شهد شهر فبراير 2015 إطلاق تنظيم "داعش" دعوة لمؤيديه في صعيد مصر، تستهدف محاولة حشد التنظيم لعناصر تسهم في تشكيل ما أطلق عليه "ولاية إسلامية" تابعة لـ "داعش" في جنوب مصر، في محاولة منه لخلق بؤر إجرامية جديدة داخل مصر.
وقد جاءت الدعوة بالتوجه إلى صعيد مصر على لسان أحد عناصر التنظيم ويدعى "أبو إياد المصري"، حيث وجهها لمن وصفهم بالذئاب المنفردة ودعاهم إلى التجمع وتشكيل خلايا منظمة تابعة للتنظيم في صعيد مصر.
يذكر أن جهاز الأمن الوطني تمكن من الكشف عن خلية إرهابية مكونة من مجموعة من العناصر التي شكلت جماعات إرهابية عنقودية أعلنت مبايعتها لتنظيم داعش واعتزمت تأسيس "ولاية للصعيد" يتضمن نطاق نشاطها محافظات صعيد مصر. وقد كشفت التحقيقات في القضية قيام قيادات محسوبة على تنظيم داعش في ليبيا بتهريب بعض عناصره إلى صعيد مصر، بهدف تشكيل خلايا عنقودية ومعسكرات تدريب، تمهيدا للإعلان عن "ولاية الصعيد"، وعلى الرغم من محاولات هذه المجموعات تنفيذ عدد من الهجمات الإرهابية، ونجاحها في استقطاب عدد من العناصر، فإنها قد أخفقت في خلق وجود فعلي لها في صعيد مصر.
أولًا- لماذا يحاول تنظيم "داعش" استهداف صعيد مصر؟
ينظر التنظيم إلى صعيد مصر بوصفه أكثر المناطق ملاءمة لتصعيد نشاطه، خاصة في ظل ما يواجهه من تضييق خناق، نتيجة للملاحقات والجهود الأمنية والعسكرية الاستباقية الناجحة لعناصر أعلنت موالاتها له في شمال سيناء، بالإضافة إلى نضوب مصادر الدعم، نتيجة لهزيمة التنظيم المركزي في سوريا والعراق، والبحث عن مناطق تمركز بديلة للعناصر العائدة من التنظيم، هذا بالإضافة إلى ما شهدته العلاقة بين الدولة المصرية وحركة حماس من تطورات إيجابية أسهمت أكثر في تضييق الخناق والتعجيل المتوقع بهزيمة التنظيم، وهو ما نتج عنه تصاعد التكهنات التي ترى أن الصعيد سيكون هو الوجهة القادمة للتنظيم، وترجع احتمالات التوجه للصعيد، للأسباب الآتية:
• الخلفية التاريخية: شهدت منطقة الصعيد تصاعدا في نشاط التنظيمات الجهادية، وعلى رأسها الجماعة الإسلامية في المنيا، التي تمكنت في تسعينيات القرن الماضي من نشر دعوتها في العديد من محافظات وقرى الصعيد، ولهذا ينظر التنظيم إلى البيئة الصعيدية بوصفها أكثر قابلية لتمدد التنظيم، هذا بالإضافة إلى فلول التنظيمات الجهادية وجماعات المتعاطفين مع الإخوان المتأثرين بالخطابات التحريضية التي تم بثها على منصة رابعة العدوية والنهضة في عام 2013، والتي تعد الفئات الأكثر جاهزية لتلقي وتقبل خطاب وفكر التنظيم.
• تخفيف الضغط على العناصر التكفيرية الموالية فى سيناء: لا شك في أن التنظيم قد أصبح يترنح تحت وقع الضربات والحصار الأمني الذي فرضته القوات المسلحة المصرية بمعاونة الأمن، منذ إطلاق عملية "حق الشهيد" التي تبنت منحى استباقياً في التعامل مع العناصر الموالية للتنظيم في سيناء، وهو ما دفع التنظيم للبحث عن مركز إضافي يخفف من الضغط والحصار المفروض على عناصره في سيناء.
• الطبيعة الجغرافية: حيث تتسم محافظات الصعيد بطبيعة جغرافية قد تكون مهيأة لنشاط التنظيمات الإرهابية والعصابات الخارجة عن القانون، خاصة في ظل وجود الظهير الصحراوي الممتد والذي يعد بيئة آمنة نسبيا لسرية التنظيمات وممارسة نشاطها وإقامة معسكراتها التدريبية بمنأى عن الملاحقات الأمنية، بالإضافة إلى المساحات الواسعة غير المأهولة الممتدة بين المحافظات، التي قد تكون أيضا بيئة جاذبة لعناصر هذا التنظيم.
• البيئة المحافظة: تتسم بيئة الصعيد بكونها بيئة محافظة، تتمسك بمنظومة عادات وتقاليد تعلّي من قيمة الدين، وقد يتصور التنظيم وغيره أن هذا التكوين المحافظ قد يسهل من عملية استقطاب وضم عناصر جديدة لصفوفه، مستغلا التدين الفطري الذي تتسم به المجتمعات في جنوب مصر. لكنه تناسى غلبة وسيطرة التكوين القبلي والعائلي على تلك البيئة لدرجة قيامهم بدور أمنى مكمل لدور أقسام الشرطة، هذا بالإضافة إلى تزايد الدور الصوفي في الفترة الأخيرة، والذي يعد عاملاً قويا في مقاومة محاولات استغلال هذه البيئة، وسوء توظيفها.
• المشكلات الاجتماعية: قد يرى التنظيم خطأً أن بُعد الصعيد عن مركز الدولة المصرية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة بين الشباب في العديد من القرى والنجوع، يشكل مطمعاً لجذب عناصر جديدة، خاصة أن انهياره وهزيمته واضطراره للانسحاب من مناطق نفوذه قد يجعله يبحث عن حاضنة شعبية بديلة، مستغلا صعوبة الحياة، ونقص الإمكانيات، وتراجع البنى التحتية، والمشكلات الاجتماعية والمادية التي يعاني منها عدد ممن القرى في الصعيد.
ثانيًا- لماذا لن يتمكن "داعش" من التمدد نحو صعيد مصر؟
على الرغم من كل ما سبق من عوامل، قد تكون مهيئة لتوجه العناصر المتطرفة، بشكل عام، والعناصر الموالية لـ "داعش"، بشكل خاص، إلى صعيد مصر ليكون مكاناً بديلاً لارتكاب جرائم بعد هزيمة عناصره في سيناء، بفعل الضربات الأمنية المتلاحقة وما تفرضه القوات المسلحة المصرية، فإن نجاح التنظيم في التوجه إلى صعيد مصر يبدو أمرا صعب المنال، وهو ما يمكن أن يعود إلى ما يأتى:
• التكوين المجتمعي: على الرغم مما ذكر حول التكوين المجتمعى المتدين لصعيد مصر، والذي يراه البعض مهيئا لنشر التنظيم أفكاره، إلا أنه وبتأمل طبيعة هذا التكوين بعمق، يتضح أن البنية المجتمعية الصعيدية هي بنية محافظة أكثر منها متدينة، فهي بنية منغلقة على نفسها تعلي من شأن العادات والتقاليد، وهو ما يجعلها عصية على الخضوع لاختراق منظم لطبيعة المجتمع المحافظة، والتي تلفظ الغرباء، وترفض اختراقهم لبنائها العائلي الذي يتسم بالتماسك.
• سيكولوجية الشخصية الصعيدية: والتي تتسم بالميل أكثر نحو مناصرة الدولة وعدم الخروج عليها، ولعل طبيعة الحياة التي تتسم بالاستقرار النسبي، والتي شكلت خصائص "العصبية" في الشخصية الصعيدية تجعله أكثر ميلا لعدم قبول منطق دخول مقاتلين أجانب داخل مجتمعه، أو حتى عناصر مصرية من خارج بنائه التقليدي، الذي يعلي فيه من أهمية وقدر العادات والتقاليد وإعلاء منطق العيب، وهو في ذلك يختلف عن طبيعة البنية السيناوية للشخصية، والتي هيأها موقعها الجغرافي وما مرت بها من أحداث لتألف التعامل مع الجنسيات المختلفة.
• العلاقات الجيدة بين قوات الأمن وكبار العائلات والعمد في منطقة الصعيد: والتي يصعب معها خلق حاضنة شعبية للتنظيم في الصعيد، خاصة في ظل التعاون بين الطرفين، والذي غالبا ما ينتج عنه تعاون بين الطرفين في محاصرة عناصر التنظيم، إن ظهرت، والقضاء عليها، وهو ما يمثل أيضا تحديا صعبا أمام محاولات خلق نقاط نفوذ للتنظيم داخل القرى، أو في المناطق الجبلية والصحراوية المتاخمة لها، ولذلك فإن أبعد ما يمكن للعناصر الموالية لداعش أن تقوم به في صعيد مصر هو شن هجمات إرهابية على أهداف هشة، أو ضم عناصر محدودة لصفوفه، ولكن من المستبعد أن يتمكن من خلق نقطة ارتكاز ثابتة له في صعيد مصر.