لا تنشب الحرب وفق خطة مسبقة في كل الأحوال. الحروب أنواع عدة. أحدها ينتج من أخطاء سياسية أو عسكرية، أو سياسات تبدو لصانعيها محسوبة قبل أن تؤدي إلى تداعيات تصعب السيطرة عليها.
وليست الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وحدها التي اندلعت بسبب أخطاء ارتكبتها قوى أوروبية كبرى، وأدت إلى أحداث تداعت حتى وجدت هذه القوى نفسها أمام حرب لا مفر منها. ولكنها تُعد المثال الأكثر دلالة على هذا النوع من الحروب، ربما لهول ما ترتب عليها من ضحايا وخسائر ودمار.
وعلى رغم أن العالم تغير كثيراً، بل ربما جذرياً في العقود السبعة التي أعقبت انتهاء تلك الحرب، ينطوي الصراع الروسي - الغربي في سورية على ملامح يبدو بعضها قريباً من المقدمات التي أدت إليها.
لقد تمكنت القوى الدولية الكبرى من تجنب نشوب حرب واسعة منذ انتهاء الحرب الثانية، وسعت إلى تحقيق مصالحها بوسائل أخرى. لجأت أحياناً إلى نمط الحرب بالوكالة في مختلف مناطق العالم. كما أصبحت حروب الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا أدوات فاعلة في الصراع الدولي.
وهذا التغير الهائل في العالم يُضعف احتمال نشوب حرب عالمية كبرى أخرى (ثالثة)، لكنه لا يُلغيه أو يجعله مستحيلاً. لذلك تصعب مقاومة إغراء التفكير باحتمال تصاعد التوتر الذي ازداد في الأسابيع الأخيرة بين روسيا والغرب حول الأزمة السورية باتجاه حرب واسعة النطاق.
كما يصعب حصر دلالة تحذير موسكو من مثل هذه الحرب في السعي إلى منع أي دعم غربي للمعارضة السورية يُغير ميزان القوى في حلب، ويحول دون سقوطها في أيدي قوات نظام الأسد والميليشيات المتعددة الجنسية التي تعمل معه. قد يكون هذا «الردع» الهدف الرئيس للخطاب الروسي عن زلزلة الشرق الأوسط، واللعب الخطر في سورية، والتحولات المرعبة في المنطقة كلها في حال إقدام الغرب على أي تدخل مؤثر.
غير أن هذا الخطاب التحذيري القوي يحمل في طياته معنى أن الحرب الضارية في سورية قابلة للتوسع، ولكن لغير ما تقصده موسكو بل لعكسه تحديداً. فهذا احتمال يزداد بازدياد ارتباك الغرب وعجزه عن الفعل، فيما يقلّله التدخل بوسائل كالتسليح النوعي للمعارضة. لذلك لم يعد ممكناً الاستمرار في استبعاد هذا الاحتمال إذا بقيت الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تأمل بوقف مذابح حلب مرتبكة وعاجزة.
وربما يكون السبيل الوحيد إلى تجنبه الإسراع بتقديم دعم عسكري نوعي إلى المعارضة السورية يُمكّنها من الصمود في حلب ومناطق أخرى صار وجودها فيها مُهدَّداً. فالبديل عن هذا الخيار هو أن تجد الدول الغربية نفسها بعد حين في موقف شديد الصعوبة قد يدفعها إلى التدخل المباشر الذي تحذر منه موسكو.
ويتطلب ذلك تحرر واشنطن من فوبيا وقوع أسلحة نوعية تقدمها إلى المعارضة في أيدي عناصر متطرفة. وقد يكون هذا خطراً محتملاً، ولكنه ليس كبيراً. فإذا افترضنا استيلاء جبهة فتح الشام (النصرة) مثلاً على بعض الصواريخ المضادة للدبابات، لن يكون لديها ترف تخزينها في ظل القصف الجوي المتوحش الذي يفرض استخدامها فورياً. كما أن عدد عناصر هذه الجبهة في حلب محدود، ويُعدَّ بالمئات وليس بالآلاف، بشهادة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي لم يُعرف عنه أي تعاطف مع المعارضة، بل العكس.
غير أن استمرار التردد الغربي في حسم خيار إمداد المعارضة بهذه الأسلحة يزيد احتمال توسع الحرب حين تجد الدول المترددة في شأن هذا الخيار أنها لم تعد قادرة على تحمل التحدي الروسي الذي يُتوقع له أن يتنامى في حال سيطرة حلفاء موسكو على حلب.
وعندها قد يصبح توجيه ضربات صاروخية ضد مطارات وقواعد عسكرية تابعة لنظام الأسد، وإسقاط طائراته، خياراً جدياً بما قد يفتح الباب أمام توسيع الحرب وتدويلها.
وهكذا يزداد احتمال نشوب حرب واسعة كلما تأخر الغرب في اتخاذ موقف قوي ضد روسيا يفرض عليها مراجعة سياستها المغامرة عبر تمكين المعارضة من إلحاق خسائر بطائراتها وقواتها في سورية. فالارتباك والتردد الغربيان يشجعان موسكو على المضي قدماً في سياسة التوسع المدفوعة بحلم قومي متطرف لاستعادة أمجاد إمبراطورية.
ويصح، هنا، أن نستعيد درس الحرب العالمية الثانية التي كان ارتباك بريطانيا في مواجهة التوسع الألماني السبب الرئيس لإشعالها. صحيح أن العالم تغير كما سبقت الإشارة. كما أن روسيا البوتينية تختلف عن ألمانيا النازية الهتلرية. ولكن الاختلاف بينهما يتعلق بمرجعية النزعة القومية المتطرفة، وليس بجوهرها وطابعها المغامر وميلها التوسعي.
غير أن أوجه الشبه بين الارتباك الأميركي تجاه روسيا الآن، والارتباك البريطاني إزاء ألمانيا قبل ما يقرب من ثمانية عقود، تبدو أهم. كما أن المقارنة بين شخصيتي أوباما ورئيس الوزراء البريطاني حينئذ تشمبرلين قد تكون أهم من المقارنة بين شخصيتي بوتين وهتلر.
كان تشمبرلين مؤمناً بإمكان الحل السلمي لأية أزمة مهما بلغت حدتها، وراغباً في تجنب أي عمل عسكري. ولذلك ظل يراهن على أن يكتفي هتلر أو يشبع، فتغاضى عن ضم النمسا، ثم رضخ لضغوط هتلر في شأن إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، وقدمها «هدية» له في مؤتمر ميونيخ المشهور في أيلول (سبتمبر) 1938 على رغم ارتباطه معها بمعاهدة تعاون دفاعي. وكان لديه اعتقاد قوي بأن الأمر سينتهي عند هذا الحد.
لكن هتلر فسر موقف تشمبرلين وحلفائه بأنه ضعف، ما فتح شهيته لمزيد من التوسع. ولم يمض عام على مؤتمر ميونيخ حتى كانت ألمانيا قد غزت بولندا في 1 أيلول (سبتمبر) 1939 فاشتعلت الحرب العالمية.
وإذا أردنا أن نحدد البداية الحقيقية لتلك الحرب، في سياق السعي إلى استيعاب درس من التاريخ، لا بد أن نعود إلى الاتفاق الذي أسفر عنه مؤتمر ميونيخ في 1938، قبل عام على اندلاعها.
والسؤال الآن هو: أليست هذه أوجه شبه معتبرة بين بعض أهم مقدمات تلك الحرب، وخصوصاً السياسة البريطانية تجاه التوسع الألماني في وسط أوروبا وشرقها، وبعض ما يحدث الآن وخصوصاً السياسة الأميركية تجاه الهجمة الروسية في سورية؟
-----------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 23-10-2016.