لم يكن التمدد الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط أكثر ما يزعج الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة التي بدأت بنهاية الحرب العالمية الثانية، بقدر ما كانت تزعجها التيارات القومية التي تسعى إلى بناء دول قوية في المنطقة تسيطر على مواردها ومقدراتها ومميزاتها الاستراتيجية.
صحيح أن مجلس الأمن الوطني الأمريكي، بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية، وشركات النفط الأمريكية والبريطانية العاملة في المنطقة، وضع خطة متكاملة لحرمان الاتحاد السوفيتي من نفط الخليج، إذا ما أقدمت موسكو على غزو المنطقة، وأن هذه الخطة تضمنت تفجير مصافي النفط، وردم الآبار بالأسمنت وتعطيل المنشآت والمرافق النفطية في السعودية وإيران والبحرين والإمارات حال الغزو السوفيتي، لكن مواجهة التيارات القومية المتصاعدة في إيران والعالم العربي كانت أكثر تعقيدا.
كان الخطر في هذه التيارات يكمن في رغبتها في السيطرة على مصادر الثروة، وتوجيه منافعها نحو بناء دول مستقلة قوية. وكانت سياسة عدم الانحياز التي قادها الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، والزعيم الهندي، جواهر لال نهرو، والزعيم اليوغوسلافي، جوزيب بروس تيتو، تقف حجر عثرة أمام المساعي الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نحو عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة سياسيا واقتصاديا.
وكانت واشنطن تنظر إلى التحالفات والانحيازات في العالم على أساس ما صاغه وزير خارجيتها، جون فوستر دالاس، حسث قال: "إن لم تكن معنا، فأنت ضدنا".
سرعان ما أطاحت المؤامرات الأمريكية بحكومة محمد مصدق في إيران عندما أقدمت على تأميم صناعة النفط الإيرانية، وأعادت للشاه سلطات فوق سلطاته، وسمحت له بالتغول على شعبه، في مقابل سماحه للشركات الأمريكية بتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من الثروة الطبيعية لبلاده على حساب شعبه.
وبقي المشروع القومي الناصري صامدا في عالم مستقل قدر الإمكان، وهو العالم الذي أطلقت عليه الولايات المتحدة اسم العالم الثالث، أي العالم الذي لم ينضم لمعسكرها ولم ينضم للمعسكر السوفيتي.
وجاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧ لتطيح بهذا المشروع من أساسه الذي يتمثل في وعود جمال بالقوة والغلبة والتفوق، ولتبدأ مصر طريقا صعبا لاستعادة الكرامة والاستقلال الوطني.
وعبر جيشنا العظيم عتبة المستحيل، وهدم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم، وقطع ذراعه الطولى في حرب أكتوبر المجيدة، لكن العبء الثقيل للمعركة وما قبلها لم يكن يدع لمصر فرصة دون عون خارجي، وكان الانحياز إلى المعسكر الأمريكي، على الأقل جزئيا، خيارا لا بديل له.
وظل التيار القومي المصري محاصرا وسط متطلبات المصالح الأمريكية التي اضطرت مصر لعقود إلى الوفاء بها، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في منطقة شرق ووسط أفريقيا، وحتى في أفغانستان التي سمحت مصر بإرسال شبان مصريين إليها لقتال القوات السوفيتية تحت عنوان الجهاد الإسلامي، وأرسلت إليها أسلحة سوفيتية الصنع كي يبدو أن المجاهدين يحصلون على سلاحهم من القوات السوفيتية.
وجاءت ثورة الثلاثين من يونيو ليعود التيار القومي المصري إلى مطالبه الصلبة، التي أسس عليها هذه الدولة منذ آلاف السنين.. الاستقلال والقوة وحرية القرار الوطني.
وكان من الطبيعي في ظل هذه العودة أن ترجع مصر إلى قاعدتها الإفريقية التي كانت مؤسسة لوحدتها في الستينيات، وهذه المرة ترجع بيد ممدودة بالسلام والتنمية، لا بالإرادة الأمريكية التي تحارب الوجود السوفيتي، وتقتل أبناء القارة السمراء بعضهم ببعض، كما حدث في أنجولا والصومال وإثيوبيا وغيرها.
وكان من الطبيعي أيضا أن تعود مصر إلى انحيازاتها الطبيعية للدول النامية والصاعدة اقتصاديا، والساعية على أسس قومية إلى الاستقلال والقوة وحرية القرار الوطني.
على هذا الأساس أرى زيارات السيد الرئيس المتكررة إلى العمق الأفريقي، وبهذه العين أرى ما يراه من ضرورة لاستعادة دور مصر كدولة قومية راسخة، تحمي الاستقلال الوطني كمبدأ عالمي لا كمصلحة ذاتية، وتساند وتطلب المساندة من دول تجمعنا معها نفس الأحلام والآمال.
هكذا أيضا كانت استضافة السيد الرئيس في قمة الدول الصاعدة اقتصاديا في الصين، وزيارته لفييتنام التي سيبقى اسمها خالدا في تاريخ الإنسانية كميدان هزمت فيه الرؤية الأمريكية لعالم يمتطيه العم سام منفردا.
هذه الزيارات ليست مستجدات سياسية أو إقليمية، ولا هي وحي أحلام التنمية الاقتصادية فحسب، ولكنها بعث لمشروع قديم يبدو أن الدولة المصرية لم تتخل عنه أبدا.