كل ما يتحرك في الرقة وعلى أطرافها مرصود على أنه داعشي، أميركيا وقسديا، ومن 'قوات النخبة'، وإذا ثبت العكس فهو مدني لكن بعد فوات الأوان.
الثابت المتفق عليه في الإرهاب هو داعش وأخواته، أما المتحول في الإرهاب فتتضامن أطرافه على قاعدة أن كل إرهاب أدنى من داعش فيه نظر.
وفي كل مرة، تدل الوقائع أن المعني بأمر الإرهاب هو من صَنَع الإرهاب، من أميركا إلى النظام الأسدي، وروسيا إلى إيران، ودول عربية، إضافة إلى دول في غرب الاتحاد الأوروبي. هذا بالقياس إلى صناعة التأسيس لـ“القاعدة”، وما حدث بعدها منذ نهايات ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى 11 سبتمبر، ثم احتلال أفغانستان، والعراق، وما بعد.
فصانعو الإرهاب يضعونه كدريئة بين المدنيين ليصوبوا عليه. وعندما يتم تدمير المدن والدول، وقتل عدد كبير من المدنيين، ويتحول “المحظوظون” من المدنيين إلى لاجئين ونازحين، يتم نقل الدريئة إلى مكان آخر.
في ما بعد عام 2011، اتفق الصانعون على أن داعش هو الإرهاب الأكبر، ما يعني أنا هنالك “إرهابات” أقل حجما تبرر لنفسها ممارسة انتهاكات أقل فظاعة مما قام به داعش.
في الرقة ثم الموصل، أنتج داعش أكثر القصص والصور إرهابا، من تنفيذ أحكام القصاص والحدود والتعزير. وأرفق بعضها بأفلام منفذة بتقنيات عصرنا العالية غير المنسجمة مع التفكير الظلامي للتنظيم الذي يستند إلى نصوص عمرها أكثر من 1400 سنة، ومنها قتل الصحافيين الأجانب بقطع الرؤوس، وفيلم إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة.
وفي الأسابيع الأخيرة، دخلت الرقة في عين الحدث العالمي، حتى لو لم تصلنا صور من قلب الرقة. فما يجري فيها حرب لا تصل إلى درجة وصفها بالمعارك. والأَولى بالوصف هو “لا معارك” تُصوّبُ فيها المدافع والطائرات والدبابات على “لا مكان” في المدينة، تمهيدا لمسير على الأقدام تتقدم فيه “قوات سوريا الديمقراطية”، و“قوات النخبة” في اتجاه أطراف المدينة. واقتصرت الصور على مشاهد انفجارات بعيدة، وسماء مزينة بقنابل الفوسفور الأبيض المضيء، التي تبدو كأنها ألعاب نارية احتفالية متجهة نحو الأرض، على عكس طبيعة الألعاب النارية التي تتجه إلى الأعلى، وتنفجر بالتتابع ثم تنطفئ. بينما تطلق قنابل الفوسفور من الطائرات أو الدبابات، فتتجه شهبها إلى الأرض، لتفسد حياة كل ما تلاقيه في طريقها على الأرض، من النبات والتراب إلى الإنسان والحيوان.
هنالك أيضا قذائف مدفعية الميدان من عيار 155 مم، وهي اختصاص أميركي أيضا، مثله مثل الفوسفور الأبيض، مما ينتمي إلى الإرهاب الأصغر والمبرر، أي إلى ما هو أدنى من إرهاب داعش.
الآن في الرقة، الفاعل الأساسي على الأرض هو “قوات سوريا الديمقراطية”، ذات المكون الكردي الطاغي، عددا وقيادات. وعلى غير ما يشير اسمها وارتباطها بما يسمى “مجلس سوريا الديمقراطية”، لم تقبل هذه مشاركة أي مكون محلي لا يخضع للاشتراطات الكردية المدعومة أميركيا في تحرير الرقة.
ولهذه الاشتراطات محددات غير معلومة بالنظر إلى موازين القوى العسكرية للمتحاربين في سوريا، فـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” ذو ارتباطات ما فوق سورية لجهة تبعية سياسته لحزب العمال الكردستاني التركي، وولائه لقادته في جبال قنديل، ما يعني أن المسألة الكردية تتعدى الأراضي السورية، والحقوق القومية والثقافية للأكراد السوريين. وهذه السيرة شائكة بما يكفي لوصول بعض قادة الأحزاب الكردية وبعض مناصريها إلى تعقيدات جعلت شبكات تحالفاتهم لا تؤدي إلى أي مكان على المدى البعيد.
أما الفصائل المعارضة للنظام، من “هيئة فتح الشام”، إلى الجيش السوري الحر، إلى بقية فصائل الثوار، وباستثناء داعش المعادي للجميع، ظاهريا على الأقل، فهي لم تشكل ضمانة لإدارة مدنية للمناطق التي كانت تنقل فيها السيطرة من قوة إلى أخرى، بما فيها الرقة وشرق حلب وإدلب.
وفي ما يتعلق بالرقة، ودخول الأكراد إليها، فاحتمال استقرار قوات كردية فيها مستبعد، خاصة أن “قسد” رعت منذ شهور تشكيل مجلس محلي استعدادا لتسليمه المدينة فور السيطرة عليها، وإن كان هذا المجلس المحلي لم يحظ بالقبول من المجتمع المحلي في المدينة، أو من الكوادر المحلية اللاجئة في تركيا خاصة.
الأخبار الشحيحة الواردة من الرقة تشير إلى أن أعداد مقاتلي داعش قد يصل إلى ألفي مقاتل على الأكثر (بعض التقديرات تقول بضع مئات). وهؤلاء يتوزعون بين مهاجرين قادة، وبعض الجنود من العناصر المحلية. فالقادة غادروا مع عائلاتهم في اتجاه البوكمال والميادين ابتداء من منتصف مارس الماضي، بعد إشاعة انفجار سد الفرات.
في هذا الوقت، ومع اشتداد حصار المدينة من ثلاث جهات، وترك منفذ للقط كي يهرب نحو البادية في الجنوب، ازداد معدل استهداف المدنيين من عشرين يوميا إلى أكثر من خمسين، مضافا إليهم المدنيين الذين يسقطون برصاص قناصة داعش وألغامه، وبرصاص قناصة قسد، أثناء محاولات الهروب. بل هنالك مدنيون سقطوا بغارات الطيران أثناء محاولة اجتياز الفرات نحو الجنوب عبر قوارب صغيرة.
هذا يعني أن كل ما يتحرك في الرقة وعلى أطرافها مرصود على أنه داعشي، أميركيا وقسديا، ومن “قوات النخبة”، وإذا ثبت العكس فهو مدني لكن بعد فوات الأوان.
هذا ما حدث في الموصل، حين تم تقدير أعداد داعش قبل بدء المعركة بستة آلاف، تم قتل أكثر من 16 ألفا منهم (!) قبل أكثر من شهر.
وحتى بعد حوالي ثمانية أشهر من بداية معركة الموصل، يتجنب قادة المعارك هناك توقع موعد زمني لنهاية المعارك، بعد بطلان “أسبوعين إلى شهرين” في البدايات، وبعد موعد “قبل بداية شهر رمضان” في آخر تكهن.
وحول داعش الرقة، لا تزال التوقعات تتحدث عن أسابيع فقط، على الرغم من أن المعركة انطلقت قبل سبعة أشهر، بتزامن غير مقصود مع معركة الموصل. ولعل المقصود بـ“الأسابيع” هو معركة المدينة، التي لم تبدأ فعليا، كون الفاعل فيها هو داعش، بينما لا تملك قسد وأميركا من المعلومات سوى ما يرتد من صدى القذائف من السماء، أو من مدفعية تنتشر على قوس يمتد حوالي 25 كيلومترا حول المدينة من الشرق إلى الشمال والغرب.
ستنتهي معركتا الموصل والرقة، مهما امتدتا، بأقل عدد من قتلى داعش، وبأكبر عدد من الضحايا المدنيين. لكن الشاغل الأساسي للناس، على الرغم من الموت، هو اليوم التالي للمعركتين. في الموصل لا تثور مشكلة كبيرة حول عودة الحياة إلى المدينة حتى عند التذكير بمخاوف الموصليين من التعامل مع “الحشد الشعبي”، بوجود سلطة بغداد المركزية. أما في الرقة، فلا وجود لسلطة مركزية أو محلية. ولا وجود لحياد من “قسد” الأكراد، أو ضمانة أممية، أو تمثيل للائتلاف. وبالتالي تصب التوقعات لمصلحة فكرة “احتلال جديد مكان احتلال قديم”، والانتقال من الإرهاب الأكبر، إلى الإرهاب الأصغر.
جغرافيا، يمتلك داعش المدينة (بمربع ضلعه حوالي 5 كم)، والبادية المتصلة ببادية حماة وحمص ودير الزور. أما قسد فأضافت إلى منطقة تل أبيض (4.834 ألف كيلومتر مربع) ما يتبقى من مساحة المحافظة البالغة 19.616 ألف كيلومتر مربع، بينما تمكن النظام الأسدي من استعادة ما لا يزيد على 1200 كيلومتر مربع من مساحة الرقة.
-----------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 17-6-2017.