التساؤل المطروح بعد إصدار القانون الجديد للجمعيات الأهلية.. هل ينظر إلى الأنشطة التنموية «الدعوية، الخدمية، الثقافية.. إلخ» التى تضطلع بها على أنها تسديد لاحتياجات المواطن أم تسديد لحقوقه؟
حينما نتحدث عن التنمية فإن وجود الإنسان يعنى بالضرورة وجود التنمية، وحيث غاب الإنسان عن جهود التنمية تغيب بالضرورة التنمية باعتبار أن التنمية هى عملية تستهدف الإنسان وتتم بالإنسان ومن أجل الانسان.
عليه فإن الأنظمة السياسية التى تمتهن الإنسان وكرامته، أو تنتقص عبر سياساتها وبرامجها وإجراءاتها من إنسانيته، لا تستطيع من الناحية الواقعية ــ مهما رفعت من يافطات وشعارات ــ تحقيق التنمية أن تخلق واقعا جديدا.
وهو ما يفسر إخفاق الكثير من مشروعات التنمية فى كثير من البلدان ومن ضمنها بلادنا. فبرغم امتلاكها للمواد الخام والثروات الطبيعية والمنح والهبات التى تمكِن هذه البلدان من تحقيق تنمية فى جوانب الحياة المختلفة ولكن وبفعل غياب الإنسان وحقوقه وحريته، فإن هذه الموارد والثروات، تضيع فى أغلبها بلا فائدة تذكر على الغالبية العظمى.
فى هذا الإطار فقد سقطت نظرية أن الارتفاع بمعدلات النمو سوف يؤدى بالضرورة للارتقاء بحياة الأكثر فقرا وحرمانا، فقد حققت مصر فى بداية القرن نحو 7% معدل نمو فى الوقت الذى استمر فيه ما لا يقل عن 40% من السكان تحت خط الفقر.
لذا فإن الخطوة الأولى فى عملية التنمية المستدامة هى إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والنظام الذى يدير البلاد وبينه وبين مجتمعه بحيث يكون قادرا على المشاركة الفاعلة وممارسة حقوقه وتحمل مسئولياته، وما يترتب على ذلك من علاقة جديدة بينه وبين عملية التنمية التى لا تُستورد ولا تُستنسخ، وإنما هى بحاجة إلى الإنسان الذى يخلق واقعا اجتماعيا جديدا، دافعا نحو البناء والعمران، ومحاربا لكل أشكال القهر والتهميش والاستبعاد وأشكال الكسل والترهل والجمود.
فالتنمية المستدامة بتجلياتها المتعددة ليست فقط مشروعات اقتصادية عملاقة ولا بنية تحتية متكاملة بل هى حصيلة عقل ووعى وإرادة الإنسان، وأى خلل فى هذه العناصر (العقل ــ الوعى ــ الإرادة) سينعكس سلبا على مجمل العملية التنموية؛ فكلما تقدم الإنسان فى وعيه وإرادته وحقوقه، توافرت أسباب النجاح لعمليه التنمية.
أما إذا قمع الإنسان، وقُيدت حريته (منها تكوين ترابطاته الأهلية)، وامتُهنت كرامته، وانتُهكت حقوقه، فإنه لن يكون قادرا على إنجاز عملية البناء والتنمية. التنمية الحقيقية هى التى تبدأ من تنمية الإنسان عقلا ووعيا وحقوقا وإرادة.
******
وفى هذا الصدد فقد تطور مفهوم العمل الأهلى فى أجيال ثلاثة بدأت بجيل يعتمد على تقديم الإعانات وإغاثة المعوزين والفقراء دون أى دور للإنسان باعتباره متلقيا للخدمة فقط.
انتقل المفهوم بعد ذلك إلى بناء قدرات وإمكانيات البشر ليكونوا قادرين على إدارة شئون حياتهم ومجتمعاتهم ومواردهم، وهى المرحلة التى عرفنا فيها مفاهيم التنمية المستدامة والتنمية البشرية.
ونحن الآن نعيش عصرا جديدا هو جيل التنمية المرتكزة على الحقوق.
يسعى هذا المنظور نحو التعرف على الفقر والظلم ومناطق التهميش والتمييز، والاستغلال باعتبارها أسبابا مركزية للفقر. كما يعتبر المنظور أن وجود الفقر ليس مجرد خطأ من الأفراد، ولا يمكن أن تكون مواجهته باعتباره مسألة شخصية بحتة. كما لا يمكن وضع عبء الفقر والظلم على مفاهيم مجردة مثل المجتمع أو الأنظمة أو العولمة.
يتطلب منظور التنمية المبنى على الحقوق حزمة من السياسات والنظم والإجراءات تتمثل فى العناصر التالية:
أولا: عودة ظهور الدولة والحكم الرشيد كعنصر فاعل فى عملية التنمية وذلك من خلال التركيز على العلاقة المتبادلة بين الدولة ومواطنيها وتشكيلاتهم الطوعية للعمل الأهلى من حيث الواجبات والحقوق، وهو عودة إلى الالتزام الأساسى للدولة وفق الدستور والمواثيق الدولية لرعاية وحماية مواطنيها خاصة الأكثر ضعفا بسبب حالة التهميش والاستبعاد التى فرضت عليها من الأنظمة القمعية و/أو سيطرة الفاشية الدينية.
ثانيا: الاعتراف بأن الفقر (المادى «أو» المعرفى) هو انتهاك لحقوق الإنسان وأنه فى حد ذاته هو السبب الجذرى لعدد من انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الشىء الذى غالبا ما يفرض على الناس ويأتى كحتمية لممارسة التمييز والتهميش والاستبعاد. ومن هذا المنظور يعتبر الإغفال والإهمال والإنكار لأوضاع الناس من أقسى الانتهاكات لحقوق هؤلاء الناس.
ثالثا: الاعتراف بأن الفقر هو أكثر بكثير من نقص الاحتياجات الاقتصادية فيشمل ظواهر مثل عدم المساواة والتمييز والاستغلال وسوء المعاملة وغياب تكافؤ الفرص. وهو ما يفسر أن الفقر لا يعتبر مجرد واقع وظروف مفروضة أو قدرات فردية، ولكن ينظر إليه من داخل هياكل السلطة وعدم المساواة المتضمنة فى الأطر المحلية، والوطنية وفى السياق العالمى المتسلط.
عندما ينظر إلى التنمية باعتبارها محاولة لتحسين أوضاع الناس بالتركيز على احتياجات ومشكلات وإمكانات الفقراء، لذا فتأتى معظم مبادرات التنمية فى برامج لتوفير الغذاء والماء والمأوى والرعاية الصحية والتعليم والأمن والحرية لتحقيق أهداف الحياة. فإن التركيز هنا على هذه كلها باعتبارها احتياجات وهى كذلك فعلا، لكنها وبالأصل هى حقوق للناس لا يمكن تجاهلها أو نكرانها، ومعالجتها على أنها حاجات غالبا ما يعنى إنكارا بأنها حقوق. بعبارة أخرى إن مياه الشرب النظيفة ليس فقط شىء تحتاج إليه بل هو أيضا حق أساسى للإنسان.
يختلف منظور الاحتياجات عن الحقوق فى:
ــ يتجاوز منظور الحقوق مفهوم الاحتياجات المادية، فهو منظور أكثر شمولية للبشر من حيث أدوارهم المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية.
ــ يؤدى منظور الحقوق دائما تحديد الالتزامات والمسئوليات. فتبرز التساؤلات حول السياسات والإجراءات ومدى تطبيقها والمساءلة للمسئولين، فى حين أن منظور الاحتياجات لا يرى ذلك.
ــ من منظور الاحتياجات يتوقع فى الغالب أن تكون الناس ممتنة عندما يتم تلبية احتياجاتهم وهو ليس الحال عندما يتم استيفاء حقوق الناس وهو ما يغير الرؤية من حملة من أجل «المحتاجين»، إلى حملة «لدعم المهمشين كبشر متساوين فى جهودهم الرامية للمطالبة بحقوقهم ومعالجة الفقر والمعاناة والظلم فى حياتهم».
وحقوق الإنسان حقوق متكاملة وغير قابلة للتجزئة ومترابطة، أى أن كلها ضرورية لحياة كل إنسان على قدم المساواة.
أنهى كلماتى بأن أقول إن كل أنشطة الجمعيات الأهلية الطوعية فى مصر (48000 ألف) يجب النظر إلى جميع أنشطتها التنموية فى عصرنا الحالى من منظور حقوقى. وعليه من غير المتصور أن يتم تحجيم توجه المتطوعين والعطائين لتكوين الجمعيات الأهلية وشبكاتها بدلا من تعزيزها كما يحدث فى بلدان العالم المتقدمة والنامية للمشاركة فى عملية التنمية المستدامة لمصر بقانون جديد (من وجهة نظرى غير دستورى). ومن يساندون إصدار هذا القانون يقولون بأنه يستهدف فى الأساس ضبط أنشطة الجمعيات الأهلية التى تعمل فى المجال الحقوقى الممولة من الخارج التى أضرت (من وجهة نظر السلطة) وقد تضر مستقبلا بالأمن القومى المصرى، والتى يمكن فى اعتقادى مراقبتها أمنيا ومعاقبتها بالقانون بمثل ما يتم اتخاذه مع جميع الأفراد والشركات والمؤسسات.
--------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، 5-12-2016.