عاد رئيس الوزراء اللبناني "سعد الحريري" لبيروت مساء يوم 21 نوفمبر 2017، وذلك بعد رحلة طويلة مرت بثلاث محطات بدأت بالعاصمة الفرنسية باريس التي وصلها يوم 18 من الشهر نفسه، قادما من الرياض، ثم زار مصر، فقبرص. وغداة عودته اجتمع بالرئيس اللبناني "ميشال عون"، وأعلن التريث في تقديم استقالته واستئناف عمله كرئيس وزراء لبنان حتى تنتهي المشاورات السياسية بين الكتل النيابية ببلاده لحل الأزمة السياسية الناجمة عن إعلان استقالته من العاصمة السعودية الرياض.
هذا التراجع جاء بفعل وساطات عدة، كان أبرزها الفرنسية، حيث أخذ الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" علي عاتقه حل الأزمة منذ بدايتها، وأعلن أنه استقبل "الحريري" بباريس كرئيس لوزراء لبنان، وهذا التدخل الفرنسي في الأزمة كان محل ترحيب من جميع الأطياف اللبنانية، كما أنه أعاد للأذهان دور باريس القوي في معالجة أزمات لبنانية سابقة، وقد طرح نجاح الوساطة الفرنسية تساؤلات حول مدى استمرارها مستقبلاً، ودور باريس الصاعد في حل أزمات الشرق الأوسط.
جهود فرنسية لحل الأزمة:
تكثيف الاتصالات الدبلوماسية: كثف الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" من اتصالاته الإقليمية والدولية، خلال النصف الأول من نوفمبر 2017، بعد إعلان "الحريري" استقالته، مع عدد كبير من قادة منطقة الشرق الأوسط، حيث إنه أجرى إتصالين بالرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي"، وولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، وولي عهد أبوظبي الشيخ "محمد بن زايد"، ومع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كما اتصل بالأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريش"، بالإضافة للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" للتشاور حول الأزمة وتأكيد موقف بلاده منها المتمثل في ضرورة دعم أمن لبنان واستقراره وتهدئة التوترات في المنطقة. كما قام "ماكرون" بزيارة عاجلة ومفاجئة للرياض، قادما من أبوظبي التقي خلالها بولي العهد السعودي "محمد بن سلمان". ودعا "ماكرون" لضرورة عودة "الحريري" لبيروت، وتراجعه عن الاستقالة، وعودة المشاورات السياسية بلبنان، وعمل المؤسسات السياسية، في إطار احترام الدستور اللبناني، وأكد أن فرنسا ستبقى داعمة للبنان دوما. كما قام وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" بزيارة للرياض في 16 نوفمبر 2017، وعقد عدة لقاءات مع القيادات السعودية، ومع "الحريري" فى أثناء وجوده بالرياض لبحث تداعيات استقالته وموقفه من الوضع السياسي بلبنان.
دعم الحريري ودعوته لباريس: أعلنت باريس منذ بدء الأزمة تمسكها "بالحريري" كرئيس لوزراء لبنان، ورفضت أى بديل عنه لتولى منصبه السياسي. وفور عودة "لودريان" من الرياض، أعلنت فرنسا ليلة 16 نوفمبر 2017 أن "ماكرون" اتصل بولي العهد السعودي، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع الأمير "محمد بن سلمان" و"الحريري"، ودعا الأخير لزيارة فرنسا مع عائلته. وهو ما تم بالفعل. ففي صباح يوم 18 نوفمبر 2017 استقبل "ماكرون" الحريري بقصر الإليزيه بباريس وحظي الأخير باستقبال رئاسي فرنسي حافل، واهتمام إعلامي دولي وإقليمي كبيرين. واكتسبت تلك الزيارة أهمية كبيرة، حيث إنها مثلت دليلا قاطعا على حرية "الحريري" في التنقل وإمكانية خروجه من المملكة.
استمرار الوساطة: غادر "الحريري" باريس يوم 21 نوفمبر 2017، ورغم ذلك أكد الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" استمرار جهوده ومشاوراته مع مختلف القوى السياسية اللبنانية حتى انتهاء الأزمة وتجنب تصعيدها، وأجرى عدة اتصالات بالرئيس اللبناني "ميشال عون"، و"الحريري" بعد عودته لبيروت. كما أنه من المقرر أن يقوم "ماكرون" بزيارة هي الأولى لبيروت في مارس 2018. إن هذه الوساطة تهدف لتحقيق هدفين هما .. توفير الاستقرار السياسي والأمني في لبنان في الداخل ومع محيطه العربي، وإيجاد السبل لاستمرار عمل مؤسسات الدولة دون توقف.
دوافع فرنسا:
هناك العديد من العوامل السياسية والاقتصادية التي دفعت باريس للتوسط لحل أزمة استقالة الحريري، ومنها:
محورية العلاقات الفرنسية بلبنان: ترتبط فرنسا ولبنان بعلاقات سياسية ثقافية تاريخية تعود لسنوات طويلة من الاستعمار الفرنسي لبلاد الشام، وما نتج عنها من ارتباط وثيق بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، وهو الوضع نفسه الذى ينطبق على الدول الإفريقية، حيث تتطلع باريس لجعل لبنان نموذجا عربيا يعبر عن الهوية الفرنسية، والمبادىء الفرنسية كالديموقراطية والحرية والتسامح. كما أن باريس تقدم دعما دوليا مستمرا للبنان، حيث دعت لمؤتمر "باريس 1،2،3" لدعم الاقصاد اللبناني بعد حرب صيف 2006. فضلا عن الاستثمارات الفرنسية الكبيرة بلبنان، لاسيما في القطاع المصرفي. كما تشارك فرنسا بأكبر عدد قوات ضمن القوات الدولية المنتشرة بجنوب لبنان "اليونيفيل".
خصوصية وضع "الحريري": يتميز رئيس الوزراء اللبناني "سعد الحريري" بوضع خاص، حيث إنه يحمل ثلاث جنسيات (اللبنانية، والسعودية، والفرنسية)، كما أنه رجل أعمال له العديد من المشروعات الاستثمارية الكبرى في الدول الثلاث. ويرتبط بعلاقات نافذة مع النخبة الفرنسية، ويعمل بشركاته ملايين الموظفين الفرنسيين. ولذا كان حرص باريس على سلامته الشخصية، باعتباره مواطنا فرنسيا.
الحرص على استقرار الشرق الأوسط: تخوفت باريس من تصاعد أزمة الاستقالة ووصولها إلى مرحلة المواجهة العسكرية بين "حزب الله" اللبناني وإسرائيل، مما يؤدي لاشتعال حوب جديدة بالشرق الأوسط، ولذا تؤيد باريس إبقاء توازن القوى في لبنان، والحرص على أن يعتمد لبنان النأي بالنفس عن أزمات المنطقة. وهو ما برز جليا في تأكيدات "ماكرون" غير مرة علي أن استقرار لبنان أولوية فرنسية، وهدف سام لعمل فرنسا في الشرقين الأدنى والأوسط على السواء.
عوامل نجاح الدور الفرنسي:
كان هناك عدد من العوامل الإقليمية والدولية التي أسهمت في نجاح الجهود الفرنسية لحل الأزمة، ومن بينها:
الحرص علي الدولة اللبنانية: يعد الحفاظ على الدولة اللبنانية ومؤسساتها أحد محددات الموقف الفرنسي من لبنان في أى سياسية يروم إليها، وكذلك حرصت باريس على تجنب نشوب حرب نتيجة استقالة الحريري، ولذا تواصل "ماكرون" أكثر من مرة مع "نتينياهو"، وهذا الموقف قد توافق مع موقف مختلف القوى السياسية اللبنانية حتى قوى 8 آذار (منافسي "الحريري")، حيث أكد رئيس المجلس النيابي اللبناني "نبيه بري" أن لبنان بعيد عن الحرب، وفي أمان سياسي وأمني واقتصادي، كما طالب الأمين العام "لحزب الله" فتح حوار مع الحريري، ورفض الاعتراف باستقالته. وقد كان هذا تغير واضح في موقف قوى 8 آذار، لأن "الحريري" أعلن استقالته، احتجاجا على تدخلات حزب الله في الشأن الداخلي للدول العربية، ووجود قوات عسكرية تابعة له في سوريا والعراق واليمن.
دعم أوروبي لباريس: كان الموقف الفرنسي معبرا عن موقف الاتحاد الأوروبي من الازمة، وربما كان هناك اتفاق ضمني على إدارة باريس للأزمة، لاسيما بعد تأكيد (بريطانيا، وإيطاليا، وبلجيكا) لوزير الخارجية اللبناني "جبران باسيل" خلال جولته الأوروبية الأخيرة بنوفمبر 2017، على ضرورة الحفاظ على استقرار لبنان، وإبعاده عن أي تصفية حسابات إقليمية، وضرورة عودة "الحريري" أن وجوده يحافظ على توازن القوة السياسي بالبلاد. وهذا الموقف الأوروبي الموحد قد تلاقي كذلك مع الموقف الروسي من الأزمة، حيث دعت موسكو لضرورة مراعاة مصالح كل القوى السياسية الأساسية في البلاد، عبر الحوار، ومن دون أي تدخل خارجي. هذا التوافق الدولي والدعم للموقف الفرنسي كان عاملا في نجاح إدارة باريس للأزمة.
توافق فرنسي مصري: تشهد المرحلة الحالية تعاونا استراتيجيا مصريا فرنسيا مكثفا، وقد برز ذلك التوافق في الأزمة اللبنانية، حيث إن التشاور الفرنسي - المصري استمر على مدى أسبوعين، وكانت زيارة "الحريري" للقاهرة قادمًا من باريس وقبل عودته لبيروت دليلا واضحًا على وجود تنسيق مصري - فرنسي لحل الأزمة. فكل من القاهرة وباريس لها نفوذها على بعض الدول الإقليمية والقوى السياسية بلبنان الذي وظفته لحل الازمة.
انتقاد إيران و"حزب الله": ربما يكون هذا هو العامل الأبرز الذي عزز الموقف الفرنسي لحل أزمة استقالة "الحريري"، حيث انتقد "ماكرون" للمرة الأولى طهران، ودعا المجتمع الدولي لمحاسبتها على تطوير برنامجها للصواريخ الباليستية، والهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط. وذلك رغم التقارب الذي شهدته العلاقات بين الدولتين عقب توقيع الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة (5+1) في عام 2015، ثم أبدى "ماكرون" استعداده للحوار مع إيران علي أن تتبع استراتيجية أقل هجومية في المنطقة. كما دعت باريس "حزب الله" للتخلى عن سلاحه، واحترام سيادة الدولة، اللبنانية، والتعامل كحزب سياسى، واحترام قرارات مجلس الأمن الدولى في هذا الشأن. كما انتقدت انخراط "حزب الله" فى الحرب الأهلية بسوريا، لأنه ربما يورط لبنان في حرب مع إسرائيل. وتعد تلك من المرات القليلة التي توجه فيها باريس انتقادات حادة "لحزب الله" اللبناني. وهذا الموقف يتوافق مع موقف "الحريري" الذي أعلن عقب عودته لبيروت رفضه لأي عمل يصدر من "حزب الله" ضد أى دولة عربية.
خلاصة القول، إن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" منذ توليه منصبه في مايو 2017 قد تبني سلوكًا خارجيًا نشطًا للغاية، بغية تعزيز مكانة بلاده دوليًا. فهو يتبع في ذلك نهج أسلافه "شارل ديجول" و"فرانسوا ميتران" و"جاك شيراك"، حيث يرى فرنسا قوة أوروبية متوسطة يجدر بها أن تضطلع بدور دولي مميز كالتوسط في حل أزمات الشرق الأوسط، ولذا نجده توسط بين الفرقاء الليبيين وأصدر "إعلان باريس" لوضع آليات المصالحة الوطنية الليبية، كما طرح وساطته بين بغداد وأربيل لاحتواء الأزمة الناجمة عن استفتاء تقرير المصير لكردستان العراق، ويسعى لتعزيز النفوذ الفرنسي إفريقيًا. وقد كان الموقف الفرنسي من أزمة استقالة "الحريري" جزءًا من هذا النهج، ومثل دور باريس في حل الأزمة، وعودة "الحريري" لبيروت، نجاحًا شخصيًا "لماكرون"، ومن المتوقع أن يستمر الحضور الفرنسي الفعال بالمنطقة، لاسيما في الملف اللبناني.