مثّل نظام البعث-الأسد الحاكم في سوريا شريكاً إقليمياً رئيسياً للنظام الحاكم في إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979. ومع اختلاف العوامل المحددة لتلك الشراكة وغايتها ودرجة الترابط في ظلها، من مرحلة إلى أخرى، فقد ظلت تلك الشراكة أحد المتغيرات الرئيسية في المعادلات السياسية والأمنية الإقليمية الحاكمة في الشرق الأوسط طوال تلك العقود.بل وتزايد تأثير تلك الشراكة فى الأوضاع الإقليمية مع ازدياد عمق تلك الشراكة وقوتها ومداها، خلال سنوات حكم الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، وأضحت مكوناً رئيسياً من مكونات السياسة الخارجية لكلا النظامين الحاكمين في سوريا وإيران خلال السنوات الماضية، وصار متعارفاً على وصفها بـ "التحالف الاستراتيجي" من قبل العديد من الساسة والمراقبين المعنيين بشئون المنطقة.
كما أصبحت تلك الشراكة، بالتالي، هدفاً للهجوم عليها وتفكيكها من قبل المنافسين الإقليميين لإيران بخاصة. ورغم أن الغايات بعيدة المدى لكلا النظامين السوري والإيراني ليست موحدة بالضرورة، فإن التماثل الكبير في كتلة المنافسين لكلا النظامين ربما كان العامل الرئيسي في تعزيز هذه الشراكة.
وغني عن البيان أن الثورة السورية الراهنة والأزمة التي تطرحها أمام النظام الحاكم في دمشق تمثل تحدياً جسيماً وخطيراً لسياسة إيران الإقليمية، ومؤشراً على تغير جوهري في معادلة الصراع بينها وبين العسكر المناوئ لها، سواء كان إقليمياً أو دولياً.
لقد مثلت سوريا في السنوات الأخيرة ركناً رئيسياً في سياسة إيران الخاصة بتعزيز نفوذها الإقليمي، وكذلك في سياستها الدفاعية، فضلاً عن كون دمشق- لاعتبارات جغرافية وقومية- مثلت حلقة الوصل والارتباط الرئيسية بين طهران وعدد من أهم حلفائها من الحركات السياسية في الإقليم، خاصة في لبنان وفلسطين، اللتين تلاقت مصالحهما وتوجهاتهما مع السياسة الإيرانية، بل وكانت في كثير من الأحيان أداة لتلك السياسة.
وكل تلك العناصر جميعاً تعد جزءاً محورياً من معادلة الصراع التي تخوضها طهران مع العديد من القوى الإقليمية والدولية بشأن برنامج إيران النووي وطموحها في لعب دور امبراطوري إقليمي.
وبغض النظر عن مدى شرعية مواقف كل من أطراف تلك المعادلة، فإن أي تغيير سياسي في سوريا سيلقى بآثاره وتبعاته على السياسة الإقليمية لإيران، وعلى معادلة الصراع المشار إليها آنفاً بشكل ربما يعيد صياغة احتمالات الصراع والحرب في الإقليم في المديين المنظور والمتوسط.
ولفهم التحول المحتمل في سياسة إيران الإقليمية جراء أي تغيير سياسي في سوريا والخيارات الإيرانية لمواجهته، سنحاول تحديد أسوأ سيناريوهات التغيير بالنسبة للمصالح الإيرانية، ومن ثم محاولة توقع النهج الذي يمكنها من خفض تلك الآثار السيئة.
"التغيير الأسوأ لطهران"
ويظن كاتب التحليل أن ما تشهده سوريا حالياً وأي تغيير قد ينتج عنه سيكون مضراً بدرجة ما بمصالح إيران التي كانت تتحقق لها من العلاقة مع دمشق، في ظل أوضاع النظام السوري قبل تلك الثورة العارمة التي تعرفها سوريا حالياً.
إن أي تغيير ستشهده سوريا، سواء باستمرار بعض أركان النظام الحالي مع تحقيق قدر واسع من الانفتاح الداخلي، أو برحيل النظام الحالي كاملاً وبروز نظام جديد، سيكون أحد عناصره تحقيق قدر أكبر من الانفتاح الخارجي الإقليمي والدولي لضمان مزيد من الدعم للوضع الجديد، ولخفض درجة الضغوط على وضع سيكون بطبيعته هشاً بالضرورة.
ويزيد من هذا التوقع حقيقة تزايد الضغوط العربية والدولية على نظام الأسد، عقب أسلوب تعاطيه مع مظاهرات مواطنيه، والتي لن يمكن الرجوع عنها، أي تلك الضغوط، إذا ما استمر نظام الأسد، ليس فقط على سياساته الداخلية نفسها، ولكن أيضاً على سياساته الإقليمية كذلك.
في هذا السياق، يتمثل التغيير الأسوأ، من منظور المصالح الإيرانية، في تبني أي نظام سوري ينشئ عن الأزمة الحالية توجهات تتماهى بشكل كامل مع المعسكر المناوئ لإيران.
وفي هذه الحال، فإن خسارة إيران لن تقتصر على خسارة الطرف السوري، بما يعنيه ذلك من خصم من رصيد النفوذ السياسي والعسكري لإيران إقليمياً، وإنما ستمثل سوريا بالتالي عنصر تهديد لبقية عناصر معادلة النفوذ والتأثير الإيرانية، والتي كان التواصل الإيراني معها يرتبط بنظام الأسد.
وسيبرز ذلك، تحديداً، في إمكانية خنق حزب الله في لبنان سياسياً ولوجيستياً، والتأثير في مواقف القوى الفلسطينية المعارضة، والتي كانت تجد في دمشق تقليدياً النصير والملجأ. هذا السيناريو تتوافر له عدد من المعطيات التي قد ترجحه:
فأولاً، قد يعزز القمع المتزايد الذي يمارسه النظام الحاكم في سوريا من معادلة المبارة الصفرية بين هذا النظام وفئات الشعب الثائرة عليه، بمعنى أن فشل النظام في قمع الثورة وكسر عظام الثوار، مثلما يحاول حالياً، قد يدفع هؤلاء إلى محاولة نفي هذا النظام نهائياً، ليس بشخوصه، وإنما بتوجهاته وتحالفاته داخلياً وخارجياً على السواء.
ثانياً، قد يعزز من تأثير العامل السابق الاتهامات التي توجه لإيران بدعم آلة القمع السورية في مواجهة الثورة، وقد وردت تلك الاتهامات صراحة على لسان مسئولين أمريكيين، كما يتردد صداها في العديد من التقارير الإعلامية التي تتحدث عن زيارات لمسئولين أمنيين إيرانيين إلى سوريا وعن دعم لوجيستي لقوات الأمن السورية. وقد أفاد موقع صوت الحرية الأخضر (The Green Voice of Freedom)الإصلاحي الإيراني بأن نائب قائد الشرطة الإيرانية، أحمد رضا رادان، الذي أشرف على قمع المظاهرات التي شهدتها إيران، عقب فوز الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بانتخابات الرئاسة في عام 2009، قد زار دمشق في منتصف أبريل الماضي لتقديم المشورة للقيادة السورية في كيفية التعاطي مع المظاهرات في سوريا.
ولاحقاً، شملت رادان، في 29 يونيو الماضي، العقوبات التي تفرضها وزارة الخزانة الأمريكية على المسئولين عن قمع المظاهرات السورية. وفي 24 يونيو الماضي كذلك، شملت قائمة عقوبات أوروبية ثلاثة من قادة الحرس الثوري الإيراني بتهمة التورط في تقديم دعم للنظام السوري في قمع المظاهرات.
ثالثاً، رغم نفي طهران لتلك الاتهامات ودعوتها إلى حوار سلمي لحل الأزمة في سوريا، فإن إيران التي رحبت بالثورات في تونس ومصر واليمن واعتبرتها رفضاً للنفوذ الغربي في المنطقة، فإنها تبدو عاجزة عن انتقاد سياسة حليفها السوري في قمع المتظاهرين، أو دعم مطالبة المتظاهرين السوريين بالتغيير.
تلك المعضلة تجعل موقف إيران الأضعف بين القوى الدولية والإقليمية في التنافس على الثورة السورية، حيث تتصدر تركيا المشهد من خلال قدرتها على التواصل مع النظام السوري، واحتفاظها في الوقت ذاته بمسافة منه تتيح لها انتقاده، والتواصل مع رموز من قوى المعارضة السورية.
وبالمثل، صرحت السعودية، ومن خلفها بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، برفضها لسياسة القمع التي تنتهجها دمشق. بل وفسرت بعض التحليلات الموقف السعودي، الذي تم الإعلان عنه في بيان يحمل اسم العاهل السعودي ذاته، باعتباره اصطفافاً مع الأغلبية السنية في مواجهة حكم الأقلية العلوية. وأخيراً، فقد تدرج الموقف الأمريكي من المظاهرات في سوريا من مطالبة الرئيس الأسد بالإصلاح، وصولاً إلى مطالبته بالتنحي على لسان الرئيس باراك أوباما نفسه في 18 أغسطس الجاري.
كل تلك المواقف بقدر ما تمثل من ضغط إقليمي ودولي على دمشق، فإنها تمثل خصماً من قدرة إيران على التواصل مع الطرف الآخر في الأزمة السورية، ألا وهي القوى الثائرة، ويجعل من انتصار هذه الأخيرة تحديا خطيرا لطهران.
هذا التحول بعيداً عن إيران قد يتحقق كذلك من خلال سيناريو أقل احتمالاً يتمثل في"انفجار انشطاري" داخل النظام السوري يضحي ببعض عناصره، ويتماهى مع مصالح المعسكر المناوئ، حال تأكد النظام السوري من عجزه عن قمع الثورة وتهديدها لوجوده بشكل حال.
معادلة الصراع المحتملة
استناداً إلى تلك التداعيات، يمكننا أن نفترض بدرجة كبيرة من الثقة أن إيران تعد، ومن الآن، كافة الخيارات والإمكانيات لخفض أضرار هذا التحول المحتمل من قبل دمشق بعيداً عن تحالفها مع طهران. ونتوقع في هذا السياق أن تمتد ساحة المواجهة لهذا السيناريو وتداعياته من سوريا وعبر الإقليم، وصولاً إلى الداخل الإيراني ذاته، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:
1- داخل سوريا: حال تأكد إيران من أن أي تغيير سياسي في سوريا سيحمل في طياته تحولاً عن التحالف معها، فإن خيارها المتوقع سيكون محاولة إشاعة الفوضى الشاملة في البلاد، لمنع أي نظام جديد من العمل ضد مصالح إيران وحلفائها الآخرين في الجوار السوري، وحتى يتاح لها، في ظل عدم وجود حكومة مسيطرة بشكل تام في سوريا، إيجاد قنوات لاستمرار تمرير دعم لوجيستي لـ "حزب الله" اللبناني عبر الأراضي السورية. ولعل أول مداخل إيران للعب هذا الدور هو المدخل الطائفي. فرغم هيمنة العنصر العربي السني على المجتمع السوري، فإن الانقسامات الطائفية في إطاره قد تصبح حادة، حال أي تغيير يحاول إقصاء الطائفة العلوية كلية، وليس فقط حكم آل الأسد. أما المدخل الثاني، فهو جعل سوريا قاعدة للتنظيمات الإرهابية، على غرار تجربة ما بعد إسقاط صدام حسين في العراق.
2- عبر الإقليم: يتوقع سعي إيران، في المرحلة الحالية، لتعزيز سيطرة حزب الله على السلطة في لبنان، وتعزيز قوته العسكرية بأقصى قدر ممكن، لاستخدام لبنان كجبهة متقدمة فقط، في حال شن هجوم إيران، وليس ما دون ذلك من مواجهات مثلما كان يتم سابقاً. إذ إنه في حال دخول حزب الله في أي مواجهة مع إسرائيل، وفي حال انقطع بالفعل خط الإمداد عبر سوريا، سيكون من الصعب على إيران تعويض الخسائر في العتاد التي قد يتعرض لها الحزب بشكل سريع. في المقابل، يمكن توقع- حال التأكد من وجود نظام سوري يتماهى مع المعسكر المناوئ لإيران- أن يكون حزب الله هدفاً للعديد من القوى اللبنانية والإقليمية والدولية، لمحاولة كسر نفوذه السياسي في لبنان، فضلاً عن التخلص من قوته العسكرية.
ويرجح ذلك أن ينتهج الحزب سياسة تهدئة تقيه أي مواجهات داخلية أو خارجية لا تستهدف وجوده مباشرة أو تستهدف إيران. وسيكون البديل المتوقع أمام إيران هو إشاعة عمليات اغتيالات وعنف إرهابي عبر الإقليم في دوائر بعيدة عن لبنان. وفي هذا السياق، يمكن فهم تصاعد العنف داخل إسرائيل، لكن بما يقود ردها باتجاه الأراضي المحتلة في الضفة وغزة أو حتى سيناء المصرية.
خليجياً، وخشية فقد المزيد من أوراق نفوذها، فإنه لا يتوقع أن تدفع إيران الأقليات الشيعية لإثارة اضطرابات في المدى المنظور، خاصة بعد خبرة مواجهة الاضطرابات الأخيرة في البحرين. إذ إن قمع أي حركات احتجاج شيعية، وتحطيم أي بناء تنظيمي لها في المرحلة الحالية، قد يفقدان تلك الأقليات القدرة على الحركة في مرحلة لاحقة، حال تعرض إيران لأي هجوم عسكري.
3- داخل إيران: مع فقد إيران أقوى حلفائها الإقليميين، يتوقع أن تركز إيران على تسريع برنامجها النووي في المدى القريب، ليكون هو أداة الردع والنفوذ الرئيسية لها. وما قد يشجع إيران على ذلك هو استبعاد إمكانية شن هجوم عسكري عليها في ظل الاضطرابات الإقليمية الراهنة، حيث تثور مخاوف داخل إسرائيل حالياً من تهديدات أمنية قد تطولها على أكثر من جبهة، كما أنها قد تخشى أن يقود أي عمل عسكري كبير تشنه عبر الإقليم إلى تعبئة حركات التغيير السياسي العربية ضدها. أما الولايات المتحدة، فيبدو أن أزمتها المالية والاقتصادية الحادة، وما تفرزه من انقسام سياسي، وربما اضطراب اجتماعي لاحقاً، ستلقي بالفعل تأثيراً فى قدرتها العسكرية عالمياً في المدى المنظور وإلى أمد غير معلوم.
وفي المقابل، يتوقع، حال انتهاء الأزمة السورية بتغيير سياسي يقود دمشق بعيداً عن إيران، أن ينقل المعسكر المناوئ لطوحات إيران النووية والإقليمية الصراع بدرجة أكبر إلى داخل إيران عبر أدوات عديدة، تمتد من الاغتيالات، وعمليات التخريب ضد برنامج إيران النووي، إلى إثارة الاضطرابات السياسية، سواء من خلال استثارة المعارضة الإيرانية، أو حركات التمرد الانفصالية، هذا فضلاً عن الضغوط الاقتصادية.