تنفيذا لوعده خلال حملته الانتخابية لعام ٢٠١٦، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثامن من مايو الجاري انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (٥+١)، ووقَّع أمرًا رئيسيًا يُعيد فرض أعلى مستوى من العقوبات على النظام الإيراني، وحذر الدول من فرض واشنطن عقوبات شديدة عليها إذا قدمت مساعدات لطهران في سعيها للحصول على أسلحة نووية.
يأتي قرار الرئيس الأمريكي للانسحاب من الاتفاق النووي رغم معارضة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، وعديد من مسئولي الإدارة الأمريكية، وأعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، متسقًا مع رؤيته للاتفاق بأنه الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، حيث يصفه بـ"الكارثي"، وأنه عزز من الطموح النووي الإيراني، والحصول على القنبلة النووية بشكل قانوني، فضلا عن أن الاتفاق من وجهة نظر ترامب، قد منح الديكتاتورية الإيرانية شريان الحياة السياسية والاقتصادية، بعد رفع العقوبات المفروضة على طهران، والتحرر من الضغوط المحلية الشديدة التي فرضتها العقوبات الأمريكية والدولية ناهيك عن عدم تعرضه لبرنامج إيران لتطوير منظومة الصواريخ الباليستية، ودورها المزعزع للاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط.
وجاء القرار متسقًا مع نهجه منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض في عدم الوفاء بالاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، وافتقاره التام للرؤية الاستراتيجية لما بعد الخروج من تلك الاتفاقيات، والقدرة على إبرام أخري جديدة؟
سبعة تداعيات:
يثير القرار الأمريكي بالانسحاب من خطة العمل المشتركة التي تم التوصل إليها في منتصف عام 2015 تداعيات سلبية على مستوي العلاقة بين مؤسسات صنع القرار الأمريكي، وعلى مكانة وصورة الولايات المتحدة دوليًا، وكذلك على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وعلاقة الإدارة الأمريكية بالحلفاء الأوروبيين. وتتمثل تلك التداعيات فيما يلي:
أولا- صراع داخل الإدارة الأمريكية: حيث سيؤدي إعلان الرئيس الأمريكي الانسحاب من خطة العمل المشتركة إلى احتدام الصراع بين أقطاب الإدارة الأمريكية، لا سيما بين تيارين رئيسيين داخلها أولهما، يمثله الرئيس ترامب ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون الداعم لقرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، والتيار الثاني يتزعمه وزير الدفاع جيمس ماتيس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد، وعديد من مسئولي وزارة الخارجية، وأعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بمجلسي الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ) الذي يرى أن الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق سيؤدي إلى عزل واشنطن دوليًا بعد توتر علاقاتها مع حلفائها الأوروبيين الذين يؤيدون الاتفاق، وإنهاء أي تأثير أمريكي على تطورات البرنامج النووي الإيراني، وأنه سيعد خرقا من جانب واحد للاتفاق النووي، وسيعزز وضع إيران بما في ذلك سعيها لامتلاك سلاح نووي.
ويعزز من مواقف التيار الثاني تقارير لوزارة الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران تفي بالتزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة، التي توفر قيوداً يمكن التحقق منها على الأنشطة النووية الإيرانية. وسيكون الكونجرس بمجلسيه ساحة لهذا الصراع، وخاصة إذا خسر الجمهوريون الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم، لأن الرئيس سيكون في حاجة إلى تشريع من المؤسسة التشريعية لتمرير المزيد من العقوبات على إيران والدول التي تتعاون معها.
ثانيا- تراجع صورة الولايات المتحدة ومكانتها دوليًا: يؤثر قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني فى مصداقية ونفوذ الولايات المتحدة بين حلفائها وخصومها على حد سواء، لعدم وفائها بالالتزام بالتعهدات التي تقطعها على نفسها، حيث يظهر القرار أن واشنطن هى الطرف غير المسئول الذي يدمر الاتفاقيات مقابل التزام الطرف الآخر (إيران) بالالتزامات المنصوص عليها بالاتفاق بشهادة التقارير الدولية والأمريكية، وهو ما يدفع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين إلى إعادة النظر في علاقاتهم بها، والتقارب مع قوى دولية أخري منافسة لواشنطن على المسرح الدولي من أجل ضمان مصالحهم وأمنهم.
ويكشف القرار بصورة جلية عن تراجع الدور القيادي الأمريكية في نظام دولي يشهد جملة من التغيرات والتطورات في غير صالح الولايات المتحدة، وتصاعد دور القوى المنافسة، مثل الصين روسيا، أو الحليفة مثل فرنسا وألمانيا التي بدأت تحل مكان واشنطن في الحفاظ على الاستقرار والأمن الدوليين.
ثالثا- تهديد أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط: قد يدفع الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وفرض عقوبات على النظام الإيراني، أن يسعي الأخير لإعادة تخصيب اليورانيوم، والشروع في بدء إنتاج قنبلة نووية، الأمر الذي يهدد المحاولات الدولية لمنع الانتشار النووي في منطقة الشرق الأوسط، فضلا عن تأجيج أزمات المنطقة المشتعلة، وإلى سباق تسلح في منطقة الشرق الأوسط، وصراع بين إيران وإسرائيل، بالإضافة إلى تصعيد الحروب بالوكالة في المنطقة بين طهران والرياض، وهو الأمر الذي يؤثر فى أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة. ففي غضون أربعة وعشرين ساعة من إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق تعرضت السعودية وإسرائيل لهجمات صاروخية إيرانية الصنع من حلفاء طهران في اليمن وسوريا.
رابعا- توتر العلاقات الأمريكية-الأوروبية: يضيف قرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي رغم معارضة الدول الأوروبية قضية جديدة للقضايا الخلافية بين جانبي الأطلسي بصورة لم تشهدها العلاقات الأمريكية-الأوروبية منذ سبعة عقود. وخلال الفترة التي سبقت الإعلان الأمريكي سعت الدول الأوربية خلال زيارات متعددة لرؤسائها ولمسئوليها للولايات المتحدة، والتي شملت زيارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، والمستشارة الألمانية "انجيلا ميركل" ووزير الخارجية البريطاني "بوريس جونسون"، فضلا عن اتصال رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي" بالرئيس "دونالد ترامب"، لإقناع الأخير بالحفاظ على خطة العمل المشتركة الشاملة، لكن الرئيس الأمريكي اتخذ قرار الانسحاب من الاتفاق النووي في مخالفة لمطالب ومصالح الدول الأوروبية، وهو الأمر الذي ينذر بتوتر محتمل في العلاقات الأوروبية-الأمريكية خلال الفترة المقبلة.
وتتمثل الأسباب الرئيسية لتوتر العلاقات الأمريكية-الأوروبية في مخاوف الدول الأوروبية من استهداف العقوبات الأمريكية على طهران الشركات الأوروبية التي تعمل في طهران، بالإضافة إلى تهديد المصالح التجارية الأوروبية-الإيرانية التي شهدت مراحل من التطور بعد التوقيع على الاتفاق النووي، ورفع العقوبات المفروضة على طهران بموجبه.
خامسا- الإضرار بالجهود الأمريكية لمنع الانتشار النووي: حيث يقوض الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الجهود الدبلوماسية الأمريكية والدولية لمنع الانتشار النووي عالميًا، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، لأن القرار سيصعب على مسئولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمسئولين الأمريكيين اكتشاف أي جهود إيرانية سرية لبناء أسلحة نووية. كما أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني سيكون له جل التأثير فى فرص الولايات المتحدة في إنهاء أزمة البرنامج النووي لكوريا الشمالية.
سادسا- تشدد النظام الإيراني: يقوض القرار الأمريكي بصورة كبيرة قوة التيار الإصلاحي الذي يدعو إلى الانفتاح على الولايات المتحدة داخل النظام الإيراني، مقابل تقوية نفوذ التيار الراديكالي الذي يدعو دائما إلى أنه لا يمكن الوثوق بواشنطن باعتبارها "الشيطان الأكبر"، الأمر الذي قد يدفع النظام الإيراني إلى تبني سياسات راديكالية على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة بعد الأزمات التي سيتعرض لها الاقتصاد الإيراني، الذي يعاني حاليًا أزمات حادة، عقب فرض الإدارة الأمريكية عقوبات عليه بعد الانسحاب من خطة العمل المشتركة، وهو ما يصب في مصلحة التيار المتشدد الذي سيعزز من فرصه بين الشعب الإيراني، وكذلك فرص فوز في الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية الإيرانية القادمة.
سابعا- تأثر الاقتصاد الأمريكي: سوف تستهدف العقوبات الأمريكية الجديدة قطاع النفط الإيراني، وشركات الطاقة الدولية التي تعمل في طهران، الأمر الذي يرفع أسعار الطاقة في السوق العالمي مع انخفاض المعروض الإيراني. وينعكس ارتفاع أسعار النفط عالميا على الاقتصاد الأمريكي، لا سيما مع كثير من التحديات التي تواجهها الشركات الأمريكية المنتجة للنفط الصخري، والتي كان يعول عليها في تعويض النقص في المعروض العالمي من النفط بعد فقدان الإمدادات النفطية الإيرانية، كما سيدفع المستهلك الأمريكي فاتورة الارتفاع في أسعار النفط، ولكن هذا سيكون على مدار السنوات الأربع القادمة.
مما لا شك فيه، ستؤثر السياسات التي ينتهجها ترامب سلبيًا فى دور الولايات المتحدة القيادي لنظام دولي يمر حاليا بمرحلة من التطور، في ظل سعي منافسيها وحلفائها للإحلال محلها في قيادته، ناهيك عن اهتزاز صورتها الدولية كقوة عظمي يقع على كاهلها الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين عامة، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
كما سيزيد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي من الانخراط الأمريكي في الصراعات والأزمات التي سيولدها هذا القرار، الذي سيؤدي إلى تأجيج المنطقة التي تمزقها التطرف والتناحرات الطائفية، مع احتمالات التصعيد الإيراني مما يجعل ابتعاد الولايات المتحدة عن التورط في نزاع آخر في منطقة الشرق الأوسط -كما يروج الرئيس ترامب- أمرًا غير واقعي.