المقدمات المتفائلة التي سبقت اللقاء ركزت على عمق التقارب بين السيسي وترامب، وجعلت منه محطة إستراتيجية تشي بأن ربيعا جديدا سيبدأ بين واشنطن والقاهرة.
اللقاء بين الرئيسين المصري عبدالفتاح السيسي والأميركي دونالد ترامب اليوم في واشنطن، يحمل دلالات كثيرة، تتعلق بمستقبل العلاقة بين بلديهما، وحجم التفاهم والتوافق حول عدد من القضايا الإقليمية التي تحتل حيّزا كبيرا في حسابات كل منهما.
المقدمات المتفائلة التي سبقت اللقاء ركزت على عمق التقارب بين السيسي وترامب، وجعلت منه محطة إستراتيجية تشي بأن ربيعا جديدا سيبدأ بين واشنطن والقاهرة، اعتمادا على ما تم تسريبه من معلومات جيدة حول لقائهما الأول على هامش اجتماعات الجمعية العامة بنيويورك في سبتمبر الماضي، فضلا عن الانطباعات الإيجابية المشتركة التي عبر عنها كل منهما على حدة.
الاهتمام المكثف من قبل عدد كبير من وسائل الإعلام، أوحى لكثيرين بعدم وجود خلاف بين البلدين، وسوف تكون الترتيبات والإجراءات والاستحقاقات المقبلة قاسما مشتركا بينهما، استنادا إلى ما يوصف بـ”الكيمياء الإنسانية” التي جمعت ترامب مع السيسي والعكس.
ولم تنتبه الدوائر التي اعتمدت على لغة المشاعر أن هناك قضايا محورية قد تكون محلّ خلاف، وما رشح من ملامح خلال حملة ترامب الانتخابية منذ أشهر، ليس دليلا كافيا على الانسجام التام، لأن الواقع ومعطياته وطقوسه يفرض على ساكن البيت الأبيض محاذير معينة. ربما كانت وسائل الإعلام الأميركية والغربية عموما، أكثر انضباطا من نظيرتها المصرية المتهمة بالتضخم، ففي الوقت الذي تعاملت فيه الأولى بحذر وتريّث وهدوء، بدت الثانية على درجة من التسرّع والرعونة والصخب، الذي وصل إلى درجة تصوير زيارة السيسي على أنها فتح مبين.
بالطبع الزيارة وتوقيتها ومحاورها مسألة مهمة، وهي الأولى لرئيس مصري بعد جفوة سياسية امتدت لنحو عشر سنوات، وتؤرخ لصفحة جديدة في سجلّ العلاقات، لكن التعامل معها بحسبانها انتصارا على الأعداء والمنافسين عملية غير دقيقة، لأن العلاقات بين الدول محكومة بالمصالح، فعندما يثني الرئيس ترامب على الرئيس السيسي، فهو يرى صوابا في ذلك ويحقق مصالح بلاده، وإذا كان السيسي اعتبر ترامب شخصا يمكن التعاون والتنسيق معه، فهو قال ذلك لأن مصالح مصر تحتاجه في هذه المرحلة الدقيقة.
الضوضاء التي أقصدها في عنوان هذا المقال، ليست لها علاقة بما سيناقشه الزعيمان اليوم، وهي في تقديري تصدر من ثلاثة فرق، كل منها يرى أن الشوشرة والتشويش والصوت العالي والتظاهرات، يمكن أن تحقق ما يرمي إليه من أهداف سياسية.
الفريق الأول، يمثّل الطاقم الشعبي والإعلامي الذي سبق الرئيس السيسي إلى واشنطن، ويتكون من أعضاء في مجلس النواب وعشرات الإعلاميين، من مقدمي البرامج والكتّاب والصحافيين، وقيل إن العدد الإجمالي يبلغ مئتي شخص، يريدون أن يكونوا بمعية الرئيس.
لا للمشاركة في الحوار والنقاش ونقل صورة حقيقية عن مصر، لكن لصد صخب مقابل، يمكن أن تقدم عليه عناصر من جماعة الإخوان والقريبين منها في واشنطن، وبعض الأقباط المقيمين في الولايات المتحدة، بزعم أن أقارب وأصدقاء لهم في مصر يتعرضون إلى “اضطهاد أمني وسياسي”.
الطريقة التي يؤمن بها الفريق الأول، ظهرت تجلياتها من قبل في غالبية زيارات الرئيس المصري لكل من نيويورك وبرلين وروما وموسكو وباريس ولندن، ويبدو أنها حققت الأهداف المرجوة عند أصحابها ومن خططوا لها، للدرجة التي يتم تكرارها وعدم التنازل عنها، ولم تجد ما يردعها من قبل مؤسسات الدولة في مصر، وربما العكس تحظى بتشجيع وتنظيم ورعاية، وكأنها أصبحت ضمن الطقوس الرسمية في الزيارات الخارجية.
حصر الفائدة في الشق الدعائي وكبح الخصوم بالصوت العالي، لهما رواسب سيئة على المدى البعيد، لأنهما يؤثران على سمعة مصر ويعززان الصورة النمطية السلبية المأخوذة عنها، والتي فشلت جهود مخلصة كثيرة في محوها، لأن طوفان الدجل والشعوذة أكبر من أن تمحوهما رسائل العقل.
الفريق الثاني، يتعلق بأنصار جماعة الإخوان المسلمين، وهم درجوا على الوقوف على الناصية المواجهة للفريق الأول، والصياح أملا في نقل صورة توحي بـ”الغبن السياسي” ومحاولة لفت أنظار المارة في الشوارع القريبة من محل إقامة الرئيس المصري، وهو أيضا مشهد تكرر في معظم العواصم الغربية التي زارها الرئيس السيسي.
إذا كان الفريق الأول بدا متفوّقا في العدد والصخب، فإن الفريق الثاني نجح في التأثير نسبيا وجذب إليه بعض المتعاطفين من التيار الإسلامي الأوسع، لكن يظل ذلك ضمن لعبة مصرية خالصة لا تعرفها دول كثيرة، ولا يشعر بها أحد على الإطلاق، لأنها تعتمد على لغة وقاموس ومفردات سياسية غارقة في المحلية.
الفريق الثالث، خاص بالأقباط المقيمين في الولايات المتحدة، ويتكون من جناحين، أحدهما مساند ويتضامن مع عناصر الفريق المؤيد من المنتقلين جوا إلى واشنطن للقيام بمهمة محددة، والآخر معارض ولا يقف مع الإخوان في مربع واحد، ويرى قضيته مختلفة ويرفض مساندة عناصر الجماعة أو الاختلاط بها علانية، حفاظا على ما يعتبره قضية عدالة يتجنب التشويش عليها، لكي لا يلحق بها رذاذ أو غبار سياسي.
أقباط أميركا، هكذا يطلق عليهم في مصر، درجوا منذ فترة طويلة على التباين، لكن غالبيتهم تقف الآن إلى جوار النظام الحاكم، الذي خلصهم من كابوس الإخوان المرير، ومنهم من قام بدور معتبر في شرح البعض من القضايا الشائكة، التي حاولت عناصر الجماعة توظيفها في الغرب لتأليبه على القاهرة، وظهر دور الأقباط جليا في التخفيف من حجم الأزمة التي واجهت بعضهم في سيناء واضطرتهم إلى الهجرة لمدن أخرى عقب التعرض لتهديدات مباشرة من متشددين هناك.
المشكلة أن الضوضاء التي تنقلها بعض وسائل الإعلام، المؤيدة والمعارضة، لا يشعر بها كثيرون في الغرب، وتُكبد مصر قدرا من الخسائر في غنى عنها، والبعض يرى فيها صورة كاشفة أو مؤشرا لما تدار به القضايا المهمـة، واستمرار هذه الطريقة يبعث برسـائل يمكن أن تكون لها مردودات سياسية واقتصادية خطيرة، في وقت تسعى فيه القاهرة إلى إعادة ترتيب أوراقها الخارجية، بما يؤدي إلى نتائج إيجابية في الداخل.
----------------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 3-4-2017.