يعتمد البحث في آثار تنامي تيار الرفض للاتحاد الأوروبي في فرنسا علي رسم الخريطة السياسية لهذا البلد، ومواقف الحركات السياسية والأحزاب فيه من الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك المناهضة، والمشككة فيه، والمنتقدة له، كما يعتمد علي قياس وزنها السياسي، من خلال التمثيل الذي تمتلكه في المجالس المنتخبة، محليا ووطنيا وأوروبيا، وحظوظ فوزها برئاسيات 2017، ومن ثم معرفة مدي إمكانية إسهامها بدور معين في تفكيك الاتحاد الأوروبي، علي أساس أن فرنسا الدولة المؤسسة لمسار التكامل الأوروبي، وقاطرته السياسية، وأن خروجها من الاتحاد الأوروبي يعني تفكيكه.
ويتطلب البحث في الموضوع أيضا توضيح مسألة مهمة تتعلق بطبيعة الرفض (Le rejet) للاتحاد الأوروبي، وما يمكن أن يترتب من إجراءات، في حالة وصول هذه الأحزاب إلي الحكم، وتطبيق برامجها السياسية.
أولا- أطياف المشهد السياسي الفرنسي:
ترتسم أطياف المشهد السياسي في فرنسا، منذ عقود، بتداول علي الحكم بين حزبين رئيسيين، أحدهما يمثل اليمين الفرنسي المعبر عن الليبرالية المحافظة، والآخر يمثل اليسار المعبر عن الليبرالية الاجتماعية(1). وهناك أحزاب أخري، منها ما يتطرف يمينا، ومنها ما يتطرف يسارا، ومجموعة أخري تميل بأفكارها اليمينية واليسارية نحو "الوسط" لتشكل به مجال "اعتدال" بين أفكار وبرامج اليمين واليسار، يخفف من الانجذاب نحو التطرف، بما يؤكد حقيقة أن أحزاب وحركات الوسط تنشط في الساحة السياسية الفرنسية، عندما يظهر ميل نسبي نحو اليمين المتطرف وأقصي اليسار في البرامج السياسية لأحزاب وحركات اليمين واليسار "المعتدلين". فيأتي عندئذ نشاط حركات الوسط من أجل إيجاد الاعتدال المطلوب. ويمثل قيم "الوسط" في فرنسا، علي وجه الخصوص، كل من "الحركة الديمقراطية" (MoDem)، و"اتحاد الديمقراطيين والمستقلين" (UDI).
أي أن الأيديولوجيات في فرنسا تتوزع علي خمس دوائر متميزة نوعيا، كل واحدة منها تترابط مع الدائرتين الأخريين اللتين تتوسطهما، كما هو مبين في الشكل رقم (1)، مما يعني أن الأحزاب والشخصيات السياسية تتبني ما تشاء من الأفكار والرؤي، التي علي أسسها سيتم تصنيفها، أو علي الأقل تصنيف موقف معين لها في مسألة معينة، ضمن الأيديولوجيا السياسية لهذه الدائرة أو تلك. ويمكن أن يكون اللون السياسي لحزب معين من خلال برنامجه وأفكاره، بشأن مختلف المسائل المطروحة، مزيجا متناغما من أيديولوجية دائرتين متلامستين. (للمزيد طالع المجلة)