تتحمل نخبة أي دولة دائمًا مسئولية كبرى في قيادة عملية التنوير، وبناء الوعي، خاصة في مرحلة ما بعد الاهتزازات السياسية الكبرى. وفي حالة كحالة الدولة المصرية، شهدت زلازل وهزات سياسية على مدى أربعة أعوام في الفترة من 2011 وحتى 2014، كان من المفترض أن يكون لنخبتها السياسية والاقتصادية دور رئيسي في دعم واستعادة المبادئ الرئيسية الحاكمة للهوية الوطنية المصرية، كونها تعد في مقدمة القوى الناعمة لأي دولة، دفاعًا عن مصلحتها الوطنية، في إطار بناء أمنها القومي، جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة، وقوات الشرطة المدنية.
في هذا السياق، نجدها تتحمل المسئولية العظمى في تكوين الإدراك العام بالأخطار المحيطة بالوطن، كما أنها تكون رأس حربة الدولة في مهاجمة القوى المعادية، والاشتباك معها، وتعريتها ومخططاتها على المستويات الدولية، والإقليمية، والمحلية. فلماذا عندما تتآكل النخبة، وتفقد دورها أمام مغريات عديدة، تعلو خلالها ذاتيتها على وطنيتها، تزامنا مع التربح المادي أو المعنوي من موقعها، ليس بغرض خدمة توجهاتها، وإنما اتساقًا مع رغبات وتوجيهات الجهات المانحة للتمويلات؟ ماذا عندما يتفق قطاع من النخبة بليبرالييه، ويسارييه، والمتاجرين منهم بالإسلام، سياسيًا وتجاريًا، على مبادئ ثابتة، جوهرها رفض النظام، والأصل رفض الدولة، وهدم ثوابتها، ومعاداة أركانها الحاملة، بما فيها عمود الدولة الفقري لها، ممثلًا في القوات المسلحة؟ ماذا عندما تتأسس معالجات كل هؤلاء على مواقف مائعة ماسخة، عديمة اللون، والطعم، والرائحة، تخدم مخططات أعداء الوطن؟ ماذا عن أبحاث أُنفقت عليها الملايين، وبرامج موجهة تسفه وتسخر من استخدام نظرية المؤامرة في التأطير النظري، والتفسير التحليلي للأحداث التي تمر بها البلاد؟.
إن دولة مثل مصر، في مرحلة كتلك التي تتعقد فيها المشكلات، والأزمات الداخلية والإقليمية، وتتشابك وتتداعى تحدياتها، وتختفي بينها الحدود، ينبغي عليها تعرية هذه النخبة الزائفة، وكشف أدواتها ورموزها. فليس من المنطقي أن تترك شخوصًا، تدعي نخبويتها علينا، تمارس تزييفًا ممنهجًا في عقول شباب الوطن تحت دعاوى كتابات على الهوى من التيارات الفكرية كافة، تصب معظمها في تشويه النظام، وكل مسانديه، متسترين بذلك خلف هدفهم الحقيقي الرامي إلى هدم الدولة.
فيما يأتي، نوضح الإطار النظري لما سبق، لكي نتبين جميعًا أننا أمام مخطط ممنهج، آن علينا جميعًا أن نقف في وجهه، وأن نضع حدًا لنخبة أقل ما يمكن أن توصف به أنها نخبة غير قادرة على خلق الهوية.
حصار اقتصادي وحرب معلومات
تستخدم الحروب الاقتصادية، خاصة غير المباشرة، كجزء من استراتيجية حروب الجيل الرابع للتفجير الذاتى للدول، وهدم عمود الدولة الحامل لها، متمثلا فى قواتها المسلحة، وذلك باستخدام عناصرها الأكثر دموية باستخدام عمليات إرهابية كبرى، وما تتصف به من مفاهيم مركبة وأساليب مشتركة، وفق التسهيلات المعلوماتية التى تقدمها حرب المعلومات “Information War”. وهى بذلك تستهدف البنى التحتية، الأمنية والسياسية، للدولة المراد إخضاعها، أو تدميرها، أو الهيمنة الشاملة عليها، ويتم ذلك عبر إثارة الفتن، وإذكاء الاحتراب العرقى والطائفي، وباستخدام قاموس مصطلحات ومفردات خطاب مصوغ بعناية فى دهاليز المؤسسات المخابراتية والإعلامية، ومكاتب العلاقات العامة لهيكلة العقول (كاستخدام مصطلح المتمردين كبديل للتكفيريين المجرمين)، بالإضافة إلى نشر الإحباط من السياسات الاقتصادية، ومحاولة النهوض بالدولة التي تتعرض لهذه الحرب، وإثارة نزعة الاحتراب الذاتى المسلح لتمزيق النسيج الاجتماعي، وإلغاء منظومة القيم الوطنية، والقومية، والدينية، والأخلاقية.
حروب مختلفة:
تجمع حروب الجيل الرابع أنواعًا مختلفة من الحروب كالحرب الإعلامية، والنفسية، والعسكرية الإلكترونية، دون وجود جيوش نظامية، وتستخدم فيها منظومات، وبرامج مخابراتية تجسسية، وفرق خاصة للخلايا النائمة، وتسخر لها منظومات متكاملة مساندة (معلومات لوجيستية- وسائل الاتصال – موارد وأجهزة ومعدات متطورة)، لتحقيق مكاسب وأهداف سياسية، وعسكرية، واقتصادية فى بقعة ما من أرض الصراع التى تتمتع بأهمية خاصة سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية، أو دولة لها أهمية ما على صعيد الجغرافيا السياسية، وغالبا ما يتم تنفيذها مع الدول التى يحمل التدخل العسكرى المباشر فيها تكلفة عالية. ويخطط لعمليات هذه الحروب بعناية فائقة، مع ضرورة تأمين البيئة والمناخ المناسبين لتبدو عملياتها نمطية وشائعة، بغرض صرف الأنظار عن منفذيها، وارتباطهم التنسيقى العملياتى، ودوافعهم لإحداث التأثير الاستراتيجى للحدث المطلوب توظيفه، سياسياً أو إعلامياً، لكسر إرادة الخصم فى الدولة المستهدفة، أو نخر منظومته الأمنية، أو اختراق مقصود لمؤسساته الأمنية لبيان نياته، وأبعاد تخطيطه لمواجهة المؤامرة على بلده.
طبيعة وخصائص حروب الجيل الرابع:
فى حروب الجيل الرابع، يستخدم العدو كل الوسائل الإعلامية التقليدية، والاجتماعية، والحديثة للسيطرة على عقلك،وتهيئتك لتصديق أكاذيبه تلقائيًا، ودون مجهود إضافى منه، علاوة على إيهامك المستمر بأنك فاشل، وتعيش فى دولة فاشلة وعاجزة على الأصعدة كافة، وجعلك يائسا من قياداتك السياسية، حتى تفقد ثقتك فى الدولة وقادتها. كما يبدأ العدو فى إعادة برمجة عقلك على تقبل مسميات جديدة لتعريفات قديمة استقرت فى ذهنك لتحقيق أغراض أكثر تأثيرًا فى فاعلية الصراع القائم مع دولتك. كذلك، يستخدم العدو أحد أخطر أنواع البروباجندا (الدعاية)، وهى الدعاية السوداء، من خلال الافتراء والتشويه المستمرين لكل ما هو رسمى فى دولتك تحت مسميات مختلفة، بحيث يدفعك إلى تصديق ما يقدمه لك من معلومات مغلوطة، ورفض وعدم تقبل كل ما هو صادر من أرقام عن الجهات الرسمية فى الدولة.
كل ما سبق بغرض أن يصل بك العدو إلى المنطقة الضبابية، تلك المنطقة التى تجعل عقلك يائسًا ومشتتًا، وتملأ وجدانك بالرعب والقلق الدائمين، من خلال المعلومات، والأفكار، والمعتقدات، والشائعات التى تم توليفها، وتركيب عناصرها بكل عناية ودقة. ويتزامن مع السيطرة على عقلك بهذه الأدوات إثارة الفوضى، واستنزاف وتفتيت قدرات الدولة من خلال:
أ. إرباك ساحة العمليات، ومحاور التفوق، وخلط الأوراق فى الدول القوية الثابتة، أو إعادة إرباكها فى الدول التى تجاوزت مخططات الفوضى الأولى.
ب. تأمين مادة إعلامية بعمل عسكرى مخابراتى فعال، لغرض تعزيز محاور الحرب الإعلامية على الصعيد الدولى أو الإقليمي.
ج. ربط مباشر أو غير مباشر مع التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، والمرتزقة، وعصابات الجريمة المنظمة، بغرض تحطيم مفاصل الدولة المستهدفة، وخلق الفوضى والدمار الإنساني. وغالبا ما تكون هذه التنظيمات الإرهابية مرتبطة مباشرة مع العدو الأصيل للدولة، إن لم تكن صنيعته.
د. الوصول بالمجتمع إلى اليأس، من خلال أخبار، ومقالات، وبرامج مخططة علميًا ومنهجيًا، بصورة فى غاية الدقة، لتشويه الآمال المعقودة على الأنظمة التى تمكنت من تجاوز حرب اللاعنف، وذلك عبر دوائر من الإعلاميين والصحفيين الذين ينشرون ذلك، إما بدون قصد أو بتعمد، وذلك تحت دعاوى السبق الصحفى، والفراغ الخبرى، وحرية النشر والرأى، والتعبير، وحرية الحصول على المعلومات بأية وسيلة.
هـ. الضغط بقوة وبكل الوسائل بغرض عدم الإعلان عن قطب الصراع، أو حتى الابتعاد عن التنويه والإشارة إلى مصدر الفعل، نظراً لحساسية وتفاقم الموقف السياسى أو العسكري، وتداعياته. وتسخر لهذا الغرض القدرة العالية التى تم تدريب كل المرتزقة والعملاء عليها لتنفيذ هذه المهام عن بعد، وعدم ظهور الدول الراعية للعمليات العسكرية، والمخططات الإعلامية فى الصورة، وهو ما اصطلح على تعريفه أخيرا بالحرب بالوكالة.
ويرتبط بضبابية ما يصيب عقل المواطن المصري ضبابية الفعل والفاعل للجريمة الإرهابية، واختفاء ملامح الدلالة، وخيوط التنفيذ، وظهور أصوات من داخل الدولة تحاول أن تنفى التهمة عن الشريك العملياتى المنفذ، وعن الفاعل الأصلى المحرك. فاستمرار غموض الفاعل يؤدى إلى خلط الأوراق، وتشتيت الجهد، وإخفاء الحقيقة.
التشكيك فى الثوابت المجتمعية والوطنية والدينية:
يتزامن مع ما سبق حرص العدو على إعادة إنتاج الفوضى الفكرية والكلامية، ونشر الفتن الدينية، والعقائدية، والتشكيك المستمر فى كل الثوابت الوطنية والقومية، من خلال برامج إعلامية، ومعالجات صحفية تركز على:
أ. تصعيد ونشر فكر الدجل، والسحر، والشعوذة، وتغييب العلم. والهدف هو اصطياد المشاهد فى فخ أن السحر والشعوذة هما أساس الحياة، وإدخاله فى الظلاميات والجهل لسهولة السيطرة عليه، وإضعاف الشعوب.
ب. التركيز الدائم على السلبيات، وتصيد الأخطاء، ونشر فكرة «فشل الدولة» بصفة دائمة، والخلط بين ”الدولة“ ككيان ينبغى على مواطنيها الحفاظ عليه، بعدّهم خط الدفاع الأول عن أمنها القومى، وبين «الحكومة» كجهاز إدارى من المحتمل أن يعانى قلة الكفاءة، والترهل الإدارى، والفساد فى أداء بعض ممثليه، بحسبانهم نموذجًا، وإفرازًا طبيعيًا من أبناء هذا المجتمع، وذلك بغرض تشخيص وتصوير القادة على أنهم الدولة، ومن ثم سهولة توصيل فكرة إسقاط الدولة، عبر إسقاط قادتها، والاستخفاف والتقليل من أهمية مرتكزات رئيسية فى البناء العقائدى لمواطنى الدولة، كالوطنية والأمن القومي.
ج. السخرية والتقليل من شأن الأرقام الرسمية المعلنة، سواء من الدولة، أو من الأفراد، ونشر فكرة أن المجتمع كله فاسد، ولا أمل فيه، ولا ينبغى الاعتماد عليه، وهذا خطأ يعرف بـ «التعميم المفرط». لهذا، نجدهم فى برامجهم ومعالجتهم يميلون لاستخدام النسب المئوية المبالغ فيها، والأرقام غير الصحيحة، التى تتم فبركتها من عينة: «90% من المستشفيات غير صالحة، أو 95% من الشباب يتعاطون المخدرات، أو سقوط ما بين 60 و 120 شهيدًا من القوات المسلحة فى الاعتداء على الكمائن فى الشيخ زويد ورفح»، وذلك دون الاعتداد بالأرقام الرسمية المعلنة فى هذا الشأن، وإعمالًا لمبدأ يحاولون إقراره، وتنميط عقلك عليه، يعتمد على فكرة أن الصحفى أو الإعلامى عليه أن يسد الفجوة الخبرية أو التحليلية للمساحة التى يغطيها، لأن فى ذلك حقا للقارئ، وأن أى خطأ ينتج عن ذلك يكفى أن يتم تصحيحه أو نفيه. ولنا فى عدم تصديق وتشكيك قطاعات كبيرة من المواطنين فى الأرقام الواردة فى بيان القيادة العامة للقوات المسلحة، عقب أحداث الشيخ زويد مثلًا، والميل لتصديق الأرقام الصادرة منذ الصباح الباكر في توقيت وقوع الحادث، الدليل على ذلك.
د. الهدم المستمر لثوابت الدين، فهم يرغبون فى إنتاج مواطن بلا عقيدة أو هوية أولاً، ثم اصطياده بالفكر والثقافات الشاذة والمتطرفة ثانيًا، وتطويعه لخدمة العدو – عن طريق تطبيق ما يعرف بإدارة العقول عن بُعد – ثالثًا، وأخطر ما يبذلونه فى ذلك محاولات تمرير الجنس، والمثلية الجنسية، والمخدرات، والخمور، بحسبانها «حرية شخصية»، ولا يوضحون أن هدم صحة وقوة الشعوب البدنية والعقلية يبدأ وينتهى بهذه الممارسات الشاذة المقترنة بالمخدرات، وبالتالى من الذى سيفكر، ويبتكر، وينتج، وينجح، ويعمر، ويبنى، إذا كان مداومًا على المخدرات؟ وفي ذلك هدم وإهدار للقوة البشرية في دولة من المتصور أن تتبوأ مكانتها فى العالم بطاقتها الإنتاجية المستمدة من قوة وحجم جيل الشباب بها (60% من المجتمع تقريبًا).
هل تابعتم أيًا من نخبتنا يوضح لنا هذه الأمور، ويفندها، ويكون سندًا لدولته، وليس لنظامه الذي يمكن أن نتفق أو أن نختلف معه جميعًا؟ تابعوا وطبقوا ما سبق على من يفترض أنهم نخبة إعلامية، وصحفية، وثقافية، وفنية، وما أنتجوه وينتجونه، لكي تتأكدوا من أن مصر الدولة بحاجة إلى نخبة وطنية جديدة تكون سندًا في حماية الأمن القومي المصري، وفضح المتربصين بمصر شعبًا، ونظامًا، ودولة.