مثَّل فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية هاجس قلق لدى الكثير من بلدان العالم حول مستقبل علاقاتها بالولايات المتحدة. والواقع أن خطابه الشعبوي يمثل تهديدا،ليس فقط لعلاقات هذه البلدان بالولايات المتحدة، بل وتهديدا خطيرا أيضا للنظام الدولي القائم.
وربما كان أهم تلك التهديدات،من حيث الجوهر وخطة العمل شبه المعلنة، هو ما تمثله نيات،وخطط،وسياسات الرئيس الأمريكي حول النظام التجاري الدولي القائم،منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد عبر ترامب في العديد من خطاباته،في أثناء حملته الانتخابية،عن عدم رضاه عن الاتفاقات التجارية الدولية التي تشارك فيها بلاده بعدّها اتفاقات مجحفة بحق الولايات المتحدة. حيث تتسم المنافسة التجارية بعدم العدالة،ويلجأ الكثير من الدول إلى التحايل لتحقق فائضا تجاريا مع بلاده، لتضر بالاقتصاد الأمريكي،وتعيق نمو وازدهاره. إذ علاوة على معاناة الولايات المتحدة عجزا ضخما في ميزانها التجاري، فإن هذه التجارةغير العادلة تسلب أيضا الملايين من فرص العمل التي كان ينبغي توفيرها للأمريكيين.
وربما كان أوضح خطابات الحملة الانتخابية،في هذا الصدد، هو ذلك الخطاب الذي ألقاه ترامب في ولاية بنسلفانيا التي عانت إغلاق عدد من مصانع الصلب،وغيرها من الصناعات. ولذا،جاء خطاب ترامب مركزا على ذلك، وكان عنوان هذا الخطاب "إعلان الاستقلال الاقتصادي الأمريكي"(1).
ومن أبرز ما جاء في هذا الخطاب قول ترامب إنه حينما "تم إغراق الصلب الأجنبي في أسواقنا، مهددا مصانعنا، لم يفعل السياسيون شيئا. ولسنوات عديدة، كانوا يشاهدون الموقف دون أن يعيروا أي اهتمام باختفاء وظائفنا،ومعاناة مجتمعاتنا من بطالة تماثل مستوي بطالة فترات الكساد". وأكد ترامب أيضا أن موجة العولمة قد محت تماما الطبقة الوسطي الأمريكية.
وعزا ترامب حدوثذلك إلى سماح الولايات المتحدة للدول الأجنبية بدعم سلعها، وتخفيض سعر صرف عملاتها، وانتهاك الاتفاقات، والغش بكل طريقة ممكنة. ونتيجة لذلك،تدفقت تريليونات من الدولارات الأمريكية،وملايين من الوظائف نحو الخارج. ووفقا لحسابات ترامب،خسرت أمريكا ما يقدر بنحو ثلث إلى نصف الوظائف الصناعية خلال الأعوام العشرين الأخيرة فقط.
وفي تأكيده محورية التجارة كحل للمشكلات الاقتصادية الأمريكية،أشار إلى أن الدستور الأصلي الأمريكي لم يكن حتى يشتمل على ضريبة دخل. بل بدلا من ذلك،كان به رسوم جمركية،وهو ما يعني التركيز على فرض الضريبة على الإنتاج الأجنبي، وليس المحلي. ولكن حسب رأيه،فإنه وبعد240سنة من الثورة، قام السياسيون بقلب الأمور رأسا على عقب. وبالتالي،فما حدث هو التدخل في عمل وتقييد حرية الشركات الأمريكية إلى حد الموت، مع السماح في الوقت نفسه للدول الأجنبية بأن تغش،لكي تصدر سلعها للولايات المتحدة بدون أن تفرض عليها رسوما جمركية.
وحينما انتقل ترامب إلى تحديد واضح لما يقصده من آثار للاتفاقات التجارية ولسياسات الشركاء التجاريين،أشار إلى فقدان أمريكا نحو ثلث الوظائف الصناعية بها منذ عام1997،في الوقت الذي زاد فيه عدد سكان البلاد بنحو50مليون نسمة، أنه في مركز هذه الكارثة اتفاقين تجاريين. الأول هو اتفاق المنطقة التجارية الحرة لشمال أمريكا (النافتا)، والآخر هو السماح بدخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية.
فالنافتا،حسب رأيه،كانت أسوأ اتفاق تجاري في التاريخ، ودخول الصين لمنظمة التجارة العالمية مكن من أكبر سرقة للوظائف في التاريخ. لكنه أشار أيضا إلى أن اتفاقية الشراكة عبر الهادي تعد هي الخطر الأعظم،فهذه الاتفاقية ستكون الضربة القاضية للصناعة الأمريكية. حيث ستقوم بتسليم جميع الروافع الأمريكية الاقتصادية إلى لجنة دولية تضع مصالح الدول الأجنبية فوق مصالح أمريكا. كما أنها ستفتح أسواق الولايات المتحدة أكثر أمام الذين يغشون بضراوة في العملة. كما أن هذه الاتفاقية ستجبر العمال الأمريكيين على التنافس مباشرة مع عمال فيتنام، وهي واحدة من أقل الدول من حيث معدلات الأجور في العالم. وحدد موقفا واضحا من هذه الاتفاقية بالقول إنه "ليس هناك طريقة لـ "إصلاح" اتفاقية الشراكة عبر الهادي. فنحن نريد اتفاقات تجارة ثنائية. نحن لا نريد اتفاقا دوليا واسعا يقيد من حركتنا."
ولخص ترامب موقفه بالقول"إن الإصلاح التجاري، والتفاوض حول اتفاقات التجارة الكبري، هما أسرع وسيلة لاستعادة وظائفنا من جديد." ثم قدم سبع خطوات يعتزم القيام بتنفيذها فورا لاسترجاع الوظائف للولايات المتحدة مرة أخري، هي:
أولا- انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر الهادي، حيث لم يتم التصديق عليها بعد.
ثانيا- اختيار أشد وأذكي المفاوضين التجاريين،لكي يقاتلوا بالنيابة عن العمال الأمريكيين.
ثالثا- توجيه وزير التجارة لكي يبين كل انتهاك للاتفاقيات التجارية من قبل البلاد الأجنبية،يضر بعمال الولايات المتحدة،وتوجيه جميع الأجهزة المعنية لاستخدام كل أداة ممكنة بموجب القانون الأمريكي والدولي لوقف هذه الانتهاكات.
رابعا- إبلاغشركاء الولايات المتحدة في "النافتا" (كندا والمكسيك) بعزمه إعادة التفاوض فورا حول شروط الاتفاق للحصول على صفقة أفضل للعمال الأمريكيين. وأوضح أنه لا يعني بهذا الحصول على صفقة أفضل بقليل مما هو قائم، ولكنه يعني صفقة أفضل كثيرا من الوضع الحالي. وإذا لم يستجب هؤلاء الشركاء لإعادة التفاوض، فحينها سيقوم بتقديم إشعار،بموجب المادة2205من اتفاقية "النافتا"، بأن أمريكا تعتزم الانسحاب من الاتفاقية.
خامسا- إعطاء تعليمات لوزير الخزانة،لكي يعلن تصنيف الصين كدولة تتلاعب بعملتها. وسوف يواجه بحدة أي بلد سيقوم بخفض سعر صرف عملته،لكي يكسب ميزة تنافسيةغير مستحقة على الولايات المتحدة. وتشتمل هذه المواجهة على استخدام الرسوم الجمركية والضرائب.
سادسا- توجيه تعليمات للممثل التجاري الأمريكي،لكي يجهز قضايا تجارية ضد الصين، سواء داخل الولايات المتحدة،أو في منظمة التجارة العالمية،لأن سلوك الصينغير العادل في دعم سلعها أمر محظور،وفقا لشروط انضمامها لمنظمة التجارة العالمية. وأعلن ترامب اعتزامه فرض قواعد المنظمة.
سابعا- إذا لم توقف الصين نشاطاتهاغير القانونية، بما في ذلك سرقتها للأسرار الأمريكية التجارية، فسوف يستخدم ترامب كل سلطة رئاسية شرعية لتسوية المنازعات التجارية، بما في ذلك تطبيق التعريفات التي تتسق مع البندين201و203من المرسوم التجاري لعام1974،والبند242من المرسوم التجاري الموسع لعام.1962وهي صلاحيات يعطيها التشريع الأمريكي للتدخل ضد الشركاء التجاريين،إذا ما ألحقوا ضررا بالمصالح الأمريكية.
وأشار ترامب إلى أن الرئيس ريجان في منتصف الثمانينيات قام باتخاذ إجراءات تجارية مماثلة،حينما هددت الواردات من الدراجات النارية،وأشباه الموصلات صناعة الولايات المتحدة. وكان مقدار الرسوم الجمركية التي فرضها على الدراجات النارية اليابانية،تبلغ 45٪،والرسوم التي فرضها ليحمي صناعة أشباه الموصلات الأمريكيةتبلغ 100٪.
والواقع أن ترامب لم يوفر شريكا تجاريا واحدا يحقق فائضا في ميزانه التجاري مع الولايات المتحدة، كما أنه لم يوفر اتفاقا تجاريا واحدا في هجومه، بحيث يمكن القول إن ما أعلن أنه يعتزم فعله يمثل تهديدا جديا للنظام التجاري الدولي. وحيث بادر الرئيس الأمريكي بالفعل،خلال الأسبوع الأول من دخوله إلى البيت الأبيض،بإعلان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر الهادي، فإنه منغير المستبعد أن يقوم بتنفيذ كل أو بعض من عناصر أجندته التفصيلية السابق عرضها.
وهجوم ترامب لا يهدد في الحقيقة النظام التجاري الدولي فقط، بل هو يهاجم في العمق فلسفة التجارة الحرة ذاتها، على الرغم من أن بعض معاونيه يكرر دائما أن الرئيس ليس ضد حرية التجارة، ولكنه ضد التجارةغير العادلة. ويعبر ترامب، في حقيقة الأمر، عن نظرة "ميركانتلية" ضيقة،و"قومية اقتصادية" عتيقة الطراز،تري أنه لا بد من تحقيق فائض (أو توازن على الأقل) في التعامل التجاري مع الخارج. ومن هنا،تكون الحمائية هي الفلسفة التي توجه عمله من أجل تحقيق هذا الهدف. والمفارقة الحقيقية،في هذا السياق،هي أنهغالبا ما يتم التركيز على أن الولايات المتحدة هي أكبر سوق مستورد في العالم، بينما يغض الطرف عن أنها في الوقت ذاته ثاني أكبر مصدر للسلع والخدمات في العالم،بعد الصين.
نظرية التجارة الدولية وفقدان الوظائف:
تذهب نظرية التجارة إلى أن التجارة الحرة تزيد من مستوى الرفاهية في جميع البلدان التي تتبناها، نتيجة للتخصص،وتقسيم العمل. إذ تميل البلدان التي تتمتع بوفرة في عنصر العمل للتخصص في إنتاج السلع التي تتطلب عمالة كثيفة في إنتاجها، بينما تميل الدول،ذات الوفرة في رأس المال للتخصص في إنتاج السلع كثيفة رأس المال. وعبر التجارة،وتبادل كلا النوعين من السلع،يزيد كل من مجموعتي البلدان من رفاهتها عما لو قامت بإنتاج كلا النوعين من السلع بنفسها. ومن هنا، فانسحاب ترامب من الاتفاقات الدولية،كاتفاقية الشراكة عبر الهادي مثلا،لأنها تضع الولايات المتحدة في منافسة مع أقل بلدان العالم من حيث مستوى الأجور، كفيتنام، هو ضربة في الصميم لجميع الوعود التي أطلقتها نظرية التجارة الحرة على مدي التاريخ.
ويمكن القول،بشكل مختصر،إن نظرية التجارة الدولية،بعد أن قضت ردحا طويلا من الزمن تعزز في جميع نماذجها من الدعوة لتحرير التجارة بعدّها مدخلا لزيادة مستوى الرفاهية في جميع البلدان التي تتبناها، كانت تميل أيضا في الوقت ذاته إلى النص على عدم انتقال عناصر الإنتاج بين الدول كواحد من الفروض الرئيسية التي تستند إليها نماذج ما يعرف بنظرية هكشر-أولين في التجارة الدولية.
وعلى حين تم لاحقا تخفيف هذا الشرط،وتم السماح بانتقال عناصر الإنتاج، كانت الخلاصة النظرية التي تم التوصل إليها هي أن هناك إحلالا بين التجارة الدولية في السلع،وحرية انتقال عناصر الإنتاج بين الدول(2). بمعنى أنه حينما تسود التجارة الحرة،وتنتقل السلع بين الدول،بناء على تكلفتها النسبية تتم تسوية أسعار السلع الداخلة في التجارة، وبالتالي تتم تسوية أسعار عناصر الإنتاج (الأجر للعمل،والفائدة لرأس المال)،وهو ما يعني ألا تكون هناك ضرورة لانتقال عناصر الإنتاج بين الدول. والعكس صحيح.
وقد تم تدريجيا تحدي هذه النظرية،سواء على المستوى النظري،أو علىمستوى الممارسة العملية،بدءا من ستينيات القرن الماضي. إذ أشار البعض إلي أن انتقال عناصر الإنتاج على المستوى الدولي يطرح صعوبات سياسية أكبر من التجارة الدولية. حيث تكون تحركات عناصر الإنتاج عرضة لقيود أكثر من القيود المفروضة على التجارة في السلع. فالقيود على الهجرة تكاد تكون كونية. وحتى الثمانينيات،كان هناك العديد من البلدان،بما فيها بعض البلدان الأوروبية، مثل فرنسا، تُبقي على قيود على حركات رأس المال،على الرغم من أنها واقعيا تتبني التجارة السلعية الحرة مع جيرانها. كما أن الاستثمارات ذات الأصل الأجنبي للشركات متعددة الجنسيات،كان يتم النظر لها بعين الشك،وكانت تنظم بإحكام في الكثير من بلدان العالم. والنتيجة هي أن تحركات عناصر الإنتاج ربما تكون في الممارسة أقل أهمية من التجارة في السلع(3)،وعلى وجه خاص في الحقيقة حرية عنصر العمل، إذ كانت الدول المتقدمة دائما تضغط من أجل فتح أسواق الدول النامية أمام الانتقال الحر لرأس المال، بينما ظلت هناك قيود شديدة على حرية حركة عنصر العمل من البلدان النامية للبلدان المتقدمة.
وبينما تم تأكيد أنه في الممارسة،تحل التجارة بالفعل محل انتقال عناصر الإنتاج، فإنها لا تحل محلها إحلالا تاما. فالتسوية التامة في أسعار عناصر الإنتاج لا تلاحظ في العالم الحقيقي بسبب الاختلاف بين البلدان فيما تملكه من موارد، علاوة على وجود قيود على التجارة، وهي قيود طبيعية واصطناعية. كما أن هناك اختلافات في مستويات التكنولوجيا بين البلدان المختلفة، وهي كلها كانت من بين الفروض الأساسية النظرية لهكشر-أولين.
وبشكل محدد،وكما يبرهن التاريخ، يمكن القول إن عنصر العمل كان أبعد مما يمكن عن وصفه بأنه كان حرا في الانتقال حقا. وكان ذلك ملحوظا بشكل خاص،منذ تم التوجه نحو فرض "توافق واشنطن"،وسقوط دول الكتلة السوفيتية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما فتح المجال أمام حرية أكبر لحركة رأس المال، بحيث باتت الملاحظة الرئيسية هي أن هناك "جملة من القيود المفروضة على حركة عنصر العمل،إذ تفرض كل دولة قيودا على الهجرة، بحيث أضحت حرية انتقال عنصر العمل أقل شيوعا في الممارسة من حرية انتقال عنصر رأس المال"(4).
وفي النهاية،فلا ينكر الاقتصاديون الكلاسيكيون المحدثون إمكانية حدوث بطالة نتيجة لتحرير التجارة،بل إنهم يشيرون إلى أن الظروف التي يحدث فيها ذلك تعد شائعة. فكل ما هو مطلوب هو أن يكون سوق العمل مقسما بدلا من أن يكون مندمجا. وهناك نوعان من التقسيم شائعان في سوق العمل،هما الانقسام الجغرافي والوظيفي. فالانقسام الجغرافي يتحقق حينما تكون القطاعات التي تتقلص أو تتوسع في أقاليم مختلفة داخل بلد محدد (كتأثر صناعة الصلب في ولاية بنسلفانيا مثلا، أو صناعة السيارات في ولاية ميتشجان)، وتكون هناك إضافة إلى ذلك عوائق مادية أو نفسية أمام حراك القوي العاملة. والانقسام الوظيفي،من جهة أخري،يحدث حينما تكون المهارات المطلوبة في القطاعات الاقتصادية مختلفة. فالعمالة التي يتم الاستغناء عنها في أحد القطاعات،نتيجة للتجارة،لا يمكن إعادة توظيفها في القطاعات الأخري، بدون إعادة التدريب المناسبة. ويتطلب ذلك بالطبع بعض الوقت. وكل من هذين النوعين من التجزؤ،أو أي مزيج منهما من الممكن أن يؤدي إلى بطء التعديلات التي تتم في سوق العمل،وإلى البطالة لفترة انتقالية. ويعتمد طول هذه الفترة الانتقالية على مدي حدة العوائق أمام الحراك الجغرافي،ومدي عدم التطابق في نوعية المهارات المطلوبة في القطاعات الاقتصادية المختلفة(5).
المؤكد إذن هو أن السياسة التجارية تنتج تغييرا في تركيب العمالة. كما أن العلاقة الديناميكية بين التجارة والنمو يمكن أن تؤدي أيضا إلى تغيير مستوى العمالة. ويجادل الاقتصاديون الكلاسيكيون المحدثون بأن تحرير التجارة لا يؤدي فقط إلى كفاءة أكبر في تخصيص الموارد، وإنما إلى تراكم أكثر سرعة في عوامل الإنتاج،والنمو الاقتصادي(6).
غاية ما يذكره إذن هؤلاء الاقتصاديون الكلاسيكيون المحدثون أنصار حرية التجارة أنه يمكن حدوث بطالة، ولكنها تكون لفترة مؤقتة من الوقت،وتعتمد على مدي مرونة الاقتصاد موضع الدراسة. ولكن في جميع الأحوال،تكون المكاسب المتحققة من التجارة الحرة للبلد ككل،حتى في مجال إتاحة فرص العمل،أكبر من هذه الخسارة العابرة أو المؤقتة في فرص العمل الناجمة عنها.
افتتاحية---داخلي-داخلي
لجوء ترامب إذن إلى التصريح بأن التجارة الدوليةغير العادلة هي التي تحرم عمال بلاده من فرص العمل هو ضربة في الصميم أيضا إلى كل الفلسفة التي تستند إليها الكتابات حول التجارة الحرة، ويعني فعلا النكوص عن المشاركة في نظام تجاري حر تسود فيه المعاملة بالمثل. وليسغريبا من ثم أن تكون العولمة واحدة من القضايا التي لاقت هجوما شديدا من ترامب،في أثناء حملته الانتخابية، والتي أكد للجمهور أنها (أي العولمة) تفيد الأثرياء فقط في وول ستريت وصنيعتهم من السياسيين،بينما هي ضد مصالح العمال الأمريكيين.
"النافتا" والمكسيك كهدف:
كانت المكسيك هدفا مزدوجا لترامب في أثناء حملته الانتخابية، إذ استهدفها بعدّها مصدرا للمهاجرينغير الشرعيين لبلاده،مما يؤدي إلى تفاقم مشكلة فرص العمل في الولايات المتحدة،لأن أجور العمالة المكسيكية أقل من أجور الأمريكيين. وكان الحل الذي طرحه هو بناء سور على امتداد الحدود بين البلدين التي تبلغ3169كيلو مترا للحيلولة دون هذه الهجرة. واستهدفها أيضا كشريك تجاري لتحقيقها فائضا تجاريا ضخما مع الولايات المتحدة. فبعد أقل من أسبوع على دخوله البيت الأبيض، هدد الرئيس ترامب بحرب تجارية مع المكسيك، وهي واحد من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وادان رفضها دفع ما بين10و20مليار دولار لبناء سور على الحدود بين البلدين، مما دعا الرئيس المكسيكي لإلغاء،زيارة له كانت مقررة للولايات المتحدة. وفور الإعلان عن هذا الإلغاء ناقش السكرتير الصحفي للبيت الأبيض خططا تتضمن فرض20٪ضريبة على الواردات الأمريكية من المكسيك (ما أطلق عليه ضريبة الحدود)،وذلك كخطوة أولي تجاه تعديل ضريبي على كل الواردات، ومن المأمول أن تخرج في صورة تشريع من الكونجرس برعاية زعماء مجلس النواب الجمهوريين. (في المساء،تراجعالبيت الأبيض قليلا عن هذه الخطة، وذكر أنها مجرد خيار فقط)(7).
وتزيد هذه الضريبة المقترحة بمقدار ثلاث مرات على مقدار الرسوم الجمركية التي كانت مفروضة على الواردات من المكسيك،قبل أن يتم التفاوض حول "النافتا" في مطلع التسعينيات. ويكتنف فرض هذه الضريبة العديد من التحفظات المهمة:
فمنغير المعروف من سيتحمل في نهاية المطاف عبء هذه الضريبة. إذ سيعتمد هذا على ما إذا كانت الضريبة ستكون على حساب أرباح المصدرين المكسيكيين، أو ما إذا كانت سترفع من أسعار المنتجات المكسيكية التي يشتريها المستهلكون الأمريكيون. كما أنه منغير المحدد أيضا ما إذا كانت الضريبة ستزيد من تكلفة السيارات والسلع الأخري التي يقوم بإنتاجها منتجون أمريكيون في المكسيك، أم لا. إذ يثور السؤال عما إذا كان بإمكانهم إضافة التكلفة الإضافية لعملائهم في شكل أسعار أعلى،أم لا. ويكفي القول إن بعض أو أغلب التكلفة من المحتمل أن تأتي من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين(8). وبالتالي،فإن فرض هذه الضريبة أو الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من المكسيك يمكنه أنيسبب ضررا لرفاهة المستهلك الأمريكي، وهو عكس ما يهدف له الرئيس ترامب.
وسوف تنتهك الضريبة التزامات الولايات المتحدة في كل من "النافتا"،ومنظمة التجارة العالمية،وتحفز على إجراءات مضادة فورية ضد صادرات الولايات المتحدة للمكسيك. وكل هذا بسبب أن المكسيك تحقق فائضا في تجارتها السلعية مع الولايات المتحدة،يبلغ60مليار دولار (تنخفض إلى50مليارا فقط في حالة إذا ما أخذنا إجمالي التجارة في السلع والخدمات).
أضف إلى كل ما سبق أن فرض هذه الضريبة يلحق ضررا بالصادرات الأمريكية للمكسيك. وجدير بالذكر أن المكسيك هي ثاني أكبر بلد مستورد للسلع الأمريكية،بعد كندا. وجزء كبير من الصادرات المكسيكية للولايات المتحدة هو من ناتج ما يسمي بصناعات المكيلادورا،وهي صناعات تمت إقامتها بداية على امتداد خط الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وهي صناعات تجميع بسيطة، حيث يتم نقل أجزاء السلع الأمريكية إلى داخل المكسيك لتتم عملية التجميع،فيما يسميه الاقتصاديون صناعات "ربط المفك". وهي عملية لا تقتضي خبرة خاصة،أو مهارة كبيرة،وفي الوقت ذاته تحقق أرباحا ضخمة للشركات الأمريكية بالاستفادة من الرخص الشديد لتكلفة الأيدي العاملة في المكسيك،مقارنة بالولايات المتحدة(9).
وتكفي نظرة على التبادل التجاري بين البلدين لتوضيح ما سبق،ولبيان أثر "النافتا" على هذا التبادل. فقد بلغت الصادرات الأمريكية للمكسيك في عام2015نحو236مليار دولار، حيث تعد المكسيك هي ثاني أكبر سوق للصادرات الأمريكية في هذه السنة. وتزيد قيمة الصادرات عام2015بنسبة468٪علىمستوى هذه الصادرات في عام1993 (أي قبل تأسيس "النافتا"). وكانت أهم الصادرات هي الآلات (42مليار دولار)، والآلات الكهربائية (41مليار دولار)، والمركبات (22مليار دولار)، والوقود (19مليار دولار)، والبلاستيك (17مليار دولار)، والمنتجات الزراعية (18مليار دولار). وعلى ذلك،فنحو44.5٪من الصادرات الأمريكية للمكسيك هو من الآلات،والآلات الكهربائية،والمركبات،وجزء كبير منها يذهب للمكسيك كأجزاء ليعاد تجميعها،ثم تشحن للولايات المتحدة.
أما الواردات الأمريكية من المكسيك،فقد بلغت295مليار دولار عام2015،لتحتل المكسيك مرتبة ثالث أهم دولة مصدرة للولايات المتحدة. وتزيد الصادرات عام2015بنسبة638٪مقارنة بعام1993 (قبل تأسيس "النافتا").
وأهم الواردات الأمريكية من المكسيك هي: المركبات (74مليار دولار)، والآلات الكهربائية (63مليار دولار)، والآلات (49مليار دولار)،والوقود (14مليار دولار)، والأدوات الطبية والبصرية (12مليار دولار)، والمنتجات الزراعية (21مليار دولار)(10).
وعلى ذلك،فنحو63٪من صادرات المكسيكيشمل المركبات، والآلات الكهربائية، ثم الآلات،وجزء كبير منها هو من ناتج صناعات التجميع الأمريكية هناك (المكيلادورا).
الخلاصة إذن أنه إذا كانت ستفرض رسوم على الصادرات المكسيكية للولايات المتحدة،بما يترتب عليه من انخفاض كمية هذه الصادرات، فإنه سيترتب عليها أيضا انخفاض الصادرات الأمريكية للمكسيك التي تذهب للتجميع في المكيلادورا.
والمرجح،وفقا لبعض الاقتصاديين،أن يشكل فرض مثل هذه الضريبة الثقيلة بداية النهاية لأي أمل في إعادة التفاوض حول منطقة التجارة الحرة لشمال أمريكا "نافتا". فالاضطراب في عمليات الإنتاج والتجارة سوف يكون من الكبر،بحيث سيكون هذا القرار تعجيلا بانهيار"النافتا".
وأخيرا،فمن المؤكد أن فرض مثل هذه الضريبة سيثير ردودا انتقامية من قبل المكسيك،كما حدث سابقا في النزاع التجاري بين البلدين في مجال الشحن.
الرد الانتقامي المكسيكي ومستقبل "النافتا"(11):
يشير البعض إلى ما حدث في مجال صناعة الشحن بين الولايات المتحدة والمكسيك للبرهنة على أن المكسيك يمكنها،في إطار اتفاقية "النافتا" ذاتها،أن ترد على أية إجراءات أمريكية تطول صادراتها. إذ بعد تعنت الولايات المتحدة في تحرير التجارة في مجال الشحن،وفتح السوق الأمريكي أمام الشاحنات المكسيكية، مرر الكونجرس بين عامي2001و2006تشريعات متعددة،أضحي معها من الصعب للغاية الالتزام بشروط آلية فض المنازعات في "النافتا". وهدد الرئيس المكسيكي فوكس بالإغلاق التام للحدود أمام الشاحنات الأمريكية. وبعد سنوات من التفاوض لتسوية هذا النزاع، وافقت الولايات المتحدة والمكسيك في عام2007على التعاون في برنامج مشترك للشحن،كخطوة نحو تنفيذ جميع الالتزامات في "النافتا". ولكن في مارس2009،عادت الولايات المتحدة وألغت التمويل المقرر للبرنامج تحت وطأة تصاعد الضغوط الحمائية. وفي الشهر نفسه،ردت المكسيك بفرض رسوم على صادرات أمريكية إليها لتعويضها خسارتها المقدرة بنحو ملياري دولار،الناجمة عن إغلاق سوق الشحن الأمريكي أمامها.
وقد بدأت المكسيك بفرض رسوم تتراوح بين10٪و45٪على89منتجا أمريكيا. وفي عام2010،أضافت10منتجات أمريكية أخري ليصل إجمالي المنتجات إلى99منتجا،ولكنها خفضت الرسوم لتتراوح بين5٪و25٪. وكانت هذه المنتجات معفاة من الرسوم الجمركية تماما. وقد مست التعريفات الجمركية قطاعات عدة في الاقتصاد الأمريكي،ولكنها كانت تتركز أكثر على الزراعة. وقدغطت التعريفات في البداية6٪من الصادرات الزراعية الأمريكية،ونحو1٪فقط من الصادراتغير الزراعية للمكسيك. أما التوسع التالي في التعريفات،فقدغطي منتجات إضافية. ومرة أخري،ركزت أكثر على الزارعة. وقد أثرت التعريفات المكسيكية في نحو43ولاية أمريكية،حسب تقرير لوحدة الخدمات البحثية في الكونجرس.
ونتيجة للردود الانتقامية المكسيكية،وافقت الولايات المتحدة في يوليو2011على برنامج جديد لصناعة الشحن،مقابل أن تقوم المكسيك بإلغاء التعريفات التي فرضتها على الصادرات الأمريكية. وقد تضمن البرنامج الموافقة على توسيع الفرص أمام الشاحنات المكسيكية للعمل في الولايات المتحدة.
وكانت الردود المكسيكية في واقع الأمر قد أتت في إطار آلية فض المنازعات في "النافتا". ورغم أنه منغير الواضح ما هي الإجراءات التشريعية التي قد تلجأ إليها المكسيك،فيما لو قامت الولايات المتحدة بفرض ضريبة الحدود المقترحة على صادراتها، فإنه بوسعها الانتقام من الصناعات الأمريكية التي يمكنها أن تسبب ضررا أكبر للولايات المتحدة بينما يمكنها هي أن تعاني أقل الأضرار الممكنة، وأن تركز على المنتجات الأمريكية التي يمكنها استيرادها بسهولة من شريك تجاري آخر.
ويمكن من ثم للعقوبات التجارية أن تتصاعد إلى حرب تجارية واسعة النطاق، أو يمكنها أن تقود البلدين لحل منازعاتهما،والتراجع عن التعريفات التي تم فرضها، كما حدث في عام2011فيما يتعلق بالنزاع حول الشحن. وفي ظل سيناريو الحرب التجارية، يمكن للمكسيك أن تعدل أهدافها فيما يتعلق بالقطاعات المحددة لممارسة انتقامها على مدي الزمن،بحيث تكون أكثر ضررا بالصناعة الأمريكية،وفقا للتحولات التجارية والسياسية الجارية.
الصين وألمانيا والدول المتلاعبة بعملاتها:
تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوجيه تعليمات لوزير خزانته بتصنيف الصين كبلد يتلاعب بسعر صرف عملته في اليوم الأول لتقلده منصبه. وسوف يسعي بعدئذ للتفاوض مع الصينيين لخفض فوائضهم التجارية الضخمة. ففي عام2015،استوردت الولايات المتحدة ما قيمته482مليار دولار من السلع الصينية،بينما صدرت بنحو116مليار دولار فقط، وهو ما أدي إلى عجز تجاري بلغ366مليار دولار(12). وأكد ترامب أنه إذا لم يتعاون الصينيون من أجل خفض العجز التجاري مع الصين،فإنه سيقوم بتقليص الواردات من طرف واحد.
اتفاقية" بلازا" جديدة .. هل هي أمر ممكن؟
مع سعي الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحها،وعلى مكانة مهيمنة للدولار في نظام النقد الدولي،أدخلت هذا النظام في أزمة شديدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، مع سحب تقييد حرية تحويل الدولار إلى ذهب. وكان البديل هو تحول العالم من نظام أسعار الصرف شبه الثابتة،المقرر في اتفاقيات بريتون وودز -التي عقدت عقب نهاية الحرب العالمية الثانية- إلى نظام أسعار الصرف المعومة. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى ميل هذه الدولة أو تلك إلى استغلال هذا النظام، خاصة فيما بات يعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ "التعويم القذر أو المدار" لتحقيق مصالحها الاقتصادية. والدليل على ما نقول أن الصين لم تكن التجربة الأولي في هذا الصدد،خاصة بتعرضها للضغوط الأمريكية. إذ كانت الولايات المتحدة قد دعت إلى ضرورة التدخل من قبل كل من اليابان وألمانيا للعمل على رفع قيمة سعر صرف عملتي البلدين أمام العملة الأمريكية منذ عام1984،حيث كان البلدان يحققان فائضا كبيرا في ميزانيهما التجاريين مقابل عجز شديد في الميزان التجاري الأمريكي،وهو العجز الذي أصبح عجزا مزمنا منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، خاصة أن الولايات المتحدة كانت في هذا الوقت أيضا تعاني ركودا اقتصاديا شديدا،بدءا من أواخر السبعينيات. ومع وجود علاقات قوية بين البلدان الثلاثة، بل ومكانة مهيمنة للولايات المتحدة، تم الاتفاق على ما عرف باتفاقية "بلازا" في22سبتمبر عام1985بين كل من فرنسا،وبريطانيا،والولايات المتحدة،وألمانيا الغربية،واليابان على تعديل أسعار الصرف،بحيث يسمح بزيادة أسعار صرف عملات هذه البلدان أمام الدولار الأمريكي،خاصة سعر صرف الين الياباني،وسعر صرف المارك الألماني. لكن استمرار سعر صرف الدولار في التراجع لأقل من المستويات التي كان متفقا عليها،نتيجة للمضاربة، تم الاتفاق من جديد على ما عرف باتفاق "اللوفر" في فبراير1987للعمل على رفع سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية الدولية الأخري. ومع ذلك،فإن الميزان التجاري الأمريكي استمر يحقق عجزا كبيرا على مدي هذا الزمن مع اختلاف الدول التي تحقق فائضا في تجارتها مع الولايات المتحدة.
وكان يحدو بعض صناع القرار،ومراكز الأبحاث الأمريكية،حتى عام2010،الأمل في التوصل لاتفاق مماثل لاتفاق "بلازا"، مع تغير أطرافه،بحيث تحل الصين،وهونج كونج،وماليزيا،وتايوان،مثلا،محل اليابان وألمانيا لتعديل سعر صرف هذه العملات بالارتفاع أمام الدولار الأمريكي للعمل على القضاء على الاختلالات في موازين المدفوعات الناجمة عن العجز التجاري الكبير في الولايات المتحدة،والفائض الكبير في هذه البلدان،خاصة في الصين. إذ كانت تقدر الجهات الأمريكية أن سعر صرف العملة الصينية آنذاك مقدر بأقل من قيمته الحقيقية بنحو40٪مقابل الدولار الأمريكي. ولكن كما هو واضح،فهناك فارق كبير بين طبيعة العلاقة الأمريكية بكل من اليابان وألمانيا،خاصة وقت اتفاق "بلازا"، والعلاقات الأمريكية - الصينية في الوقت الراهن.
والمشكلة الكبري هي التقديرات الحديثة الخاصة بهذا التلاعب في العملة. إذ يقول الاقتصادي فريد برجستين "لقد كنت من بين الأوائل الذين لفتوا الانتباه لتلاعب الصينيين وغيرهم بعملتهم،والمطالبة بإجراءات قوية لمواجهة ذلك، ولكن ينبغي إدراك أن الموقف قد تغير بشكل دراماتيكي خلال العامين الأخيرين. فقد شهدت الصين خروج كميات هائلة من رأس المال الخاص،والذي أدي إلى انخفاض سعر صرف عملتها،وهو ما أشعل المخاوف في السوق من الخفض المضطرب للعملة الصينية (الرينمبي). وشهادة حق في مصلحتهم، تدخل الصينيون بكثافة في الاتجاه العكسي للسوق. فبدلا من شراء الدولارات لإبقاء الرينمبي ضعيفا، اشتروا كميات كبيرة من الدولارات للحيلولة دون انزلاقه أكثر. وتدخلهم الراهن أسهم في تقوية التنافسية الأمريكية،عوضا عن أن يهدمها. وهكذا فإن التلاعب بالعملة (بما في ذلك الدول الأخري بخلاف الصين) توقف وأصبح ذكري"(13).
وأشار برجستين إلى أن التسهيل التجاري والمرسوم التجاري لعام2015يتضمن ثلاثة معايير لتصنيف بلد ما بعدّهيسئ التصرف في مجال سعر الصرف، وهي:
تحقيق فائض تجاري ثنائي ضخم مع الولايات المتحدة، وهو ما تحققه الصين بالفعل،وتحقيق فائض كلي في ميزان الحساب الجاري، وهو ما تترجمه وزارة التجارة على أنه يعني فائضا يبلغأكثر من3٪من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يزيد عما تحققه الصين حاليا،وأخيرا حدوث تدخل "عنيد من جانب واحد" في أسواق الصرف للحيلولة دون ارتفاع سعر صرف العملة، وهو بكل وضوح ما لا تقوم به الصين في الوقت الراهن(14).
وفي النهاية،فأي محاولة لفرض عقوبات على الصادرات الصينية للولايات المتحدة،بدعوي تلاعبها بالعملة، وهو الأمرغير الصحيح، ستدفع الصين إلى عدم الوقوف مكتوفة اليدين إزاء الولايات المتحدة، وغالبا ما ستكون هناك ردود فعل انتقامية.
اللافت للانتباه هو إضافة ألمانيا الغربية إلى قائمة الدول المتهمة في التلاعب بعملتها أخيرا. حيث حققت ألمانيا فائضا في التجارة السلعية مع الولايات المتحدة،بلغنحو65مليار دولار عام.2016ففي ورقة قدمها في سبتمبر2016بيتر نافارو،رئيس المجلس التجارة الوطني الجديد،الذي أسسته إدارة ترامب،هناك استنتاجانغريبان، الأول: أن التعويم الحر يقلص من الاختلالات التجارية. وبناء على ذلك، فإن الاختلالات التجارية تعد مظهرا من مظاهر "التلاعب بالعملة". ثانيا: إن عضوية ألمانيا في منطقة اليورو هو خيار للسياسة الاقتصادية لإبقاء سعر صرف ألمانيا بأقل من قيمته الحقيقية، وهو ما يعد تصرفا من تصرفات التلاعب بالعملة!.
ويشير أحد الاقتصاديين الأمريكيين إلى أنه "لو صنفت الولايات المتحدة عضوية ألمانيا في منطقة اليورو بعدّها تشكل تلاعبا بالعملة، فهل ستدعو الإدارة إلى انسحاب ألمانيا من المنطقة؟(15). ومثل هذا الانسحاب سيؤدي إلى اضطراب أوروبا اقتصاديا وسياسيا، وسيضر ضررا بالغا بالاقتصاد العالمي. وأية مكاسب في الصادرات،يمكن توقع أن تجنيها الولايات المتحدة من عملة ألمانية أقوي،سيقضي عليها الانخفاض في القوة الشرائية في أوروبا. أم أن واشنطن ستفرض رسوما جمركية على ألمانيا وحدها. وإذا ما فعلت هذا،فإنه سيكون أمرا أهوج أكثر. فلن يكون هذاغير شرعي في ظل قواعد منظمة التجارة العالمية وفقط، ولكن على الأغلب سيوحد الاتحاد الأوروبي صفوفه،ويقوم بالانتقام. وسوف تكون النتيجة هي حربا تجارية كبري"(16).
وقد دافع مسئولون اقتصاديون ألمان عن تحقيق بلادهم لفوائض تجارية ضخمة، وقاموا بالرد على انتقاد الإدارة الأمريكية للسياسة التجارية الألمانية. وقد أتي ذلك،عقب اجتماع المسئولين الماليين في مجموعة العشرين،في ألمانيا يوم السبت19مارس2017،حيث ظهرت خلافات حول التجارة بين الولايات المتحدة وبقية مجموعة العشرين،وحيث فشل البيان النهائي للاجتماع في النص على ضرورة الحفاظ على التجارة العالمية حرة ومفتوحة،كما كانت ترغب ألمانيا، وذلك نتيجة للضغوط التي مارسها وزير الخزانة الأمريكي. وقد أشار مسئولو البنك المركزي الألماني إلى أن الفائض في ميزان الحساب الجاري الألماني معرض للانخفاض بحدة هذا العام. وأشار اقتصاديون ألمان إلى أن الفائض هو نتيجة لجهود القطاع الخاص الألماني، وأنه من الصعب التدخل لتعديل هذا الأمر بقرار سياسي(17).
المعاملة بالمثل وقضية القومية والتجارة الحرة(18):
أشار واحد من أساطين الاقتصاديين المناصرين للتجارة الحرة،هو الهندي - الأمريكي جاديش بجواتي،منذ وقت طويل نسبيا،إلى القضايا المتعلقة باللجوء إلى إجراءات من جانب واحد، خاصة إذا كان هذا الجانب قويا، للعمل على تعديل الموازين التجارية. فيقول بجواتي: ينبغي أن يكون واضحا أنه لو تم عدّالعوائق التجارية التي يقيمها الآخرون عرضة للتغيير عن طريق إغلاق السوق أمامهم، فإنه يمكن الدفاع عن الرأي الذي يذهب إلى التخلي عن التجارة الحرة المنفردة من أجل تحقيق مزايا قومية. وقد كان هذا واضحا حتى بالنسبة لآدم سميث في كتابه ثروة الأمم. والحالة التي ربما يمكن أن تكون محل استقصاء أحيانا هي المدي الذي يكون فيه من الصحيح الاستمرار في استيراد سلع أجنبية معينة بشكل حر، في الوقت الذي تقوم فيه دولة أجنبية بتقييد وارداتها،إما بفرض تعريفات مرتفعة،أو الحظر التام من الدخول في سوقها. والانتقام في هذه الحالة يقتضي الرد بالمثل. ومن النادر أن تفشل الأمم في الرد بهذه الطريقة.
ويشير بجواتي إلى أن الأسئلة الرئيسية،التي تثار حول استخدام التهديدات والأفعال بغلق "سوقنا" من أجل فتح أسواق الآخرين، تأخذنا بشكل حتمي إلى ساحة العالمية. إذ على المرء أن يثير أسئلة مثل:
1- هليهدد استخدام القوة للحصول على تنازلات أحادية حكم القانون الذي ينبغي أن يعمل في ظله النظام التجاري؟ ألا يهدد شرعنة استخدام القوة بانتشار مثل هذه الأساليب إلى البلدان الأخري التي نتاجر معها،خاصة التي لديها القدرة على ذلك؟
2- ألا يمكن أن يقود هذا أيضا إلى أن التنازلات،التي يتم تقديمها للأقوي، تحول التجارة من الأقل قوة، وتستبدل بالتنافسية الاقتصادية السطوة والنفوذ السياسي بعدّها القوة الموجهة وراء التجارة، وهو ما يخفض بالتالي من الكفاءة الإنتاجية العالمية؟
3- ألا يؤدي استخدام مثل هذا النفوذ إلي التدهور وأيضا إلى موقف منفرد بحت (ولذا فهو يخدم مصلحة واحدة،وينحاز لها) يحدد درجة انغلاق أسواق الآخرين أمام سلعنا؟ وهو خطر عظيم حينما يتعامل المرء مع ادعاءات بوجود عوائق تجاريةغير مرئية وغامضة، وهو أمر يمكن أن يتم قذف الآخرين به بحرية بشكل جماعي ومتفرق،بحيث تكون هذه الادعاءات لصيقة دائما بتحقيق مصلحة الأقوي.
4- ألا يمكننا الندم على الآثار التي ستنعكس على الكفاءة العالمية،فيما لو استطاع الأكثر قوة التمادي في تحقيق مصالحهم،واستأسدوا على الضعفاء لإزالة الحماية،أو حفز تجارتهم (عن طريق دعم الإنتاج مثلا)،في الوقت الذي،في الحقيقة،يمكن أن يكون هذا عاملا على تصحيح فشل السوق،وليس خلقه؟
بالإضافة إلى كل ما سبق،فإننا في الحقيقة قد أشرنا فقط للخلافات بين الولايات المتحدة وغيرها من القوي الاقتصادية والتجارية الكبري، ولم نشر إلى الخلافات بين كل هؤلاء ودول العالم الثالث. فنحن،منذ تم إنشاء منظمة التجارة العالمية في منتصف التسعينيات،نشهد تعثرا في العمل على تدشين جولات لتحرير التجارة،كما كان معتادا في ظل "الجات"، وذلك بسبب أساسي،هو أن الدول المتقدمة تريد فرض أجندتها كاملة دون أن تمنح الكثير للدول النامية. ويأتي هذا التعثر لسببين رئيسيين، أولهما أن البلدان النامية قد عرفت بعض التوحد في صفوفها،ونبتت لها أنياب تفاوضية حقيقية تحت قيادة ثنائية من الهند والبرازيل. ثانيهما أن منظمة التجارة العالمية الحديثة النشأة تختلف عن المنظمات الاقتصادية الأقدم (صندوق النقد الدولي،والبنك الدولي). فهي أكثر ديمقراطية،حيث تسود قاعدة صوت واحد لكل دولة عضو، وليس التصويت المرجح بالقوة الاقتصادية،كما هو الحال في الصندوق والبنك. وليس أدل على ذلك من أن مدير عام المنظمة برازيلي الجنسية،وتم التجديد له يوم28فبراير الماضي لمدة أربعة أعوام جديدة تبدأ في سبتمبر القادم. وعلى أية حال،فهذا موضوع آخر، إنما نشير فقط إلى أن الكثير من الدول النامية ستكون ضحايا لأي حروب تجارية تنشب، فضلا عن أن بعضها سيكون طرفا لا محالة في هذه الحروب.
خاتمة:
تهدد خطط وسياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتفجير نظام التجارة الدولية،الذي تم تدشينه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. والواقع أنه في الظروف الراهنة،هناك ما قد يشبه الظروف الاقتصادية والتجارية،التي شهدها العالم خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والتي يري البعض أنها كانت من الدوافع الرئيسية وراء ظهور الفاشية والنازية،وانتصارهما في أوروبا(19)،وكانت من ثم من أكبر الدوافع وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث جرت تسوية الصراعات والخلافات الكبري بالنار والدم.
الهوامش :
1- Declaring American Economic Independence https://assets.donaldjtrump.com/DJT_DeclaringAmericanEconomicIndependence.pdf
2- الصياغات النظرية أعقد من العرض المبسط المقدم هنا بالطبع، ولكننا نود فقط الإشارة إلى أن الإحلال بين حرية انتقال عناصر الإنتاج،وحرية التجارة السلعية ظل هو الطرح الأساسي على الأقل على المستوى النظري لفترة طويلة. وأهم الإسهامات في تطوير هذه النظرة كانت لأبا ليرنر،وسامويلسون،وستولبر،وماندل،وغيرهم.
3- Paul R. Krugman, Maurice Obstfeld, International Economics: Theory and Policy, Pearson Education, Inc., sixth edition. 2003, p. 160
4- المصدر السابق، ص161.
5- David Greenway and Chris Milner, International Trading System and Uruguay Round: The Total Effects on Employment, International Labour Review, Vol. 134 (1995), No. 4 and.5
6- المصدر السابق نفسه.
7- Jeffery J. Schott, The Mexican Border Tax: Will It Backfire? Peterson Institute For International Economics, January 26, 2017.
https://piie.com/blogs/trade-investment-policy-watch/mexican-border-tax-will-it-backfire
8- المصدر السابق نفسه.
9- أشار رجل المال والأعمال توم بلسون إلى نجاح تهديدات ترامب،حتى قبل تسلمه الرئاسة،في نقل الأعمال للولايات المتحدة بدلا من المكسيك، مع إعلان مارك فيلدز، الرئيس التنفيذي لشركة فورد للسيارات، في شهر يناير2017،أن فورد سوف تلغي مشروعا تصل قيمته إلى1.6مليار دولار كانت تزمع إقامته في المكسيك. وبدلا من ذلك،ستعمل على التوسع في عملياتها في ولاية ميتشجان، وذلك "للبيئة المشجعة أكثر للأعمال في الولايات المتحدة"،التي يتوقعها في ظل إدارة ترامب.
- John Paulson, Trump and the Economy: How to Jump-Start Growth, Foreign Affairs, Volume 96, Number.2, p.11.
10- Office of the United States Trade Representative: Executive Office of the President, U.S.-Mexico Trade Facts. https://ustr.gov/countries-regions/americas/mexico
11- Kent Boydston, Can Mexico Retaliate Against US Trade Actions? Peterson Institute For International Economics, January 30, 2017.
https://piie.com/blogs/trade-investment-policy-watch/can-mexico-retaliate-us-trade-actions
12- John Paulson, Trump and the Economy: How to Jump-Start Growth, Foreign Affairs, Volume 96, Number.2, p.10.
13- C. Fred Bergsten, China is no longer Manipulating its Currency, Peterson Institute For International Economics, 18 November, 2016.
https://piie.com/blogs/trade-investment-policy-watch/china-no-longer-manipulating-its-currency
14- المصدر السابق.
15- الواقع أن تيد مالوك،المرجح أن يتم ترشيحه سفيرا للولايات المتحدة لدي الاتحاد الأوروبي،أشار إلى أنه سيراهن على انهيار اليورو.
انظر: فورين بوليسي: حرب العملات التي يشنها ترامب على ألمانيا قد تدمر الاتحاد الأوروبي،الخليج الجديد، 6 فبراير،2017.
على الرابط:
http://www.thenewkhalij.org/node/58649
16- JerominZettelmeyer, Is Germany a Currency Manipulator? Peterson Institute For International Economics, February 1, 2017. https://piie.com/blogs/realtime-economic-issues-watch/germany-currency-manipulator
17- TOM FAIRLESS AND NINA ADAM, Germany Fires Back at U.S. Critique of Its Trade Surplus, Wall Street Journal, March 20, 2017.
18- JAGDISH N. BHAGWATI, Fair trade, reciprocity, and harmonization: the novel challenge to the theory and policy of free trade. In DOMINICK SALVATORE (ed.), protectionism and world welfare, CAMBRIDGE UNIVERSITY. Pp. 20-22.
19- راجع في التشابه (من حيث جوهر الأفكار) بين أفكار ودعاوي الرئيس ترامب وتلك التي انتشرت في ألمانيا النازية في: عصام الخفاجي، عن العقل القومي ومظلومية الأمم، الحوار المتمدن،8مارس2017،على الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=550831