها منذ نشأته، وعلى رأسها شعار "باقية وتتمدد"، الذي أصبح موضع شكوك عديدة بعد التطورات الميدانية التي قلصت من القدرات العسكرية والبشرية للتنظيم.
الهدف الرخو: يبدو أن حالة التراجع الكبيرة التي يعانيها تنظيم "داعش" دفعته لتصعيد هجماته الخارجية من أجل خلق حالة من التماسك التنظيمي بينه وبين فروعه ومجموعاته الخارجية، حتى لا يواجه شبح الانهيار بسبب الهزائم العسكرية التي منى بها خلال الفترة الأخيرة، وذلك من خلال شن هجمات دموية تركز على ما يمكن تسميته بالهدف الرخو – بالنسبة للتنظيم- على غرار الكنائس ودور العبادة، نظراً لوجود أعداد كبيرة بداخلها، وعدم توافر الحماية التي تتمتع بها المقرات العسكرية والأمنية والحكومية، وهو ما يعنى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، مما يجعلها ضربات مؤلمة للغاية.
مواجهة الضغوط: تعكس هجمات سريلانكا، التي تعد أضخم الهجمات الخارجية للتنظيم، من حيث عدد الضحايا، رؤية اتجاهات عديدة، تشير إلى مدى تصاعد الضغوط التي بات يتعرض لها التنظيم حاليا، خاصة بعد أن أسهمت الهزائم العسكرية في تضييق الخناق على قادته، خاصة زعيمه البغدادي، على نحو يزيد من احتمال اعتقاله أو قتله، في مرحلة لاحقة، وهو ما يدفع "داعش" للاستعداد لتلك الضغوط مسبقًا من خلال تنفيذ عمليات إرهابية في مناطق مختلفة من العالم، خاصة الهجمات الانتحارية التي صار يعتمد عليها بشكل واضح أخيرا، حيث كشفت الشرطة السريلانكية، فى 24 أبريل الماضى، أن التحقيقات أكدت وجود 9 مفجرين انتحاريين، بينهم امرأة، وقد تم تحديد هوية 8 منهم.
على ضوء ما سبق، يبدو أن مساعي تنظيم "داعش" لمواصلة هجماته الإرهابية الخارجية سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة، خاصة كلما تعرض لمزيد من الضربات العسكرية في المناطق التقليدية التي كان يسيطر عليها فى العراق وسوريا، وهو ما يفرض على دول العالم رفع مستوى التنسيق الأمني فيما بينها للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها استراتيجية تنظيم "داعش" الخارجية.