برز ملف جبل طارق، بقوة، بعد أن بدأت بريطانيا رسمياً إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس/آذار الماضي، حيث من المقرر أن تستمر هذه الإجراءات مدة عامين، تصبح بعدها خارج الاتحاد الأوروبي، لكن بريطانيا لا تريد الابتعاد كثيراً عن هذا الاتحاد، بل تريد توقيع اتفاقية تجارية معه لضمان انسياب السلع والخدمات من دون أية معوقات بين الجانبين، وبما يحافظ على استمرار النمو في الاقتصاد البريطاني.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي تطور لافت، أعلن المجلس الأوروبي أن مناطق خاضعة للسيطرة البريطانية في الخارج مثل: جبل طارق، لا يمكن أن تُدرج في أي اتفاق تجاري بين لندن وبروكسل إلا بموافقة إسبانيا، وهذا الموقف الأوروبي هدفه الضغط على الحكومة البريطانية من أجل الدخول في مفاوضات مع إسبانيا؛ لتحديد مستقبل منطقة جبل طارق التي تقول إسبانيا إنها جزء من أرضها، كما أن بريطانيا تدعي كذلك، أنها جزء لا يتجزأ من أرضها. وقالت رئيسة الحكومة تيريزا ماي: إن إدارتها لن تدخل في أي ترتيبات تؤدي لنقل السيادة على جبل طارق إلى دولة أخرى، من دون استشارة سكان المنطقة، بما يعني البقاء هناك إلى أمد بعيد؛ لأن السكان بريطانيون، ومتمسكون بولائهم للدولة البريطانية. وسبق أن تم إجراء أول استفتاء حول جبل طارق عام 1967، من أجل الاختيار ما بين البقاء تحت سيادة التاج البريطاني، وبين الانتقال إلى السيادة الإسبانية. وقد اختار السكان، وبأغلبية ساحقة، البقاء تحت السيادة البريطانية، وحدث استفتاء ثانٍ عام 2002، وحمل معه النتيجة السابقة نفسها، وبأغلبية ساحقة.
ورغم أن هذه المنطقة هي امتداد لأراضي إسبانيا الطبيعية، لكنها خرجت عن السيادة الإسبانية منذ عام 1704، عندما شنت كل من انجلترا وهولندا والنمسا حرباً لإيقاف تحالف إسباني- فرنسي قد يؤثر في ميزان القوى في أوروبا، وقد وحدّت الدول الثلاث أساطيلها، وقامت بمهاجمة جنوب وغرب إسبانيا، وأسفر الهجوم عن سقوط جبل طارق؛ حيث فرضت انجلترا السيطرة عليه، ووقّعت الحكومة الإسبانية اتفاقية استسلام سمحت، بموجبها لسكان المنطقة بالنزوح عنها بسلام.
وبالرغم من المحاولات الإسبانية -الفرنسية استعادة جبل طارق، إلا أنهما فشلتا بسبب قوة الأسطول البريطاني الموجود هناك. وفي عام 1714 تم توقيع معاهدة «أوترخت» التي تخلت بموجبها إسبانيا عن جبل طارق، لمصالحة انجلترا بشكل نهائي. وقد استوطن تلك المنطقة بعد رحيل شعبها الإسباني بعض الإنجليز من البحارة والجنود العاملين في الأسطول الرابض هناك، وكان هؤلاء نواة لشعب جبل طارق الجديد، وقد وفد إلى المنطقة بعض الإسبان، والبرتغال، والطليان، والمالطيين، والمغاربة، حتى أصبح يوجد اليوم شعب متعدد القوميات في جبل طارق، ويجمع بين هؤلاء الولاء لبريطانيا، رغم أنهم على أرض إسبانية.
وكانت بريطانيا بنت قاعدة بحرية دائمة لها في المنطقة، وازدادت أهمية تلك القاعدة بعد شق قناة السويس في أواخر القرن التاسع عشر، حيث أصبحت سفن التجارة بين الشرق والغرب تمر عبر هذه القناة إلى جبل طارق، ومنه إلى الغرب، وبالعكس. وكانت الحكومة البريطانية، ولا تزال، تجني رسوماً كبيرة من السفن العابرة في الاتجاهين. والأهم من ذلك أنها أقامت قاعدة للتجسس الاقتصادي من أجل وضع استراتيجية عالمية دقيقة تجاه مختلف الدول. ولا يبدو أن بريطانيا ستتخلى عن جبل طارق إلا بالقوة، ورغم أن الاتحاد الأوروبي يساند إسبانيا في هذه القضية، لكن عندما يشتد النزاع سوف تنقسم دول أوروبا؛ لأن لبعضها علاقات راسخة مع بريطانيا. وكان مايكل هوارد، العضو البارز في حزب المحافظين البريطاني، قال: إن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قد تتعامل مع منطقة جبل طارق، في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، بنفس أسلوب رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر في التعامل مع أزمة جزر فوكلاند عام 1982، أي: إنها قد تضطر لاستخدام القوة لإقناع إسبانيا أن جبل طارق أرض بريطانية. كما استخدمت القوة في السابق في وجه الأرجنتين لتأكيد تابعية جزر فوكلاند لها.
والواقع أن أوروبا تتجه نحو تغيرات كبيرة، فالاتحاد الأوروبي لن يستطيع الصمود طويلاً في وجه الإفلاس الذي يلاحق دولاً كثيرة فيه، وهذا سيعيد أوروبا إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث ستظهر فيها التحالفات الثنائية والثلاثية بين الدول. وقد تقع حروب بسبب تركة الماضي التي لم تنتهِ حتى اليوم. فالحرب العالمية الثانية لم تحل المشكلات التي سببت وقوع تلك الحرب، خاصة في ما يتعلق بألمانيا التي تعرضت لظلم كبير بعد الحرب العالمية الأولى، واستمر الظلم بعد الحرب الثانية، ورغم أن الوحدة الأوروبية ساهمت في إقامة علاقات أخوية بين دول أوروبا، لكن انفراط عقد هذه الوحدة سيعيد الخلافات بين هذه الدول، وقد يكون الخلاف الإسباني البريطاني بداية الشرارة لاستعار حروب كثيرة قادمة في أوروبا.
-------------------
* نقلا عن دار الخليج، 21-5-2017.