قصص الأمس البعيد هى نفسها قصص الأمس القريب، واليوم، والغد. فمع كامل تقديرى لمعاناة البشر، ورفضى التام لعمليات الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي فى بورما، إلا أنه يجب التفكير مليا فى الأمر، ولماذا نشأ، وأحيانا يخمد المشهد تماما، وأحيانا أخرى يتصاعد بقوة.
الكثير من الدول والشعوب والقادة لا يتعلمون نهائيا من الماضى، ولا يحسبون حساب القادم وينطبق عليهم قول الحق سبحانه وتعالى "فأغشيناهم فهم لا يبصرون". والإبصار هنا الذى أقصده بمعنى الإدراك الكامل لما يدور حولنا، ومدى علاقتنا به، ومدى استخدامه ضدنا لاحقا، أو بالأحرى استخدام ما ينشأ عن هذا الصراع أوذاك من قرارات دولية قد تستخدم مرجعيات فى أى نزاع لاحق معنا، حتى فى الأفق غير المنظور، وهذا أيضا جزء من الاستشراف الذى لا يعيه الكثيرون.
حول ما يحدث فى بورما لابد أن نتذكر هؤلاء، وليس التذكر هنا على مبدأ للضرورة أحكام، بل على مبدأ أن هذه الضرورة شديدة الأهمية لاستحضار ما سبق لمحاولة فهم ما يحدث الآن فى هذه الأزمة أو فى أزمة لاحقة.
1 - المجاهدون في أفغانستان:
كيف بدأ الصراع في أفغانستان، ومن أحضر ما أطلق عليهم المجاهدون، ومولهم ودربهم وسلحهم، وصولا إلى عودة جزء ممن أطلق عليهم الأفغان العرب فى بداية التسعينيات، وبدء مرحلة تفخيخ المنطقة العربية والشرق الأوسط.
2 - حركة طالبان:
نشأتها وتطورها ومن أحضر عناصرها، ثم مولهم، ثم قام بتسليحهم، ثم جاء ليقاتلهم وليوفر بهم أسباب الصراع على الأرض والبقاء عليها.
3 - تنظيم القاعدة:
النشأة والتطور، ثم التدريب والتمويل والتسليح، ثم الاستخدام الأمثل له من قِبل من صنعوه إقليميا ودوليا ثم خرجوا لقتاله.
4 - تنظيم داعش:
النشأة والتطور، ثم التدريب والتمويل والتسليح، ثم التوظيف الأمثل له إقليميا ودوليا، ثم الخروج لقتاله.
5 - تنظيم أنصار بيت المقدس:
النشأة والتطور ثم التدريب والتمويل والتسليح، ثم التوظيف الأمثل له فى سيناء، وحتى الآن أغلقت الدولة المصرية عليهم الباب للخروج لقتاله على أرض مصر.
6 - جبهة النصرة:
النشأة والتطور، ثم التدريب والتمويل والتسليح، ثم التوظيف الأمثل لها للمساهمة فى هدم الدولة السورية .. وليست النصرة وحدها، بل هى وأخواتها .
7 - المعارضة السورية المسلحة:
النشأة والتطور، ثم التدريب والتمويل والتسليح، ثم التوظيف الأمثل لتنفيذ جزء مهم فى أجندة معدة سلفا لسقوط الدولة السورية.
8 - جيش حماية الروهينجيا:
النشأة والتطور، ثم التدريب والتمويل والتسليح، ثم التوظيف الأمثل على أساس عرقى ومذهبى لجذب مقاتلين أجانب، مثلما فعلت التنظيمات التى سبق ذكرها لتنفيذ أجندة محددة ومعدة سلفا. وهذا الجيش أيضا يرتكب جرائم بحق المسلمين الروهينجيا الذين من المفترض أن يحميهم، ويقوم بتفريغ وإخلاء مناطق، وحرق منازل، وقتل لتصعيد الموقف، طبقا لما يتلقاه من تعليمات، كما يرتبط ارتباطا وثيقا مع جماعة أبو سياف الإرهابية فى جنوب الفلبين، كذلك بدأ منذ أيام فى استقبال عناصر إرهابية من باكستان ممن يطلق عليهم مجاهدون. إذن الأمر لا علاقة له بالجهاد، ولا بالإبادة الجماعية، ولا بالتطهير العرقى، وهذا ما سيتضح فى السطور التالية.
قصة بورما:
هنا سيكون من المفيد للقارئ أن يتعرف على بورما، من خلال هذه السطور التى ستساعده على حل الكثير من النقاط التى يوجد حولها لغط كبير. فهي إحدي دول جنوب شرق آسيا. وفي أول أبريل عام 1937 انفصلت عن حكومة الهند البريطانية، نتيجة اقتراع بشأن بقائها تحت سيطرة مستعمرة الهند البريطانية، أو استقلالها لتكون مستعمرة بريطانية منفصلة، حيث كانت إحدي ولايات الهند البريطانية، وتتألف من اتحاد عدة ولايات هي بورما، وكارن، وكابا وشانوكاشين، وشن.
في عام 1940، كونت ميليشيا الرفاق الثلاثون جيش الاستقلال البورمى، وهو قوة مسلحة معنية بطرد الاحتلال البريطاني، وقد نال قادة الرفاق الثلاثون التدريب العسكري في اليابان، وعادوا مع الغزو الياباني في عام 1941، مما جعل بورما بؤرة خطوط المواجهة في الحرب العالمية الثانية بين بريطانيا واليابان في يوليو1945.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء، أعادت بريطانيا ضمها كمستعمرة، حتى إن الصراع الداخلي بين البورميين أنفسهم كان ينقسم بين موال لبريطانيا، وموال لليابان، ومعارض لكلا التدخلين، وقد نالت بورما استقلالها أخيراً عام 1948، وانفصلت عن الاستعمار البريطاني.
ويختلف سكان بورما من حيث التركيب العرقي واللغوي بسبب تعدد العناصر المكونة للدولة، ويتحدث أغلب سكانها اللغة البورمية، ويطلق على هؤلاء (البورمان)، وباقي السكان يتحدثون لغات متعددة، ومن بين الجماعات المتعددة جماعات الأركان ويعيشون في القسم الجنوبي من مرتفعات، وأركان بوما، وجماعات الكاشين، وينتشر الإسلام بين هذه الجماعات.
الموقع الجغرافي:
بورما هي إحدى دول جنوب شرق آسيا – كما سبقت الإشارة - وتقع على امتداد خليج البنجال. وتحدها من الشمال الشرقي الصين، بينما تجاورها الهند وبنجلاديش من الشمال الغربي، وتشترك حدود بورما مع كل من لاوس وتايلاند. أما حدودها الجنوبية فتطل على خليج البنجال والمحيط الهندي، وتمتد ذراع من بورما نحو الجنوب الشرقي في شبه جزيرة الملايو، وتنحصر أرضها بين دائرتي عشرة شمال الاستواء وثمانية وعشرين شمالا. ولقد احتلت بريطانيا بورما في نهاية القرن التاسع عشر وحتي استقلالها في عام 1948، وتعد يانجون (حاليا رانجون) أكبر مدنها، كما كانت العاصمة السابقة للبلاد.
السبب الفعلي للصراع يتمثل فى خط أنابيب الصين - بورما، ويصل بين ميناء تشاوبيو(سيتوى) في خليج البنجال وکونمینك في مقاطعة يوننان في الصين، وبدأت المحادثات بين الصين وبورما حول دراسة جدوى المشروع في عام 2004.
- في ديسمبر 2005، وقعت بتروتشاينا اتفاق مع الحكومة البورمية على شراء الغاز الطبيعي لمدة تزيد على 30 سنة. بناء على ذلك، وقعت الشركة الأم لبتروتشاينا مؤسسة البترول الوطنية الصينية في 25 ديسمبر 2008 عقد اتحاد شركات بقيادة دايوو الدولية لتشغيل شراء الغاز الطبيعي من حقل شوى البحري.
- في أبريل 2007 وافقت لجنة الإصلاح والتنمية الوطنية الصينية على خطة لبناء خطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي.
- في نوفمبر 2008، اتفقت الصين وبورما على بناء خط أنابيب نفط بتكلفة 1.5 مليار دولار، وخط أنابيب غاز طبيعي بتكلفة 1.04 دولار.
- في مارس 2009، وقعت الصين وبورما اتفاقية لبناء خط أنابيب غاز طبيعي، وفي يونيو من العام نفسه، وقعت على اتفاقية لبناء خط أنابيب نفط خام.
- أقيم حفل الافتتاح بمناسبة بدء الإنشاءات في 31 أكتوبر 2008 على جزيرة ماداي. وستسير خطوط النفط والغاز الطبيعي بالتوازي وتبدأ بالقرب من تشاوبيو عبر ماندالاي لاشيو وموس في بورما قبل أن تدخل الأراضي الصينية بالقرب من حدود مدينة روي لي بمقاطعة يوننان. وسيصل طول خط أنابيب النفط الذي سينتهي في كونمينك عاصمة مقاطعة يوننان 771 كم. وسيمتد خط أنابيب الغاز لما بعد کونمينك، وصولاً إلى گوي زو وگوانك شي في الصين، ليصل إجمالى طول الخط إلى 2806 كم.
- ستبلغ قدرة خط أنابيب النفط 12 مليون طن من النفط الخام سنوياً. وسيعمل على تنويع مسارات واردات الصين من النفط الخام من الشرق الأوسط وأفريقيا، ويتجنب المرور عبر مضيق ملقا الذى تشرف عليه القوات الأمريكية.
- ستبنى خزانات النفط على جزيرة بالقرب من ميناء تشاوبيو، ومن أجل معالجة النفط ستبني الصين مصافي في تشونك چينك، وسيشوان، ويوننان.
- سيتيح خط أنابيب الغاز توصيل الغاز الطبيعي من الحقول البحرية البورمية إلى الصين بقدرة سنوية متوقعة تصل لأكثر من 12 مليون برميل مكعب غاز سنوياً. وسينقل من خط الأنابيب في حقل شوى.
- بدأت الصين في الحصول على الغاز الطبيعي من مشروع شوى البورمي عن طريق خط الأنابيب في أبريل 2013.
- تقدر احتياطيات الغاز الطبيعي في مناطق شوى، شوى- يهيو وميا بإجمالي 127-218 مليون برميل مكعب، والتي تشغلها مجموعة شركات بقيادة دايوو الدولية تشمل مجموعة المشغلين أيضاً شركة ميانما للنفط والغاز، ومؤسسة النفط والغاز الطبيعي الهندية، ومؤسسة الغاز الكورية.
- من المتوقع أن تبلغ إجمالي تكاليف المشروع 2.5 بليون دولار أمريكي. وكجزء من المشروع سيصل خط للسكك الحديدية بين موسى ولاشيو، وسيمتد خط السكك الحديدية بطول 80 ميلاً، وسيتضمن 41 جسراً، و36 نفقاً، و7 محطات.
- الميناء الصيني على جزيرة مادى أمام تشاوبيو بورما 18 فى مايو2017.
- المشروع مشترك بين مؤسسة البترول الوطنية الصينية (بقيمة 50.09%)، وشركة ميانما للنفط والغاز (بالنسبة المتبقية).
أهمية المشروع:
يقول - ثانت مينت-يو، وهو كاتب ومستشار لحكومة بورما: تفتقر الصين إلى كاليفورنيا خاصة بها، أى إلى شاطئ ثان يوفر للمقاطعات الداخلية النائية منفذاً بحرياً. ويوضح في كتابه "أين تلتقى الصين بالهند"، المخصص لشرح أهمية بورما الجيوسياسية أن خط الأنابيب خطوة شديدة الأهمية في سياسة «المحيطين» الصينية.
وعلى نحومشابه لما قاله الكاتب الأمريكي البارز، روبرت كابلان، إن قدرة الصين على إنشاء وجود لها في المحيط الهندي، المسطح المائي الثالث من حيث المساحة في العالم، ستحدد إذا كانت الصين قوة عسكرية عالمية، أو أنها ستبقى قوة محلية محصورة في المحيط الهادي.
يتضح لنا الآن أن الأمر يتعلق بالمصالح الجيوسياسية والجيواستراتيجية، كما يتعلق بتشكل قوى عالمية جديدة، وشكل جغرافية مختلفة للعالم، ونوع آخر من التحالفات والانتشار، وقوى كبرى تتحرك فى ظلمه الليل البهيم من أجل الاستيلاء على ما تريد من ثروات، وتحقيق ما تطمح إليه من نفوذ حتى لوعلى حساب دماء الأبرياء.
تبحث الصين عن فك عزلة أقاليمها الجنوبية، وتبحث أيضا عن مخرج بحرى لها يوصلها بسهولة ويسر إلى المياه الدافئة، وهذا يدخل فى لب الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية التى تريد الصين حبيسة، تتوقف عند كونها قوة إقليمية فقط، وأن تتوقف خطوط الإمداد والتموين لها، وتكون محددة عبر مضيق ملقا الذى تسيطر عليه القوات الأمريكية .
لهذا، لابد من نشوء صراع يتمثل فى جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، وللأسف الشديد أيضا وصول مقاتلين أجانب فعليا من أجل فتح جبهة جديدة للصراع فى خاصرة الصين وبالقرب من أقاليمها، ولتسهيل استصدار قرارات دولية لهذه المناطق بمعاملة مختلفة بما يعطى صفة المراقب للقوات الأمريكية، والغربية التى هى أيضا تحت سيطرة أمريكا بما فى ذلك الناتو.
السيناريو نفسه حدث فى وقت سابق، عندما أراد الغرب إغلاق الطريق إلى المياه الدافئة أمام الأساطيل الروسية ليجعلها حبيسة البحر الأسود، مما اضطر روسيا إلى الاستيلاء المباشر عسكريا على شبه جزيرة القرم، وأدى إلى اشتعال القتال في أوكرانيا، والتى قسمت - حسب ولاء كل منطقة - جزء تابع للغرب، وجزء تابع لروسيا، وقام الغرب باتباع السياسات الأمريكية، وقام بتسليح جزء من الأوكرانيين ضد روسيا، والآن الوضع فى أوكرانيا رهين القرارات الغربية، بمعنى أن التهدئة والاشتعال للموقف هى حسب ظروف الصراع بين الغرب وروسيا.
الصراع نفسه فى بورما بين الصين وأمريكا ومن معها من الحلفاء يخوضه الشرق الأوسط، خاصة الدول العربية النفطية، حيث إن الجزء الأكبر من توريدات النفط والغاز ستستخدم نفس الممرات ونفس خطوط الأنابيب .
طريق الحرير:
ستعتمد الصين فى جزء كبير من تجارتها على دول المياه الدافئة والعالم، عبر بورما، وهذا غير مرغوب فيه من قبل الغرب لأنه يضع الصين فى المقدمة من حيث الوجود الاقتصادي العالمي والعسكرى أيضا فى مناطق متعددة.
قناة السويس:
من مخاطر هذا الصراع بين الغرب جميعاً والصين هو أنهم لن يستطيعون إيقاف الصين، سواء فى بورما أو غيرها، ومن المرجح أن يلجأ الغرب إلى إشعال الموقف فى منطقة باب المندب وإغلاقه لمحاولة منع الصين من الوجود في المنطقة نهائيا، بما سيعجل باندلاع أشكال جديدة من الصراع العسكري المباشر، وبالتالى إغلاق هذا الطريق أمام الملاحة الدولية.
هنا يكمن الخطر من توقف الملاحة فى قناة السويس بالكامل، وهذا يضع مصر فى بؤرة الصراع العسكري المباشر لتضرر مصالحها وتعرض أمنها القومى للخطر الداهم . هنا أيضا سيكون للغرب مقصد مباشر فى ذراع الدولة المصرية وقياداتها لفشلهم السابق فى تحويل مصر إلى أرض للدم والانتقام. قد يظهر وقتها أيضا الحديث عن قناة بديلة أو ممرات أخرى قد تنشأ فى ظل الصراع.
كل ما سبق فى داخل الحالة البورمية التى ظاهرها حقوق الإنسان، مثلما حدث مع سوريا والعراق وليبيا .. لا تندهشوا أيضا من استخدام المسلمين فى الإرهاب وتصويرهم على أنهم القتلة الذين يجب قتالهم، ولا تشعروا بدهشة أيضاً من استخدام المسلمين ضحايا فى البوسنة والهرسك سابقا، والآن في بورما.
المسلمون في أضعف حالاتهم، وهم مثل غثاء السيل وكل شخص منهم وليس كل جماعة أصبح له مرجعية خاصة تستخدمها ضد الآخر، وما أروع من خدمات جليلة كهذه تقدم للأطراف الأخرى وليس لهم مرجعية واحدة توحدهم وتجعل لهم قرارا وشكلا ومصالح موحدة، وتجعلهم لوبىاً كبيراً للضغط. حتى الصراع السنى - الشيعى بين مسلمين ومسلمين، لقد أصبحوا دمى مهمتها الحرق والاحتراق والتشغيل بيد الغير .
أما قمة الخطورة الآن هو إعادة استخدام ما تبقى من الدول العربية، وما تبقى من المسلمين للترويج لما يحدث في بورما على أنه كارثة إنسانية، ومن ثم جمع التبرعات والتمويلات وتقديم الدعم العسكرى والتدريب للدواعش الجدد فى بورما لقتال القتلة والمجرمين .. والحقيقة بدأ التشغيل لهذا الأمر، وبدأ الكثيرون في ابتلاع الطعم، وبالطبع الميديا يملكها أصحاب الأجندة الدولية والمؤسسات الدولية أيضا، وكذلك الجمعيات الحقوقية الدولية، ومؤسسات استصدار التقارير هى منظومة متكاملة تخدم من يحكمون العالم.
أفيقوا يرحمكم الله.