السرية، نهج مهم تحافظ عليه التنظيمات الحديدية (كجماعة الإخوان، ومثيلاتها) في جميع مراحل العمل .. يعتبرون أنفسهم في مرحلة حرب مفتوحة مع المحيط الذى يعملون فيه، ومن ثم لم تعلن جماعة الإخوان (في أي فترة زمنية) بشكل صريح عن هيكلها التنظيمي، وتركيبة أجهزتها، وتشكيلاتها الداخلية.
لم تتخل الجماعة عن نهجها السري (بغطائه الدعوى)؛ رغم سنوات مديدة من ممارسة نشاطها التنظيمي بصورة علنية (مما يتنافى مع مظلومية المطاردة الأمنية).. انخرطت خلالها في العمل السياسي .. دخلت ماراثون الانتخابات (وفق برنامجها، وشعاراتها) بالتنسيق مع الحزب الوطني (قبل عام 2011)، ومع أحزاب أخرى بعد التاريخ المذكور.
يطغى الأمني على السياسي داخل جماعة الإخوان (في داخل مصر، وبين التنظيمات التابعة لها، تحت مظلة التنظيم الدولي) .. ورغم التأكيدات بأن مكتب الإرشاد (الهيئة التنفيذية)، ومجلس الشورى العام (الهيئة الرقابية والتشريعية العليا) أصحاب القول الفصل في وضع وتنفيذ خطط العمل، تظل هناك "إرادة خفية" تتحكم في قرار الجماعة، وتوجيه حركتها.
هذه الإرادة الخفية تحسم الأمور التنظيمية والميدانية، سواء فيما يتعلق بأقسام الجماعة (نشر الدعوة، والعمال، والفلاحون، والأسرة، والطلبة، والاتصال بالعالم الإسلامي، والتربية البدنية، والمهن، والصحافة والترجمة...) أو لجانها (السياسية، والمالية، والإحصائية، والقانونية، والشئون الداخلية، والجهاز الإداري، والخدمات، والفتوى) والمكاتب الإدارية التى تتابع نشاط المناطق، والشُعب، والأسر.
مؤشرات عدة توضح أن النظام الخاص (التنظيم السري) لجماعة الإخوان (الذي تأسس عام 1940) لا يزال يتحكم في قرارها.. يوجه مسيرتها. النظام الخاص، حين تشكيله، سارع بالكشف عن وجهه السافر .. دوره القديم في زعزعة الأمن الداخلي يفسر محطات تعيشها مصر خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد الإطاحة بالجماعة من الحكم.
منذ بداية الإعلان عن تأسيسه، تناقض دور "التنظيم الخاص" مع ما يتم تسريبه من محاولات لتحسين صورته، ودغدغة المشاعر الشعبية بأهدافه المزعومة (حماية الدعوة.. إعداد كوادر مدربة لمواجهة الاحتلال الإنجليزي.. التصدي للحركة الصهيونية في فلسطين...).
أرادت قيادات الإخوان (قبل توحش التنظيم الخاص، وسيطرته على مفاصل الجماعة، وقرارها من خلف ستار) تكوين جيش خاص وأجهزة أمنية موازية للمؤسسات الرسمية، أولًا، لمواجهة القوى السياسية والحزبية المنافسة، لاسيما حزب الوفد، وثانيًا، خوض مواجهة حاسمة مع "العرش الملكي" تحول مشروع "التمكين" إلى واقع بالقفز على حكم مصر.
عمليات "التنظيم الخاص" وضعت مؤسس الجماعة، حسن البنا، في موقف حرج.. تعارضت ما يروجه عن جماعته (الناشئة عام 1928)، وأنها حركة إسلامية إصلاحية (دعويًا، وتربويًا)، ربما لأن الواقع الذى عبرت عنه عمليات التنظيم الخاص راحت تشير إلى أن هناك من يسعى لتحويل الجماعة إلى تنظيم مسلح، بندقيته تضرب للداخل.
وقائع الحاضر تفسرها محطات الماضي، عندما هيمن "التنظيم الخاص" على الجماعة.. تبدَّى ذلك قبل وبعد قرار حل الإخوان عام 1948.. لم تتوقف العمليات الإجرامية لـ "التنظيم الخاص".. زادت وتيرة العمليات بعد قرار حل الإخوان.. تم اغتيال محمود فهمي النقراشي، رئيس الحكومة، ونسف محكمة الاستئناف، وتنفيذ حوادث أخرى متفرقة شغلت الرأي العام.
لماذا لم نسأل أنفسنا عن المستفيد الأكبر من اغتيال "حسن البنا" لاحقا: وهل كانت العملية وجها آخر للصراع الداخلي على زعامة الإخوان، خاصة بعد تبرؤ "البنا" من جرائم التنظيم الخاص؟، أم أن اغتياله استهدف تهيئة الساحة أمام الجماعة بـ"مظلومية كبرى"، وهو أسلوب تقليدي يلجأ له الإخوان في مسيرتهم؟
التنظيمات الحديدية بلا مشاعر.. لديها استعداد للخلاص من نصف التنظيم للحفاظ على النصف الآخر.. عمليات التنظيم الخاص (وامتداداته اللاحقة، متعددة المسميات والصلاحيات) لم تتوقف على ما آل إليه حال الآباء المؤسسين للتنظيم.. محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية، محطة مهمة، خطط لها الجناح الأمنى المتحكم في الجماعة لتغييب "رمز ثورة 23 يوليو"، حتى يسهل للجماعة القفز على حكم مصر.
كان البعض يعتقد أن المحاكمات الحاسمة ستنهى دور "التنظيم الخاص".. لكن عناصره الموجودة في السجون (منتصف الستينيات) ساعدت في تهيئة جيل جديد من التنظيمات المتشددة.. وبزغت قوتها في عملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، مصحوبة بمحاولة ثالثة للقفز على حكم مصر (أحداث أسيوط، وما تليها) قبل محاولة رابعة من وجهة نظره تتمثل في أحداث الأمن المركزي، عام 1986 (التى حاول البعض اختصارها في سطوة تجار مخدرات غاضبين من اللواء أحمد رشدي، وزير الداخلية الأسبق).
في كل مرة، يتأكد أن "التنظيم الخاص" لا يزال حيا.. يمارس عملياته النوعية بالأسلوب نفسه.. لا فرق بين اقتحام وحرق السجون بعد يناير 2011، أو بين ما يحدث في سيناء ومناطق الوادي.. عناصر مؤهلة ومدربة على تنفيذ عمليات تكتيكية؛ لتشتيت المؤسسات الوطنية، واستنزافها، ترتبط حركيًا، وروحيًا بالتنظيم، وتأتمر بأوامره.
لا يكتفي الجناح المتنفذ في جماعة الإخوان بتعزيز قوته الداخلية؛ لكنه حاول الإقدام على الخطوة الأخطر، ممثلة في إحكام قبضته على المؤسستين الأمنية والعسكرية في مصر.. الزيارة (شبه سرية) التى قام بها قاسم سليماني (قائد فيلق القدس الإيراني) للقاهرة (نهاية ديسمبر 2012) كانت مرحلة متقدمة في هذا المخطط.
الجناح المذكور لم يتخل يومًا عن حلمه في السيطرة الكاملة على أدوات القوة في مصر (الجيش، وأجهزة الأمن).. هكذا سارت مناقشات "المجموعة المكلفة" من قيادات الإخوان مع "ضيفها الخاص" قاسم سليماني.. لم يأت الجنرال الإيراني بمفرده، بل بصحبة وفد رفيع المستوى، تم ترشيحه من مجلس تنسيق المعلومات (أعلى هيئة مخابرات إيرانية).
اعتراض المؤسسات الأمنية في مصر على الزيارة (والمباحثات الإخوانية المشبوهة مع الجانب الإيراني) عبر عنه وزير الداخلية، آنذاك، اللواء أحمد جمال الدين (مساعد الرئيس للشئون الأمنية، حاليا).. أبدى انتقادات حادة للزيارة، وتوقيتها، وجدول أعمالها، ومشاركة مسئولين إخوان (يعملون برئاسة الجمهورية) فيها.
اعتراضات "جمال الدين" كانت سببًا في إقالته خلال التغيير الوزاري اللاحق.. حجة الإخوان كانت ساذجة.. سربوا للرأي العام أنه "لم يردَّ على الاتصالات الهاتفية لرئيس الجمهورية، محمد مرسى"، الذى كان يرغب في تصدى وزارة الداخلية للمتظاهرين أمام قصر الاتحادية!
واقعيا، كانت عملية استبعاد "جمال الدين" خطوة معبرة تؤكد هيمنة "الجهاز الأمني" على قرارات الجماعة، ومندوبها (محمد مرسي) الموجود على رأس السلطة في مصر. في سياق الرغبات نفسها، كانت المجموعة الضيقة المعنية بالملف الأمني تخطط لاستنساخ تجربة "فيلق القدس"، وتوسيع نطاقه حتى يصبح مشابها لقوات الحرس الثوري الإيراني، مع تمصير تجربة ميليشيا قوات التعبئة العامّة الإيرانية (الباسيج) في وقت لاحق.
شرعت الجماعة بالفعل، فور تأكدها من الهيمنة على المشهد العام في مصر بعد 28 يناير 2011، في تعظيم دور جهازها الأمني.. استدعت طريقتها التقليدية في التجنيد التى كان يتبناها النظام الخاص، من خلال تَشكيل خلايا عنقودية، عبر أسلوب المجموعات الصغيرة (5 أشخاص)، بحيث يستمر التسلسل حتى المستوى القيادي الأعلى.
لا تتخلى الجماعة عن أسلوب التربية الذى بدأ مع تأسيس النظام الخاص (تحييد المتقدمين وعزلهم عن المحيط العام، ودغدغة مشاعرهم بشعارات دينية وجهادية، ثم قياس مدى رغبته في العمل الحركي، وقياس مدى استعداد الأفراد لتنفيذ المهام التنظيمية، حتى وإن كانت خطيرة.. لا تتخلى الجماعة عن سلوكها فى المتابعة الأمنية الداخلية للمنظمين الجدد التى تنتهي بمرحلة "البيعة".
الآن، وبعد 3 سنوات من المواجهة الأمنية، يتضح أن جماعة الإخوان (ذات الإرث التنظيمي، والإجراءات السرية المعقدة) أصبحت تعاني ثنائية القيادة بين الداخل والخارج.. قيادة الخارج تهيمن على جوانب مهمة (ماليا، وإداريا، وأمنيا)، فيما قيادة الداخل مرتبكة بفعل الضربات الأمنية (الإجهاضية) الناجحة، ومن ثم فنحن أمام كيان يفتقد لاستراتيجية موحدة تحكم تصرفاته على الأرض، ومن ثم سيتسع نطاق الاضطراب الميداني، مما يدلل على مزيد من الفشل في العمليات التى تنفذها عناصر مرتبطة مباشرة بالجماعة، أو عبر كوادر وميليشيات متقاطعة معها.
أما على المستوى السياسي، فقد ظل البعض يتمسك بأن الاستراتيجية الأمنية يجب ألا تكون الحل الوحيد في مواجهة الجماعة (وأخواتها) مع المطالبة بدفع عناصرها نحو العمل السياسي كونه بديلًا لممارسة العنف، غير أن التجربة المصرية (منذ نشأة الجماعة، وحتى الآن) تؤكد أنها تتعاطى مع الانفراجة السياسية على طريقتها الخاصة، فهى (على عكس التيارات السياسية الأخرى) العاملة في المشهد، تعتبر نفسها فى حالة "صراع وجود" مع الجميع، لأن من يحكم قرارها يغلِّب الأمني على السياسي!!