أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في 9 ديسمبر 2017، هزيمة تنظيم "داعش" وتحرير آخر معاقله في العراق. ومنذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، نشط التنظيم مجدداً، وعاد للقيام بالعديد من العمليات الإرهابية التي استهدفت العراقيين بجميع طوائفهم. وقد لجأ التنظيم إلى اعتماد استراتيجية تقوم على مجموعة من الأسس لاستمرار نشاطه وفعاليته، بالضّد من قوات الأمن العراقية والسكان على حدٍ سواء، ومحاولة تثبيت جذوره.
جذور التطرف:
على الرغم من مرو 15 عاماً على احتلال العراق، وما رافقه من هدم لمؤسسات الدولة العراقية، وأهمها الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى، الأمر الذي أفسح المجال لظهور الجهاديين والمتطرفين، وانتقالهم إلى العراق من ساحات قريبة ومجاورة، بسبب غياب الأمن وضعف الحكومة المركزية، فإن دورة العنف التي مرّت بها البلاد طيلة سنوات الاحتلال الأمريكي وحتى انسحابه 2011، يمكن إيجازها كالتالي:
- لعبت التجربة الأفغانية للجهاديين (1979-1989 الغزو السوفيتي) ومن (1996-2001 حكم طالبان والغزو الأمريكي لأفغانستان) دوراً مهماً في نشأة زعماء جهاديين سلفيين (الجهاديين الكلاسيكيين)، اشتدت قواهم في القتال، وامتلكوا خبرات أسهمت في ظهور تنظيم "داعش" لاحقاً.
- لقد تبيّن لكثير من الجهاديين والسلفيين (الوسطيين) أن غزو العراق2003 لم يكن نتيجة لامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، أو دعمه الإرهاب، وإنما هو استهداف لكل المسلمين.
- ظهر التنظيم باسم التوحيد والجهاد بقيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي الذي أعلن مبايعته لتنظيم القاعدة الأم في أفغانستان. وبعد مقتل الزرقاوي في يونيو 2006، ظهر تنظيم باسم "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق" الذي تولى قيادته (أبو أيوب المصري، وأبو عمر البغدادي).
- مع اندلاع الأحداث في سوريا 2011، انفتحت للجهاديين ساحة مهمة للتوسع، فقد أعلنت جماعة تنتمي للقاعدة تسمى (النصرة) بزعامة (أبو محمد الجولاني)، وهو من المقربين لقائد "تنظيم دولة العراق الإسلامية- أبو بكر البغدادي"، مسئوليتها عن عمليات تفجير وقتل في سوريا.
- أعلن في أبريل 2013 عن تأسيس "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وبويّع أبو بكر البغدادي- إبراهيم عواد إبراهيم البدري- زعيماً له، إلا أن تنظيم "جبهة النصرة" انشق لاحقاً ليبايع تنظيم القاعدة الأم، مما مَّمهد لقتال طويل قتل فيه المئات، وطرد تنظيم الدولة من شمال غربي سوريا، فيما سيطر التنظيم على مدينة الرقة السورية واتخذها عاصمةٍ له.
لقد هيأ الانسحاب الأمريكي الأوضاع في العراق لإشعال شرارة الثورة مجدداً في المناطق السنيّة، أذكت جذوتها السياسات الطائفية والمذهبية لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، احتجاجاً على سياسات التهميش والاضطهاد، وقمع القوات الحكومية العراقية التظاهرات والاعتصامات في الفلوجة، والرمادي، وديالى، وكركوك، والموصل، وصلاح الدين. كما طاردت أجهزة الأمن الحكومية وأصدرت أوامر إلقاء قبض بحق شركاء في العملية السياسية من السنّة، أبرزهم: نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، ووزير المالية رافع العيساوي، واعتقلت عشرات الآلاف من السنّة بتهمة الإرهاب.
وفي يوليو 2014، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية، أو ما عرف لاحقاً بـ "داعش"، على مدن سنيّة مهمة، على رأسها الموصل، والأنبار، وصلاح الدين، وأجزاء من كركوك ووصل إلى تخوم بغداد. وأمام تقدم حشود الجهاديين، فرّت 3 فرق عسكرية، وأجهزة الشرطة والأمن، واستولى التنظيم على مئات الدبابات والمدرعات وعربات الهامفي أمريكية الصنع، وأنواع مختلفة من الأسلحة، تقدر بـ 3 مليارات دولار. وقد نهب التنظيم البنوك والمصارف الحكومية بما تحويه من عملات أجنبية. وكمثال على ذلك، استولى التنظيم على 500 مليون دولار من بنوك الموصل لوحدها. وأصبح التنظيم في يونيو 2014، يملك أراضى، وأموالا، واختطف ملايين العراقيين داخل المناطق المسلوبة، ويملك جيشاً جهادياً يهدد الدولة العراقية وجيرانها.
كل تلك المعطيات وفرت لأبى بكر البغدادي إعلان تأسيس "دولة الخلافة الإسلامية" في 29 يونيو 2014، التي وجدّ جيل من الجهاديين وبعض الجماعات المتشددة ضّالتهم فيها، ليعلنوا انضمامهم لها والجهاد تحت لوائها لتشكيل "الدولة الإسلامية العالمية". فقد أعلنت جماعات مسلحة في ليبيا، وبوكو حرام في نيجيريا انضمامها إلى التنظيم الجديد. وبلغ عدد مقاتلي التنظيم- حسب تقديرات أوروبية- 40 ألف مقاتل، فيما ذهب آخرون إلى أنها تصل إلى 100 ألف مقاتل. في ظل هذا التطور، قام التنظيم بتعيين وزراء لإدارة شئون "دولة الخلافة"، واستبدل برامج التعليم وطبع مناهج تعليمية خاصة به، وصك عملة جديدة، وغيّر من أشكال الأوراق الرسمية والزّي للرجال والنساء، وأنشأ مؤسسات إعلامية لإدارة برامجه الدعائية عبر تليفزيون (أعماق)، ومجلة (دابق- النبأ).
في سبتمبر 2014، تدخلت الولايات المتحدة ومعها 14 دولة للدفاع عن الأكراد والإيزديين في سنجار-شمال العراق، وقام التحالف بشن هجمات جوية وقدم مساعدات عسكرية وعتاد وتدريب للقوات العراقية، ثم توسع الأمر ليشمل الأراضي السورية بعد محاصرة "داعش" لبلدة (كوباني- عين العرب) الكردية.
فى نهاية 2017، وبعد صراع مرير مع التنظيم، تمكنت القوات العراقية من طرد تنظيم "داعش" من أغلب المناطق التي سيطر عليها بمساعدة من قوات الحشد الشعبي- وجلّها من الشيعة-أسست بناء على دعوة المرجعية الشيعية العليا التي يرأسها السيد علي السيستاني بفتوى الجهاد الكفائي، بعد أيام من احتلال الموصل، وهي بالأساس ميليشيات أسستها ومولتها إيران منذ ثمانينيات القرن الماضي وبعد احتلال العراق2003.
مغذّيات عودة التطرف والإرهاب:
أدى سخط السنّة في العراق على الاحتلال الأمريكي، وسياسات الحكومات الشيعية المتعاقبة، وفي ظل غياب قوانين حقيقية للمصالحة، وعدم شعورهم بالمشاركة في الحكم، ومطاردتهم في قراهم ومدنهم، إلى شبح ظهور تنظيمات متطرفة أخرى يظّل قائماً. كتنظيم "داعش"، أو من هو على شاكلته، أو أشد عنفاً منه. فهذا الانقسام بين المكونات الوطنية العراقية، وبقاء الوضع على ما هو عليه دون تحقيق أي تقدم، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتلاشي الخدمات الأساسية، قد يدفع أناسا لا يؤمنون بفكر هذه التنظيمات للعمل معها من أجل توفير معاشات لأولادهم. وبالنظر إلى البيئة الخارجية، فإن هناك دولا لا تزال تشكل تربة خصبة لتجنيد المزيد من المسلحين مثل ليبيا، والصومال، واليمن، وأفغانستان، وطاجكستان، والشيشان، وأوزبكستان، وتركستان الشرقية (إقليم شينجيانغ الصيني). مضافاً إليها حالة اليأس التي يعيشها المسلمون في الغرب.
الوضع الحالي للتنظيم:
ليس هناك إحصاء دقيق لأعداد مقاتلي "داعش"، إلا أن أسوأ التقديرات تشير إلى أنهم بالالآف. ففي تقرير للأمم المتحدة، صدر في شهر أغسطس 2018، قدر عددهم بين 20 و 30 ألف مقاتل في العراق وسوريا، بمن في ذلك آلاف المقاتلين من الأجانب، فيما تقول وزارة الدفاع الأمريكية إن تعدادهم يصل إلى 14 ألف في سوريا، و17 ألف في العراق، وإن التنظيم قد تحول من دولة أولية إلى شبكة عالمية سرية مع جوهر ضعيف (ولكنه دائم).
كان يفترض أن يكون للتنظيم 36 ولاية بعدّها (خلافة إسلامية- عابرة للحدود الوطنية) لكنه فشل بسبب خسائره المتلاحقة. 19 من هذه الولايات في العراق وسوريا، و17 خارجها. ويقسم العراق لوحده إلى 12 ولاية وهي (بغداد - شمال بغداد - ولاية الجنوب – الأنبار – الفلوجة –ديالى - صلاح الدين – كركوك – نينوى – دجلة – الجزيرة - الفرات (تضم المدن الواقعة بين العراق وسوريا). أما سوريا، فتضم 7 ولايات هي (الرقة – حلب – الخير – دمشق – حمص - البركة في الحسكة - حماه)، وتنتشر باقي الولايات في السعودية، واليمن، وأفغانستان، وباكستان، وداغستان، والشيشان، والفلبين. والجزائر، ونيجيريا.
بعد العمليات العسكرية وهروب عناصر التنظيم من معاقله الرئيسية في الموصل وصلاح الدين والأنبار إلى مناطق وعرة وصعبة الحركة للعجلات العسكرية، تجمع هؤلاء الفارّون في تنظيم يحمل اسم (السفيانيين - أصحاب الرايات البيضاء - التسمية متأتية من كون شعار الجماعة عبارة عن راية بيضاء يتوسطها رأس أسد)، ويوجدون في مناطق تفصل بين قضائيّ طوزخورماتو في محافظة صلاح الدين. وقضاء كفري في محافظة ديالى، ويسكنها غالبية من القومية التركمانية والعربية. ويتكون مقاتلوه بالأساس من عناصر تنظيم "داعش"، وكتيبة صلاح الدين التابعة لأنصار الإسلام، ومقاتلين أكراد، وتركمان، وعرب، وإيرانيين، وعدد من المقاتلين الأجانب، وتقول الإحصائيات أن أعدادهم لا تتجاوز المئات.
جماعة أصحاب الرايات البيض:
تحاول هذه الجماعة، بالتنسيق مع عناصر "داعش"، بناء مناطق نفوذ وانتشار في المناطق ذات التضاريس الصعبة، تسمح لهم بتشييد قاعدة حصينة توفر لهم الحماية وتنفيذ أعمالهم المسلحة.
وقد قام "داعش" وجماعة الرايات البيض بهجمات على الطرق الرابطة بين بغداد والمحافظات الشمالية في العراق، وخصوصاً الطريق الرابط بين بغداد وكركوك والسليمانية عبر محافظة ديالى، والطريق الرابط بين العاصمة ونينوى عبر صلاح الدين. وكذلك نفذ تنظيم "داعش" هجمات في محافظات نينوى، وكركوك، وصلاح الدين، ونينوى، والأنبار، استهدفت رجال الأمن والحشد العشائري (السنيّ) وقادة قبائل ومختاريّ المناطق، بالإضافة إلى بعض العمليات الانتحارية عبر تفخيخ السيارات أو الانتحاريين التي تستهدف بعض المراكز الرسمية والعسكرية في الأنبار وبغداد.
نشاط تنظيم "داعش" ومناطق انتشاره:
تحول تنظيم "داعش" بعد هزيمته إلى ممارسة العمل الأمني بشكل رئيسى، وبشكل خاص (عمليات الخطف، والاغتيال، والابتزاز)، ومحاولة كسب مزيد من العناصر إلى صفه.
والحقيقة أن التنظيم وجد ضّالته في مخيمات النزوح واللجوء للعوائل العراقية التي هربت من بطش التنظيم 2014، وخوفاً من العمليات العسكرية، ولم تتمكن من العودة إلى مساكنها حتى يومنا هذا بسبب تهديم دورها، وعدم توافر الخدمات الأساسية، وانعدام الأمن في مناطقها، والخشية من سطوة الميليشيات. وتشير إحصاءات وزارة الهجرة والمهجرين إلى أنه من بين 164 مخيماً أقيمت للنازحين في العراق، تم إغلاق 32 منها فقط، فضلاً عن تصنيف جديد لبعض السكان تحت مسمى (عوائل داعش) ظهر بعد تحرير المناطق، ويطلق على عوائل المنتمين لـ "داعش"، حيث لا يسمح لهم بالعودة إلى مناطقهم بحجة التدقيق الأمني، كون أفراد من عوائلهم قد انتمى لـ "داعش".
هذه الحالة وفرت لتنظيم "داعش" فرصة للعمل وتجنيد عناصر جديدة، عبر:
- تقديم المغريات المالية للشباب من العاطلين في المخيمات وخارجها.
- تجنيد عناصر من ذوي القتلى والمعتقلين بدافع الانتقام.
- التحرك على الشباب الذين اعتقلوا بلا بسبب وتعرضوا لمعاملة سيئة على يد قوات الأمن، ثم أطلق سراحهم بعد فترات طويلة من الاعتقال.
- تفشي ظاهرة الرشوة والفساد المالي لدى الأجهزة الأمنية، مما يسهل تسلل هذه العناصر بين المحافظات.
- عدم استقرار الأوضاع في سوريا التي لا يزال الآلاف من الجهاديين على استعداد للانضمام إلى أقرانهم من العراقيين، حيث لا مفّر أمامهم بعد فرض النظام السوري سيطرته على أجزاء واسعة من سوريا.
- يستعين "داعش" بكل الخبرات المتاحة، فهو يستخدم التكنولوجيا الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي، ويعتمد على الإعلام والصورة في إيصال رسائله.
أما مناطق انتشار تنظيم "داعش" الحالية، فهي مقسمة كالتالي:
توجد خلايا التنظيم في محافظة ديالى على طول حوض نهر ديالى، وأكثر المناطق وجوداً هي منطقة المقدادية بسبب كثافة البساتين، وخانقين، ومندلي، والسعدية، وجلولاء، وبحيرة حمرين والعظيم عبر المناطق الملاصقة لمحافظة صلاح الدين، وينشط "داعش" في كركوك بمناطق الحويجة، والرياض، وداقوق.
وتوجد عناصر التنظيم في نينوى في مناطق حمام العليل، والقيارة، ومخمور، وغرب الموصل في قضاء البعاج والمناطق القريبة من الحدود مع سوريا، وجزيرة الموصل المترامية الأطراف. كما يقوم التنظيم بعمليات هجومية في صلاح الدين، حيث يوجد في جزيرة سامراء، والدور، وبيجي، والشرقاط، بالإضافة إلى ماسبق ذكره عن قضاء طوزخورماتو.
أما في بغداد، فتوجد عناصر التنظيم وبشكل مكثف في ولاية شمال بغداد، وعلى الأخص في الطارمية والتاجي، وفي أبو غريب غرب العاصمة. وجنوبها في المحمودية والمدائن.
وينتشر التنظيم في الأنبار في المناطق المحصورة بين الرطبة والنخيب على الحدود السعودية، وهي مناطق صحراوية تضم وديانا وكهوفا، وكذلك في منطقة القائم المحازية للأراضي السورية والمفتوحة أمام انتقال سهل للعناصر الجهادية، وكذلك مناطق راوة، وعنة، وهيت، وحديثة.
قدرة "داعش" على استعادة قوته:
والسؤال المُلح هنا: هل سيتمكن تنظيم "داعش" من استعادة قدراته التي فقدها؟ تبدو الإجابة صعبة للغاية، فما يمكن حسابه نظرياً، تكذبه البراهين على الأرض. فبلغة الأرقام، خسر التنظيم أكثر من (95%) من الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق، كما فقد التنظيم الكثير من مصادر تمويله، كما خسر قدرته على جذب المجنديين الجدد، وهذا ما يجعل التنظيم عاجزاً عن تعويض ماخسره من المقاتلين والأموال والأراضي التي وفرت له وللجهادين ملاذّ آمنا. ولهذا، فإن "داعش" لم يعد قادراً على استعادة هيبته لعدة أسباب:
الأول: سعة المناطق التي خسرها التنظيم منذ 2015، حيث يصعب عليه استعادتها بسهولة.
الثانى: تنامي قدرات القوات العراقية على التصدي لهذه المجاميع المشتّتّة.
الثالث: انقطاع طرق التواصل مع تركيا، وحملات الضغط الدولي على أنقرة لللتضيق على عبور الجهاديين إلى سوريا والعراق،
والرابع: تراجع الإيرادات منذ أن فقد "داعش" سيطرته على المناطق المنتجة للنفط في شمال سوريا وغرب العراق، وبدأ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والضربات الروسية في استهداف البنية التحتية للنفط. وأخيراً: رفض المناطق التي استحوذ عليها "داعش"، لأساليب التنظيم في إثارة الرعب والتعسف، وفرض عقوبات قاسية عليها، واستخدام المدنيين كمصيدة ودروع بشرية للوقاية من الهجمات الحكومية، فضلاً عن الدمار الذي أصاب الموصل والأنبار وصلاح الدين بعد خروج التنظيم منها، وهذا يحتّم على التنظيم تعويض خسائره. وإيجاد مَعْقِل مركزي بعد خسارة الموصل والرقة، الأمر الذي غابَت فيه فكرة الملاذّ الآمن الذي يستقطب المتطرفين من كل الجنسيات إلى ذلك المكان.
بالمقابل، تكمن خطورة عودة "داعش" مجدداً إلى جملة من الحسابات، يأتى في مقدمتها تضارب المصالح الإقليمية والدولية التي أسهمت في ظهور تنظيم "داعش"، وهي قد تكون الأساس الذي منح التنظيم المتطرف كل هذه القوة وهذا النفوذ. فالحاجة الإيرانية لخلط الأوراق في العراق من أجل مدّ النفوذ ظهرت جلية. بالنتيجة التي جنتها طهران بعد احتلال "داعش" للمحافظات السنيّة، فقد تمكنت من الدخول إلى العراق من الباب الذي خرجت منه القوات الأمريكية. فتَحت حجة دعم القوات العراقية، وتدريبها وتقديم الاستشارة، أرسلت إيران مئات من جنودها وحرسها الثوري لتنشأ معسكرات لتدريب المجنديين الجدد والمنضوين تحت لواء الحشد الشعبي، وجعلهم جيشا موازيا له سطوته ونفوذه في القرار العراقي، الأمر الذي جعل منه مؤسسة رسمية تدين بالولاء لمرشد إيران. كما تمكنت من تدمير معظم المدن الحضرية للسنّة أعدائها العقائديين في نينوى وصلاح الدين ونينوى، علاوة على إقامة طريق يربط إيران بسوريا ولبنان عبر العراق.
لقد تمكن مئات السجناء من القيادات الخطرة في تنظيم "داعش" من الإفلات من السجون العراقية خلال السنوات من 2012 إلى 2014، وأطلق سراح العشرات منهم، رغم أنهم مسجلون من الخطرين لدى القوات الأمريكية عند تسليمهم للعراقيين إبان انسحابها من العراق. يضاف إلى ذلك أن المئات عبروا من أفغانستان إلى العراق وسوريا عبر إيران، أو كانوا تحت الإقامة الجبرية في طهران قبل أن يسمح لهم بالتوجه للعراق وسوريا، علاوة على أن إيران سبق لها وأسسّت تنظيمات جهادية لا تزال تقاتل على الأرض، مثل جماعة أنصار الإسلام. كما لا يمكن تجاهل الصفقات بين "داعش" وحزب الله اللبناني حليف إيران، والتي مكنّت التنظيم من نقل المئات من عناصره من القلمون (غربيّ سوريا) إلى البوكمال قرب الحدود العراقية (شرق سوريا) نهاية أغسطس 2017. ولا ننسى في هذا السياق العديد من اتفاقيات إخلاء المدن ونقل المقاتلين التي وقعت بين جبهة النصرة المدعومة من قبل قطر وتركيا من جهة، والنظام السوري والميليشيات الممّولة إيرانياً من جهة أخرى خلال عامي 2017 و2018. وهناك احتمال كبير لأن تقاتل الكثير من فصائل جبهة النصرة -بناء على رغبة مموليها- إلى جانب "داعش" بعد الاتفاق التركي- الروسي الأخير الذي قضى إجلاء جبهة النصرة إلى جيب صغير شمال إدلب. ونشرت تقارير بالفعل قبل أيام من توقيع الاتفاق حول انضمام المئات من مسلحي تنظيم "داعش" إلى تنظيم "حراس الدين" الموالي لتنظيم القاعدة في منطقة جسر الشغور في إدلب، في مؤشر قوي إلى تزايد احتمالات تقارب "داعش" والقاعدة في المرحلة المقبلة.
في الوقت ذاته، توجه إلى الولايات المتحدة اتهامات بأنها هي من خلقت تنظيم "داعش"، ومكنته من التمدد. فهناك اتهامات روسية للقوات الأمريكية الموجودة في قاعدة التنف -جنوب سوريا- والتي لا تزال خارج السيطرة السورية بأنها تدعم "داعش"، فضلاً عن خروج "داعش" من الرقة السورية باتجاه دير الزور نهاية أكتوبر 2017، بصفقة مع قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً.
على أساس ما تقدم، لا يزال تنظيم "داعش" يشكل تهديداً إرهابياً حقيقياً، في ضوء تقارير أمريكية تشير إلى أن التنظيم في وضع جيد لإعادة بناء نفسه. وبهذا الصدد قال قائد العمليات الخاصة الأمريكية، رايموند توماس، في 15 فبراير 2017: "قتلنا بين 60 و70 ألفا من تنظيم "داعش"، ولكن النصر أمر آخر"، فضلاً عن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والقاضي بسحب قوات بلاده من سوريا -وإن تأجل لبعض الوقت- فإنه إن حصل فسيعطي الانطباع بأن الولايات المتحدة غير مستعدة للاستمرار في قتال ودحر التنظيم، وترك الموضوع على شعوب المنطقة لتجد طريقها في التخلص منه.
كذلك فإن الخطر الذي يشكله المجاهدون العائدون إلى بلادهم لا يزال كبيراً ومتصاعداً. فهؤلاء يشكلون خطراً كبيراً على مجتمعاتهم، كونهم يتحركون بشكل مستقل، مما يصعّب على قوات الأمن متابعتهم وردعهم، وهو ما يبحث عنه "داعش" الطامح لانتصارات إعلامية عبر "الوحوش المنفردة" تعيد له جزءاً من بريقه الذي فقده.
يضاف إلى تلك الأمور احتمالية عودة "داعش" والنصرة للاندماج مع تنظيم القاعدة. وهذا الأمر إن حدث، فسيعطي دفعة معنوية لانضمام المئات ممن هجروا هذه التنظيمات بسبب الخلافات.
يمكن القول إن من الإنصاف دراسة ظاهرة الإرهاب في العراق دراسة معمقة، وعدم تركها تمّر دون النظر في أسبابها وموجباتها. واحد من أهم العوامل المؤثرة فى استقرار العراق، وعدم السماح لـ "داعش" والتكفيريين بالعودة مجدداً، هو معرفة مدى فعالية إجراءات الحكومة العراقية المقبلة؟ وهل هي مستعدة لإعادة دمج السنّة في الحكومة، وإعطاء محافظاتهم صلاحيات، وإعادة بناء المدن المدمرة، وإشعار النازحين بجديتها للتغيير من أوضاعهم؟ فمن دون حلّ المظالم واستشراء الفساد، لا أمل في السلام، والأمر ينطبق على محافظات ذات غالبية شيعية باتت تعاني كمثيلاتها السنيّة الإهمال وانعدام الخدمات.
الواقع يشير إلى أن كل الدلائل تُلمح إلى أن الفرصة متاحة مجدداً لتنظيم "داعش" للظهور مجدداً. وإن اختلفت الوسائل لنشر القتل والدمار في العراق، فمن الصعوبة بمكان اجتثاث الفكر المتطرف الذي لا يزال يكتسب مسببات وجوده، من خلال القرارات والسياسات الخاطئة للقيادات العراقية الغارقة في الطائفية والفساد، والتي ما بَرحَت تمعن في انتهاج طريق شبيه بذلك الذي مكّن مئات العناصر المتطرفة من هزيمة فرق عسكرية كاملة العدد والتجهيز في الموصل عام 2014.