بالرغم من التصعيد الصارخ وحدة الحرب الكلامية، لا يبدو أن الأمور ذاهبة حكما إلى المواجهة، إذ أن وسائل الضغط الدبلوماسية والاقتصادية لم يتم استنفادها.
تتسارع الأحداث في شبه الجزيرة الكورية وحولها، ومقابل وعيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالنار والغضب وباستخدام أقوى ترسانة في التاريخ، لم يرف جفن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي واصل نهجه الاستفزازي وكشف عن خطة لإطلاق صواريخ باتجاه جزيرة غوام الأميركية في غرب المحيط الهادي.
بالرغم من التصعيد وحدة الحرب الكلامية، لا يبدو أن الأمور ذاهبة حكما إلى المواجهة، إذ أن وسائل الضغط الدبلوماسية والاقتصادية لم يتم استنفادها بعد كما يدل على ذلك قرار مجلس الأمن الدولي أو العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على بيونغ يانغ. لكن مما لا شك فيه أن اختبار القوة في شرق آسيا يمثل منعطفا خطرا في هذه اللحظة من العلاقات الدولية.
بالطبع، لا يحبس العالم أنفاسه للتوّ ولا يخشى مواجهة مدمرة للبشر و للحضارة كما كان الأمر عشية 27 أكتوبر 1962، ذاك اليوم الذي كان ربما الأخطر في القرن العشرين حيث تفيد وثائق التاريخ أنه تم حينها تفادي حرب عالمية ثالثة نووية بين الجبارين الأميركي والسوفياتي بسبب أزمة الصواريخ الكوبية. يومها كان المعنيون جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف وفيديل كاسترو وسادت العقلانية في اللحظة الأخيرة وبقيت الحرب الباردة مقتصرة على توازن الرعب والحروب بالوكالة، ولم تكسبها واشنطن إلا بالضربة الاقتصادية القاضية وبنهوض شعوب أوروبا في نهاية الثمانينات.
أما اليوم فالوضع مختلف، إذ أننا لسنا أمام صراع بين لاعبين عقلانيين كما كان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بل أمام شكل جديد من أشكال الصراعات غير المتكافئة والأدهى أن الثلاثي المركزي في الأزمة الكورية المكون من ترامب وكيم جونغ أون وشي جينغ بينغ، تعوزه المرونة وربما الإرادة لتخطي الأزمة الراهنة.
يظن الزعيم الكوري الشمالي أن الابتزاز الباليستي والنووي خير وسيلة لضمان ديمومة حكمه خلال الحقبة الترامبية، أو في مواجهة رجل الانفتاح رئيس كوريا الجنوبية مون جاي أن، ويستنتج الرئيس الأميركي فشل سياسات أسلافه بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما في احتواء التهديد الكوري الشمالي، والأكثر غموضاً في المعادلة ممارسة الزعيم الصيني الذي يحاول الظهور بمظهر الحريص على السلام، لكنه يخفي الرغبة في المساومة على تايوان مقابل التخلي عن نظام كوريا الشمالية.
وما يزيد في الإبهام موقف موسكو التي ترغب في ترك بيونغ يانغ شوكة في خاصرة واشنطن الاستراتيجية وتخشى اهتزاز التوازن في تلك الناحية من آسيا مما يؤثر على المسعى الروسي لفرض شراكات على القوة العظمى الأميركية. وتبدو مواقف اليابان وكوريا الجنوبية مربكة، إذ أن البلدين اللذين يخشيان من تملص واشنطن من التزاماتها تجاه أمن شبه الجزيرة الكورية، يتوجسان أيضا من آثار أي ضربة أميركية استباقية لأن وجود رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لا يعطل الذاكرة اليابانية المثقلة بالحروب، ولأن كوريا الجنوبية ستكون رهينة الشمال في أي حرب وستكون سيول الكبرى تحت رحمة المدفعية العدوة على بعد 40 كيلومترا.
ومن الواضح أنه لولا استعراضات كيم جونغ أون (منذ سنة قامت بيونغ يانغ بتنفيذ 30 تجربة إطلاق صواريخ وباختبارين نوويين) لربما كان الكثير في واشنطن وطوكيو وسيول وغيرها، من الذين يتوجسون من سيناريو الكارثة الحربية، يسلمون بالتعايش مع كوريا الشمالية قوة نووية متمتعة بقدرات تهدد جيرانها.
حسب روايات الطرفين، يتصاعد التوتر في شبه الجزيرة الكورية على خلفية التجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية، والمناورات المشتركة الأميركية الكورية الجنوبية، التي تعتبرها بيونغ يانغ تهديدا لأمنها. وإزاء التطورات المتسارعة، وصل الأمر بالرئيس الكوري الجنوبي مون جاي أن ليدعو إلى رفع القدرات العسكرية في البلاد بأسرع وقت ممكن، فضلا عن إجراء إصلاحات عسكرية لمواجهة تهديدات كوريا الشمالية.
لكن بالرغم من قرع طبول الحرب يبدو أن “نظرية المجنون” التي تدرس في كتب الاستراتيجية الأميركية يمكن أن تكفي للردع من دون حرب وجرى التعويل حينها على التهديد الكلامي والتخويف من السيناريو الكارثي والتهويل بضربة مفاجئة إبان حقبة ريتشارد نيكسون في السبعينات ضد الاتحاد السوفياتي السابق والصين (حروب فيتنام والهند الصينية وحرب تشرين في الشرق الأوسط).
وحيال الأزمة الراهنة يمكن القول إن أسلوب ترامب التهويلي أسهم في تراجع داعمي كوريا الشمالية، وأسفر الأسبوع الماضي عن اعتماد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2371 الذي يحرم بيونغ يانغ من مليار دولار من صادراتها ويشرّع بداية تخل روسي وصيني عن مغامرات كيم جونغ أون.
إضافة إلى تخوف بكين من فرض عقوبات على مصارفها، يمكن تفسير تعاون الصين النسبي برغبة في تطويق التصعيد أو في التهيئة لصفقات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي. لكن التفكير الأميركي الاستراتيجي له حسابات أخرى، ولذا يأتي إصرار ترامب على الإمعان في “نظرية المجنون” التي يتقنها جيمس ماتيس وزير الدفاع الأميركي الذي حذر كوريا الشمالية من انتهاء نظامها وتدمير شعبها، وذلك في موازاة زيادة ترامب لوتيرة التهديد (الذي يطال إيران واتفاقها النووي لعلمه بالعلاقة الوطيدة بين بيونغ يانغ وطهران) ربما يؤدي كل ذلك إلى المزيد من المرونة الصينية وتراجع كيم جونغ أون، وعلّ ذلك يشكل حسب الرأي الأميركي درسا لغير كوريا الشمالية من الدول المارقة.
أرجحية سيناريوهات التهدئة لا تلغي سيناريو ضربة وقائية أميركية على مواقع الصواريخ في كوريا الشمالية وهجمات يمكن أن تأتي من الجو والبر والبحر والإنترنت وتؤدي إلى تدمير البنية التحتية، ولا تستبعد الأوساط المختصة ردا عنيفا من كوريا الشمالية ضد سيول وربما ضدّ قاعدة أندرسون الأميركية في جزيرة غوام.
إزاء تعاظم المخاطر في شبه الجزيرة الكورية، يأتي نداء الزعيم الروحي للتبت الدالاي لاما إلى الصين والهند إلى “العمل على حل المواجهة الحدودية بينهما من خلال الحوار”، لينطبق على الأزمة الكورية وخاصة قوله “تدمير جارك هو تدمير لذاتك”، فهل يستوعب زعيم كوريا الشمالية والمتساهلون معه ذلك، وهل يقلد ترامب جون كينيدي؟