ربما تكون الأوضاع الأمنية والسياسية في العاصمة الليبية طرابلس قد عادت إلى المربع الأول بعد اقتحام مجموعة من الميليشيات المحسوبة على «حكومة الإنقاذ» المنحلة ، مقر المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج التي تكابد على أكثر من جبهة ، لإثبات كفاءتها وقدرتها على مجابهة الوضع الملغوم في ليبيا منذ إطاحة النظام السابق وانزلاق البلاد في المجهول.
العودة القوية للميليشيات المسلحة إلى الساحة مجدداً كثيرة ومعقدة، ومن أسبابها الكبرى تعثر خطط حكومة الوفاق المدعومة من الغرب في تحسين الأوضاع الأمنية ومعالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ، وفشلها في بناء مؤسسات الدولة لا سيما الأجهزة الأمنية والعسكرية، وحتى قوات «البنيان المرصوص» التي تقاتل التنظيمات الإرهابية في سرت ليست قوة نظامية مكتملة بقدر ما هي تحالف من كتائب مسلحة وميليشيات اقتضت مصلحتها المؤقتة أن تتآلف إلى حين من دون أن تكون لها عقيدة مشتركة أو مرجعيات واحدة، ولذلك فعودة الميليشيات إلى الظهور في طرابلس نتيجة طبيعية، لا سيما أن هذا المآل كان متوقعاً ومرهوناً بالانتهاء من معركة سرت التي أوشكت على نهايتها الفعلية. وفي هذا الخضم وجدت حكومة الوفاق نفسها في موقف أضعف مما يفترض أن يكون، فهذه الحكومة لم تكتمل شرعيتها بمنحها الثقة من مجلس النواب المعترف به، بينما تحمل سلطات الشرق ممثلة في الحكومة المؤقتة والجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر رصيداً مقنعاً من الإنجازات الميدانية سواء في إطار مكافحة الإرهاب وضبط الأوضاع الأمنية أو في سياق الإنعاش الاقتصادي ، خصوصاً بعد سيطرة الجيش على الهلال النفطي بوسط البلاد وتسليمه إلى المؤسسة الوطنية للنفط التي بدأت تشرف على عمليات التصدير والاستفادة من الموارد المالية لدعم الموازنة. ويبدو أن هذه النجاحات لم ترق لزعماء «حكومة الإنقاذ» في طرابلس الذين بدأوا يتخوفون من الخروج نهائياً من معادلات البلاد بلا مكاسب، لا سيما أن الجيش الليبي قد أصدر بياناً أكد فيه نيته الزحف إلى طرابلس والسيطرة عليها والقبض على قادة الميليشيات، غرمائه القدامى قبل أن يأتي مجلس الدولة ورئيسه فايز السراج.
ما حدث في طرابلس لا يمكن التقليل من شأنه لأنه يكشف حجم الفوضى وانعدام الأسس لبناء وضع أفضل، فظهور حكومة موازية في طرابلس إلى جانب حكومة السراج يضعف الدعم الدولي الذي تحظى به الثانية ويضرب مصداقيتها، كما أنه تطور يؤشر إلى عودة الصراع بشكل أكبر بين غرب البلاد وشرقها، والأخطر من ذلك أنه يسمح للجماعات الإرهابية التي «هزمت» في سرت من الانتشار مجدداً وفي طرابلس تحديداً، وهذا الاحتمال مرجح بسبب الثغرات الأمنية الكبيرة في تلك المنطقة، فقد سبق لتنظيم «داعش» أن هدد باستباحة طرابلس. وفي ليبيا، مثلما هو الحال في سوريا، من الصعب التمييز بين الإرهابي المسلح وعضو الميليشيا أو «الثائر»، فمن السهل أن يختلط هذا بذاك، ومن السهل أيضاً أن تتخفى المظاهر المسلحة وتعود فجأة عندما يقتضي الأمر، خصوصاً أن أغلبها مرتبط بقوى خارجية تتصارع على أرض ليبيا مثلما تتصارع في بلاد أخرى. وهذه التدخلات الأجنبية تتحمل مسؤولية كبرى عن تدهور ليبيا وعدم قدرتها على النهوض، و«الانقلاب» الذي حدث في طرابلس واحد من هذه التدخلات وسيتضح ذلك ذات يوم.
------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 17-10-2016.