مصر شجرة الحضارة ونبتها الأول, ليس كلاما مرسلاً أو عنترياً, بل نحن أول من أسس الأنساق الأخلاقية وعندها بزغ فجر ضمير الإنسانية , وأول من اخترع الكتابة ليسطر بها الكاتب المصرى الأعراف الحاكمة والقوانين المنظمة, وأول من رسم المدنية نقشاً على جدران الأرض وأعمدة السماء, وأول من نظم الشعر ملاحم لبطولات الأجداد, وحكى النثر سيراً شعبية إلهاماً للأبناء, عرفنا الحقيقة عقلاً وتدبيراً وليس نقلاً عن الغير وتسليماً, واليوم نترك أقدارنا لأعدائنا تفعل ما تشاء, فُرضت علينا حرب بقاء فإما أن نكون أو ينال عدونا الجائزة الكبرى وتتحطم الصخرة !! تعالوا نبدأ بإصلاح ما خرب فينا ولنواجه أنفسنا, ونبدأ بالثقافة التى ُطمست هُويتها لنبنى الفكر ونهدم الإرهاب.
لا يخفى حال ثقافتنا على أحد الآن بعد ما كانت أحد عناصر القوة الناعمة للدولة , تواجه الوافد من الثقافات الهدامة, وتحصن العامة من تقاليد زائفة لا عائد مرجو منها إلا التخلى عن حقيقة المرء منا , حافظت الثقافة الوطنية على الطبقة المتوسطة من عموم المصريين , وقدمت لهم النموذج والقدوة فهان الكفاح أمام وطنية الهدف , وتشكل الوجدان الجمعى الحالم بالأمل , ولامست الآمال أرض الواقع , فكانت حقبة الخمسينيات والسينيات ثمارا مزهرة تباهى بها المصريون فى تاريخهم الحديث والمعاصر, وتحدى المصريون بثقافتهم أباطرة العالم وكسروا قيد الاستعمار وفجروا ثورة تصدرت أفكارها لنصف الكرة الجنوبى قاطبة, وتملكت مصر بفنها وآدابها وديانتيها ولهجتها نواصى الوجدان لشعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية, وربما بعضاً من شعوب أوروبا .
كان فنانو مصر وأدباؤها فقراء أو كادوا! إنما تركوا إرثا ثمينا من الإبداع الإنسانى أكسب الأجيال اللاحقة تقدير العالم, وكثيرا ما نجد فيهم النموذج والقدوة كأن يشارك فى تسليح جيشه, يسافر لكل الدنيا داعياً لقضايا وطنه , يكتب الشعر نظماً ولحنا يتغنى إيماناً بالعمل ودفعاً للإنتاج , ويسطر الكلام نثراً فى صحف لا همّ لها إلا مجد الوطن , يفجر طاقات الإبداع ومضاً بالضوء مسجلاً أعمالاً درامية تجمع شمل الأسرة المصرية دون خدش للحياء وبلا هدم للثابت من القيم.
الآن يتفق الحال وما كتبه الفيلسوف الثائر أنطونى جرامشى فى " كراسات السجن " التى ألفها إبان فترة اضطهاد موسولينى له فى ثلاثينيات القرن الفائت , إذ يُحمل جرامشى المثقفين المسئولية الكاملة على تخلف ذهنية الجماهير وعدم شعورها بالقدرة على التغير إذا ما أهملوا طبيعة علاقتهم الحقيقية والتاريخية مع البسطاء والعوام من الشعب والتى ىجب أن تتسم تلك العلاقة بالصدق والدقة فى التعبير عما يعانيه الشعب من تعثر معرفى وهشاشة ثقافية .
وفى ذلك يقول : " لا يخرج المثقفون من الشعب , .. ولا يعرفون حاجاته ولا صبواته ولا يشعرون بها , فهم بالنسبة إلى الشعب كائنات منفصلة مترفعة , جالسة على الغيوم أى طائفة منغلقة على نفسها لا كعنصر مرتبط عضوياً بالشعب ذاته."
وهذه الحال ربما تكون حقيقة واقعة - لنا الآن - حيث تقوقع المثقفون فى أبراجهم العالية وتركوا مساحات الإرتباط بالجماهير لدونهم , الذين ما لبثوا إلا وتكالبوا على تلك الفئات المحرومة من المعرفة بشتى صنوفها. ولأن الثقافة الدينية ذات مكانة تاريخية فى وجدان المصريين منذ القدماء, فهم يقدسون من يتحدث باسم الإله ! دون مراجعة , وخاصة عندما تغيب مساحات التبصر المعرفى فى العقل نظراً لغياب المفكرين الوطنيين, وعندما يفتر الوجدان الجمعى لفقدان الفن لحيوية دوره .
يتفرد كهنة المعبد بالمواطن ويبدءون فى قهر حاجاته المعرفية بالمغلوط من النص المقدس ويلعب فقه الحياكة الدور الأعظم فى إعادة صياغة الفكر وشحذ الوجدان الجمعى لتعبئة الجماهير المتروكة قهراً لذئاب تتقطر شهوة السلطة من أنيابها وتبرق لمعات الذهب فى أعينها وهى المدعية للزهد والموصوفة بالورع والتخلى عن العرض الزائل, ويبدأ العرض الهزلى بأولى درجات سلم " لاسلو " وإشباع الحاجات الأساسية بعد القيام ببعض الفقرات الممنهجة والمدرب عليها سلفاً خارج الحدود أو نحت الأرض مثل افتعال الأزمات المرتبطة بغياب بعض السلع الغذائية ذات الأهمية الحتمية , أو تعذر وجود أدوية ذات درجة أهمية لاستمرار الحياة, والأهم هو ضياع هيبة الدولة وتعطيل القانون وافتعال مؤامرات ومعارك واستغلال لفتن طائفية مدبرة لتأجيج النفوس من الطرفين , والترويج لعدم جدوى بقاء ممثل السلطة المدنية فى المجتمعات الريفية والبدوية كأقسام الشرطة والوحدات الصحية والمنافذ التموينية و.. , وخلق حالة من الفوضى العارمة لا تنجلى إلا باللجوء إلى ممثل السلطة الدينية والمنقذ الأوحد من تلك الطامة الكبرى، وفى هذا حل لعقدة الحبكة الدرامية التى قام بتقديمها وتمثيل أدوارها كهنة المعبد, ويتوهم المشاهدون أن الحل هو حكم هؤلاء الكهنة ولا يعلمون أنهم لا يريدون محكومين بل عبيداً يهدونهم لبعضهم بعضا, ويبيعونهم , ويستأثرون بسباياهم حلائل لهم !! يخصون أطفالهم. ولأنهم عازمون على ارتكاب الذنوب كثيرا وكثيراً، فقد أحلوا لأنفسهم أن يكون الشعب دونهم عبيدا يعتقون بعضاً منهم إذا توقفوا عن ارتكاب بعض من المعاصى لضعف بدنى أو ما شابه، لا لحياء أو احترام لإنسانية, ويكون الحظ الوافر للعتقاء من العبيد أن يقضوا بعضاً مما تبقى لهم من الحياة شبه أحرار!
إن ما يحتاج إليه المجتمع الآن ليس التهجم على الواقع البائس , ولا التباكى على القيم المهدورة أو التأسف على العهود الذهبية , لأن الممكن الآن والأهم هو العمل على إصلاح الفكر وإنارة العقل بصياغة سياسة معرفية تتجاوز فيها عقلية الوصاية والمصادرة نحو الشراكة والمسئولية الجمعية, وهذا هو بعينه دور المثقف العضوى المهموم بناسه، والمشغول بواقعهم، وحامل مشعل الأمل للغد (المثقف الوطنى)!.