أصبح مشروع “تصدير الثورة” الذي عمل الإيرانيون على نقله إلى محيطهم العربي مجرد ذكرى ليس لأن المحيط العربي محصن ضد الأفكار الوافدة والشعارات التي تريد أن تقلب العالم رأسا على عقب، والدليل انضمام الآلاف من الشباب إلى تنظيمات متشددة مثل داعش والقاعدة. ولكن لأن الثورة، على طريقة رجال الدين، قد فشلت تماما في الداخل الإيراني، ولم تعط نموذجا مشرفا يمكن أن يغري الشباب العربي على تبنيه، والنضال لأجل تمثله.
ويستطيع المتابع لأخبار الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة في إيران أن يكتشف أن الثورة تحولت إلى ماكينة بيروقراطية كبرى تدهس أحلام الملايين من الإيرانيين، ولا تعطيهم غير الوعود والشعارات، وأنها تزيدهم أزمات ويأسا عاما عن آخر.
وما يجعل التعافي من الأزمة أمرا مستبعدا في المدى المنظور أن القيادة الدينية والسياسية لا تبحث عن حلول حقيقية لتجاوز الوضع الصعب للإيرانيين على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ولم يحقق رفع العقوبات الدولية شيئا يذكر في مهمة تحسين واقع الناس، بل تفكر القيادة في استثمار الأموال التي يوفرها رفع العقوبات في مجال تثبيت الدور الإيراني إقليميا، وإنفاقها على التسليح، أو على الأحزاب والتنظيمات الموالية لها في البحرين ولبنان واليمن والعراق وفي غيرها من الدول.
وبدل أن تصدر الثورة إلى محيطها الإقليمي نموذج الرفاه الاقتصادي والاجتماعي وارتفاع دخل الفرد، فإن مؤسسة المرشد المهيمنة على البلاد حريصة على أن تقدم الثورة كنقيض للاستقرار. وتستبطن رؤية المرشد مقاربة تشترك فيها إيران مع حركات الإسلام السياسي السني تقوم على تأجيل نموذج الرفاه إلى الآخرة، والرفاه في الدنيا حكر على المؤسسة الدينية القائدة والملهمة إلى طريق الجنة.
والأمر هنا ليس إسقاطا أو مصادرة، إذ يمكن البحث عن ممتلكات مؤسسة المرشد، وسنكتشف أنها تدير مشاريع بالمليارات من الدولارات يذهب ريعها لخدمة المؤسسة الدينية وضمان سيطرتها على إيران.
وينفق جزء كبير من هذه الأموال لأجل ضمان ولاء رجال الدين لمؤسسة المرشد واستمرار تأثيرهم في محيط اجتماعي بدأ يتحرر من قبضة التشدد خاصة لدى فئات الشباب. إن هذه المؤسسة توظف الدين والمواطنين ليقوموا بخدمة المرشد ومصالحه ومشاريعه باسم الدين.
ولعل القلق، الذي حف بالانتخابات ودفع رجال الدين إلى التحرك إعلاميا وسياسيا للإيهام بوجود ديمقراطية قوية ومنافسة بين خصوم البيت الواحد، ناجم عن إحساس قوي بأن تحكّم رجال الدين في إيران تحت شعار الثورة لم يعد مضمونا بالمرة، وأن إغراق الناس بالفتاوى التي ترجئ النعيم والرفاه إلى اليوم الآخر لم يعد تأثيره ذا فاعلية لدى أجيال جديدة اكتشفت عن طريق الإعلام الجديد أنها تعيش على هامش الحياة. ومن السخرية أن يتحدث بعض المثقفين العرب بإعجاب عن ديمقراطية إيران، والحال أنها ديمقراطية كلامية ومرتبطة بموعد الحملات الانتخابية، فأي ديمقراطية بلا عدل اجتماعي ولا بتنوع فكري وسياسي؟ وهل يصح الحديث عن ديمقراطية موجهة من مؤسسة المرشد وخاضعة لها؟
إن ديمقراطية إيران، مثلها مثل الديمقراطية التي تدافع عنها بخجل بعض الحركات الإسلامية السنية، تسمح بنقد الهوامش فقط وتلزم المرشحين بتبني الأصول والثوابت، وبينها هنا ولاية الفقيه التي تحاول أن تؤسس لوساطة دائمة بينها وبين الله، وتقرأ الدين والمذهب قراءة لا تقبل النقاش ليصبح المرشد معصوما، وطاعته واجبة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى الثورة التي ركبها تيار آية الله الخميني في العام 1979 أنها سعت في أول أيامها إلى تصفية الخصوم الذين يفكرون بشكل مختلف ولو من داخل الفضاء الإسلامي، مثلما جرى مع خط علي شريعتي الذي سعى لاستنطاق النص الديني بشكل يجعل الأولوية للعدالة الاجتماعية وتقريب الصلة بين الله والناس دون وساطة من الفقهاء ودون فتوى جاهزة من المرشد.
ومنذ استلمت الآلة الدينية الحكم في إيران سارعت إلى تصفية المعتدلين الذين نظّروا للثورة وسوّقوا لها في الغرب وأنسنوها (بدل تأليه المرشد والإمام) مثل أبي الحسن بني صدر.
إن الديمقراطية هي إدارة الخلاف حول الفكر البشري وسبل تطويره ليتماشى مع حاجات الناس، وطالما أن الإسلاميين يريدون تطبيق الشريعة بالمفهوم السني، أو ولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية، فلا يمكن الحديث عن ديمقراطية إلا إذا كانت المقصود منها ستارا شكليا لتبرير السلطة، أو مجرد مناورة لتثبيت وجودهم في مشهد سياسي لينقلبوا عليه لاحقا لفرض شعار “الإسلام هو الحل” كأمر إلهي.
وإذا تخلى الإسلاميون عن تطبيق الشريعة واحتكموا للديمقراطية صاروا تيارا مدنيا ليبراليا ولم يعد من حقهم المحاججة باسم الله أو الدين، ما يعني أنهم يفقدون مزية الحديث باسم الله التي تجلب لهم أصواتا إضافية في أي انتخابات.
ومنذ الثورة اختارت إيران أن تسقط الديمقراطية على حياة سياسية محكومة بالمنع، ولذلك لجأت إلى حيلة تعدد المرشحين من داخل منظومة الحكم للإيهام بوجود تعددية، ولا يعدو الأمر أن يكون صراعا للديكة أو صراعا بين أشباح سوداء (مثل تشادور) تبدو من الخارج بذات الحجم واللون.
وانساقت السلطات وراء كذبة المعتدلين والمتشددين التي سوّق لها الغـرب في محاولة لكسر منظومة التطرف الحاكمة، واستمرأتها لتحاجج بها الذين يتهمونها بالانغلاق.
وحين يتحول الصراع على الانتخابات من البرامج إلى الأشخاص لن نجد أفكارا وحلولا للوضع الاقتصادي، أو للتراجع عن خيار التورط في الملفات الإقليمية، وإنما يصبح الأمر مرتبطا بنشر ملفات فساد أو فضائح شخصية بين المرشحين لتنجو المنظومة بذاتها وتمسح فيهم خيباتها.
ورغم أنها أفرغت الديمقراطية من التعدد، فإنها ترفض أن تسمح لصراع الأشخاص أن يخرج عن المدى المسموح به، أي الاختلاف تحت جبة المرشد، ولذلك زرعت منظومة رجال ميليشيا الحرس الثوري لتتحكم في درجة الديمقراطية الممسوخة، وهو ما جعل حسن روحاني يجاهر بضجره من الحرس الثوري.
وكان الحرس الثوري وميليشيا الباسيج قد زوّرا نتائج الانتخابات لصالح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في 2009 الذي كانت المؤشرات تقول إنه سيخسر المعركة أمام تيار ليبرالي صاعد أغلبه من الشباب، ما تسبب بخروج مظاهرات كبيرة.
ومهما كانت نتائج انتخابات الأمس، فإن الانتخابات الرئاسية التي بلغ عددها الآن 12 أكدت أن إيران لا تزال دولة دينية، وأن ثورتها لم تكن سوى ثورة على أحلام أجيال كثيرة من الإيرانيين الذين وجدوا أنفسهم تحت رحى دولة الإمام المعصوم، الحالمة بالتمدد العسكري والمذهبي ومعاداة العالم من أجل انتصار الفكرة، ودون أن تقيم وزنا لأزمات الداخل ومعاناة الناس.
والديمقراطية، هنا، هدفها الوحيد تثبيت دولة المرشد الحالمة، وإرجاء الحلم بدول المساواة والرفاه إلى الآخرة.
--------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 20-5-2017.