يلاحظ الدبلوماسي الأمريكي المرموق ريتشارد هاس أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، المقررة في شهر نوفمبر 2016، ستجري في خضم "جدال كبير" حول طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية وأهدافها، وأدواتها، وحدود الدور الأمريكي حول العالم. ولا يوجد خلاف بين المشتغلين بالعلاقات الدولية ودارسيها حول وجود هذا "الجدال الكبير"، ليس في الداخل الأمريكي فقط، ولكن حول العالم بأسره. إلا أن ما يذهب إليه هاس في تعريف هذا الجدال يستدعي طرح تساؤلات جوهرية حول مدي صدقيته، وحول ما إذا كانت هناك محاولة لتصدير صورة ذهنية بعينها للأمريكيين وللعالم بشأن هذا الجدال، أم لا، والأهم بشأن مستقبل الدور الأمريكي عالميا.
يري هاس، رئيس مجلس الشئون الخارجية الأمريكي، أحد أبرز مراكز التفكير المعنية بالشئون الدولية في الولايات المتحدة وعبر العالم، أن هذا الجدال الكبير الذي يترافق مع حملة الانتخابات الرئاسية الحالية هو ثاني جدال من هذا النوع يشهده النظام السياسي الأمريكي في ربع القرن الذي أعقب سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991. وبحسب ما أورده هاس في مقال نشره في صحيفة "وول ستريت جورنال"، في 5 أغسطس 2016، فإن الجدال الأول امتد من ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، وصولا إلي ولاية جورج بوش الابن، وكان يتعلق بالمدي المناسب لطموحات الولايات المتحدة العالمية. ودار هذا الجدال، الذي تركز بحسب هاس داخل الدوائر النخبوية لصنع السياسة الخارجية، بين هؤلاء الذين يريدون تعزيز استقرار العالم، وخفض فرص الصراع فيه، وهؤلاء الذين كانوا يسعون إلي نشر المبادئ الليبرالية في البلدان الأخري، آملين نشر الديمقراطية، وخفض معاناة الكثير من البشر، جراء الاستبداد والحروب الأهلية.
أما الجدال الكبير الثاني، الجاري حاليا، فإنه يتركز، بحسب ما يوضح هاس في مقاله الذي حمل عنوان "الإغواء الانعزالي"، حول ما إذا كان يتعين علي الولايات المتحدة المحافظة علي دور القيادة العالمي، الذي نهضت به، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أم لا. ويلفت هاس إلي أن هذا الجدال الثاني، الذي يدور علي مستوي النخب والجماهير في آن واحد بخلاف الجدال الأول، يقسم الفضاء السياسي في الولايات المتحدة بين أصحاب النزعة الدولية من مختلف
الأطياف، والانعزاليين، أو الذين يتبنون رؤي مقاربة تري ضرورة خفض ما يتعين أن تقوم به الولايات المتحدة فيما وراء حدودها إلي أدني حد ممكن. وضع هذا الجدال، والعوامل التي أسهمت في إثارته قضية السياسة الخارجية في مرتبة متقدمة لم تبلغها عادة علي سلم أولويات الناخب الأمريكي، عبر تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية، باستثناء انتخابات عام 2004 التي تصدرت فيها قضيتا الإرهاب والحرب في العراق سلم أولويات الناخب الأمريكي. لكن الفارق في هذه الانتخابات أن ما بات يشغل ذهن المواطن الأمريكي، ويؤثر في خياراته السياسية فيها لم يعد يقتصر علي قضية بعينها من قضايا السياسة الخارجية، ولكن بات يشغله الدور الأمريكي حول العالم في مجمله، خلافا لما كان عليه الحال في انتخابات عام 2004. وبالنظر لما يمكن أن يفضي إليه هذا الجدال من تداعيات لا تقتصر فقط علي مستوي السياسات، ولكن تمتد أيضا إلي التغيير النخبوي علي المستوي القيادي في الولايات المتحدة، فقد بات يحظي باهتمام عالمي النطاق، وباتت مراكز التفكير والنخب السياسية تبحث في الخيارات السياسية المتاحة لها للتأهب لمخرجات هذا الجدال.
في هذا السياق، برز سعي جانب مهم من النخب السياسية الأمريكية، خلال الحملة الانتخابية في عام 2016، من أجل فرض صورة ذهنية بعينها لمضامين هذا الجدال بما يتيح توجيه خيارات الناخب الأمريكي وتأطيرها في بدائل حدية تخدم المصالح الانتخابية للمتنافسين الرئيسيين والنهائيين، الديمقراطية هيلاري كلينتون، والجمهوري دونالد ترامب، ومصالح القوي والتكتلات الداعمة لهما. وفي هذا السياق كذلك، راجت هذه الرؤية التي يقدمها هاس لتوصيف طبيعة هذا الجدال الكبير الذي يدور بشأن السياسة الخارجية الأمريكية بعدّه جدالا بين خيار انعزالي يمثله ترامب، وخيار يسعي للحفاظ علي دور الولايات المتحدة كقائد عالمي، تمثله كلينتون. وأضحت هذه الرؤية موضع توافق واسع النطاق بين النخب والجماهير في الداخل الأمريكي وحول العالم علي السواء، وذلك بغض النظر عن مدي مطابقتها لواقع حال العلاقات الدولية، وموقع السياسة الخارجية الأمريكية فيها، أو مدي مطابقتها للخيارات والقدرات التي يتم تطويرها في إطار عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية والتخطيط لها في الآماد المختلفة، أو حتي مدي مطابقتها لواقع خطابات المرشحين المشار إليهما، والبدائل التي يطرحانها في مجال السياسة الخارجية.
أولا- أساطير "الجدال الكبير" الراهن:
تتضمن الرؤية المشار إليها آنفا، والتي يتم ترويجها حول جدال السياسة الخارجية الأمريكية الراهن، ثلاث أساطير أساسية فيما نري. أولي هذه الأساطير هي أسطورة السياسة الخارجية الرسولية التي تحمل قيم النموذج الأمريكي الليبرالي الديمقراطي التعددي للعالم. أما ثانية هذه الأساطير، فهي أسطورة الانعزالية، وثالثتها: أسطورة القائد العالمي.
وتجد أسطورة السياسة الخارجية الرسولية سندها الفكري في نموذج المحافظة الشتراوسي، الذي تأسس علي دعوة عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكي البارز ليو شتراوس للدفاع عن منظومة القيم التي تمثل جوهر النظام السياسي الأمريكي بعدّها من أهم ركائز القوة الأمريكية وضمانات بقاء الولايات المتحدة الأمريكية. وهي الفكرة التي أعاد إنتاجها فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" الذي زعم فيه انتصار نموذج القيم الأمريكي. ولكن واقع السياسة الخارجية الأمريكية، بالرغم من سعيها الدءوب لانتحال هذا السمت القيمي الرسولي، يكشف عن أنها في ممارساتها الفعلية كانت دوما أبعد ما تكون عن الحفاظ علي هذه القيم، أو الدفاع عنها، بل وانتهاج سياسات تتعارض معها، إذا تعارض الحفاظ علي هذه القيم والترويج لها مع المصالح الأمريكية المباشرة. وقد كُتب الكثير من التحليلات والتقييمات التي تكشف زيف البعد القيمي الرسولي للسياسة الخارجية الأمريكية، والتي يمكنها أن تغني من يبحث حول هذه الأسطورة من أساطير السياسة الخارجية الأمريكية، وحول حقيقة استدعائها في الجدال الراهن.
لكنَّ الأسطورتين الأخريين تبدوان أكثر رسوخا وقبولا علي نطاق واسع، حتي في إطار مجتمع الباحثين والمتخصصين في شئون العلاقات الدولية، وبالمثل في إطار مجتمع الدبلوماسيين العاملين في أجهزة صنع السياسة الخارجية والساسة المعنيين بها حول العالم. وسنعمل فيما يأتي علي تفكيك مقولات الانعزالية، والقيادة الأمريكية للنظام الدولي، وبيان مدي واقعيتهما، وصولا إلي محاولة تبين جوهر التحول الجدلي الذي تشهده السياسة الخارجية الأمريكية بالفعل، ويجري تغييبه خلف أساطير الجدال الكبير الرائج في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016.
1- أسطورة الانعزالية:
تحولات---داخلي-داخلي
يجد التيار التنظيري بين دارسي العلاقات الدولية، الذي يروج فكرة وجود توجهات انعزالية فعلية في السياسة الخارجية الأمريكية، زخمه الأساسي في قراءة انتقائية يقدمها للسياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وتحديدا خلال الفترة التي تمتد من توقيع الولايات المتحدة معاهدة فرساي في 28 يوليو 1919، وحتي إعلانها الحرب علي اليابان قي 8 ديسمبر 1941، عقب يوم واحد من هجوم هذه الأخيرة المفاجئ علي الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور. ويري هذا التيار أن الولايات المتحدة اختارت انتهاج سياسة خارجية واعية ومقصودة ترفض التدخل في التطورات الدولية في هذه المرحلة، والاضطرابات التي تصاعدت في السياسة الأوروبية، وانتهت بتفجر الحرب العالمية الثانية.
ويدلل هذا التيار علي رؤيته تلك بفشل مجلس الشيوخ الأمريكي في التصديق علي معاهدة فرساي، وبالتالي في الانضمام إلي عصبة الأمم المتحدة، وأيضا بإحجام الولايات المتحدة عن التدخل عسكريا في اضطرابات القارة الأوروبية طوال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، وحتي بعد تفجر الحرب العالمية الثانية بعامين تقريبا.
وتعكس هذه الرؤية، مثلما سبقت الإشارة، قراءة انتقائية لمواقف السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقدين المذكورين، فضلا عن قصور مفاهيمي في تقديم تعريف منضبط إجرائيا للانعزالية. وفي معرض بيان هذه الانتقائية، وهذا القصور، يتعين بداية تقديم تعريف إجرائي مبدئي للانعزالية، والذي يمكن إجماله في أن الانعزالية خيار سياسي واع بعدم التدخل غير المشروط من قبل دولة ما في السياسة الدولية. ويمكن تفصيل ذلك إجرائيا في العناصر المعيارية، أو السمات الآتية:
أ- الشمولية: بمعني أن تنصرف الانعزالية إلي مجمل سياسات الدولة وتصرفاتها تجاه العالم، وعدم قصرها علي تصرفات أو إجراءات منتقاة بعينها. بعبارة أخري، يفترض في الانعزالية ألا تكون انتقائية يتم استدعاؤها في موقف، بينما يتم التغاضي عنها في موقف آخر، لأنه في هذه الحالة لا يمكن عدّ المبدأ الحاكم لسياسة الدولة الخارجية هو "اللاتدخل"، بقدر ما أنه "موازنة التدخل" بحسب تكلفته في كل موقف علي حدة.
يرتبط بسمة الشمولية تلك أهمية الوعي بعدم قصر قياس الانعزالية وبيانها علي مجرد الامتناع عن شكل معين من أشكال التدخل في الشئون الدولية، مثل اتخاذ قرار بعدم التدخل العسكري خارج حدود الدولة، علي سبيل المثال، ولكنها تنصرف إلي كل أشكال التدخل وأدواته التي تعكس قدرة الدولة علي ممارسة نفوذ دولي بما يتيح لها التأثير في مجريات الواقع الدولي، واستهداف نتائج معينة من خلال هذا التأثير.
ب- الثبات: بمعتي التقيد بسياسات عدم التدخل لفترة زمنية بعينها، طالت أم قصرت. ولكن لا يمكن عدّ الدولة تتبني سياسة انعزالية، خلال فترة معينة، إن كانت تنتهج سياسات تدخلية في لحظات، ما خلال تلك الفترة، لأن ذلك يردنا بالتبعية إلي منطق "موازنة التدخل"، وليس الامتناع عنه كخيار استراتيجي وحاكم لسياسة الدولة الخارجية. ويرتبط بسمة الثبات سمة أخري ضرورية ولازمة لها، ألا وهي توافق نخبة صنع السياسة الخارجية، خلال فترة زمنية معينة ومتواصلة، علي خيار الانعزالية.
ج- القدرة: بمعني ألا يكون عدم تدخل الدولة نتيجة عجزها عن التأثير، بل نتيجة إرادة حرة حقيقية.
بتطبيق هذه العناصر علي الأدلة التي استند إليها أنصار انعزالية السياسة الخارجية الأمريكية، في فترة ما بين الحربين العالميتين، يتبين تهافت هذا الدعاء، وعدم صدقيته، أو واقعيته. ويمكن تبين ذلك بداية من حقيقة أن فشل مجلس الشيوخ الأمريكي في إقرار معاهدة فرساي لم يكن نتيجة رفض الأغلبية لها، حيث حظيت الاتفاقية، في التصويت الثالث عليها في 19 نوفمبر 1919، بموافقة 49 عضوا من أعضاء المجلس، مقابل معارضة 35، إلا أن إقرارها كان
يشترط أن يكون بأغلبية الثلثين، وهو ما كان يستلزم موافقة 7 أعضاء آخرين فقط. لم تكن الانعزالية بالتالي هي خيار أغلبية المشرعين الأمريكيين في ذلك الوقت، بل العكس هو الصحيح.بالإضافة إلي ذلك، فإن الجزء الأكبر ممن رفضوا إقرار الاتفاقية كان دافعهم الأساسي للرفض هو عدم قبول المعسكر المؤيد للمعاهدة إدخال تعديلات علي بعض بنودها، خاصة المادة العاشرة التي كانت تنص علي منح عصبة الأمم حق اتخاذ قرار الحرب من دون الحاجة لتصويت الكونجرس الأمريكي. بعبارة أخري، لم يكن السؤال الرئيسي في الجدال الذي ثار بشأن إقرار الكونجرس الأمريكي لمعاهدة فرساي، والانضمام لعصبة الأمم في صيف عام 1919وخريفه، يتعلق بـ "ما إذا" كان يتعين علي الولايات المتحدة الانخراط في السياسة الدولية آنذاك، بقدر ما كان يتعلق بـ "كيفية" تحقيق هذا الانخراط. وواقع الحال أن جوهر الجدال الرئيسي كان يقع ما بين خيار السياسة الخارجية أحادية الجانب Unilateralism) ) وخيار سياسة خارجية تعلي من أولوية الالتزامات متعددة الأطراف. (Multilateralism)ويكشف تتبع السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات اللاحقة، حتي نشوب الحرب العالمية الثانية، عن أن الولايات المتحدة لم تنعزل بالفعل عن السياسة الدولية، سواء فيما يتعلق بتأكيد هيمنتها القارية في الأمريكتين، بحسب مبدأ مونرو، أو حتي فيما يتعلق بالعمل علي ضمان استقرار السياسات الأوروبية، وخفض فرص الصراع بين إمبراطوريات القارة العجوز.
وخلال هذه الفترة، حرصت الولايات المتحدة علي المشاركة بشكل منتظم في اجتماعات عصبة الأمم، كما قاد عدد من مشرعيها، الذين عارضوا إقرار معاهدة فرساي، ما عرف بمؤتمر واشنطن البحري في الفترة من نوفمبر 1921 وحتي فبراير 1922، والذي انتهي بتوقيع "اتفاقية القوي الخمس البحرية" بين كل من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واليابان، وفرنسا، وإيطاليا، وهي الاتفاقية الأولي في التاريخ الحديث التي تتضمن إجراءات لضبط التسلح.
إلا أن الأبرز في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا، خلال تلك الفترة وحتي ما قبل أزمة الكساد الكبير، كان اعتمادها بشكل أساسي علي قدراتها المالية، وسياسة إقراض الدول الأوروبية من خلال البنوك الأمريكية بما يضمن استقرار علاقات القوي الأوروبية، وعدم لجوئها لشن حروب ضد بعضها بعضا بهدف تجاوز أزماتها المالية والاقتصادية. بعبارة أخري، فقد اعتمدت الولايات المتحدة علي البنوك، وليس الدبابات، لتعزيز نفوذها الدولي، وبلوغ ما سماه أستاذ التاريخ الدبلوماسي في جامعة واشنطن الأمريكية وارين كوهين "إمبراطورية بلا دموع" . (Empire without tears) خلاصة ما تقدم أن كثيرا من الشواهد الإمبيريقية التاريخية يثبت أن ادعاء انعزالية السياسة الخارجية الأمريكية، خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، لم يكن أكثر من أسطورة.
وترجح شواهد إمبيريقية كثيرة راهنة كذلك أن محاولة استدعاء ادعاء الانعزالية هذه ليست إلا محاولة لإحياء تلك الأسطورة، ومغالطاتها المفاهيمية للتأثير في مواقف الناخبين، ومشاعر الخشية المتعارضة المسيطرة عليهم، سواء خشية البعض من مزيد من التورط الأمريكي خارجيا، مع ما يصاحب ذلك من تفاقم الأعباء، وتزايد التهديدات، أو خشية البعض الآخر من أن الانعزال عن السياسة العالمية سيؤدي إلي إضرار كبير بمصالح الولايات المتحدة حول العالم، دون أن يضمن عدم تفاقم التهديدات الحالية، أو حتي عدم امتدادها إلي الداخل الأمريكي.
وفضلا عن جلاء عدم إمكانية تبني الولايات المتحدة سياسة انعزالية بالمعني السابق بيانه، بالنظر إلي حجم ارتباطها وارتباط مصالحها ببنية النظام العالمي وتطوراته، فإن قراءة خطاب المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي يلصق به ادعاء الانعزالية، تكشف عن أن رؤيته لا تتضمن أيا من المعايير السابق إيضاحها لأي سياسة انعزالية حقيقية. وغاية ما يتجلي من خلاف بين خطابي ترامب وكلينتون إنما يتركز فيما يتعلق بالتغيير المطلوب في السياسة الخارجية الأمريكية، أي أن سؤاله الرئيسي يتمثل، مرة أخري، مثلما كانت عليه الحال، عشية الفشل في إقرار معاهدة فرساي، في ماهية شروط الانخراط في السياسة العالمية، من جهة، وبكيفية تحقيق انخراط كفء وفاعل من جهة أخري. ولا يتعلق هذا الخلاف، بأي حال، بما إذا كان يتعين علي الولايات المتحدة، من الأساس، الانخراط في النظام العالمي، أم لا.
حدود الدور الأمريكي عالميا، وطبيعته، وأدواته، هي بالتالي موضوع الجدال الذي تشهده السياسة الخارجية الأمريكية، منذ التحول الكبير الذي أحدثته في بنية النظام الدولي نهاية الحرب الباردة، وانهيار العالم ثنائي القطبية. وليس الجدال الكبير الراهن سوي إحدي حلقات جدال رئيسي ممتد، حيث إنه لا يتعلق، خلافا لما حاول هاس الإيحاء به، بما إذا كان يتعين وجود هذا الدور الأمريكي العالمي أم لا. وينقلنا ذلك لفحص الأسطورة الثانية من أساطير صورة الجدال التي يتم ترويجها، ألا وهي أسطورة الدور القيادي العالمي الأمريكي.
2- أسطورة القائد العالمي:
تكشف خبرة العلاقات الدولية وتاريخها عن وظيفتين أساسيتين يتعين علي أي قوة دولية النهوض بهما في إطار نظام دولي تستهدف هذه القوة قيادته. ويحدد مدي الوفاء بهاتين الوظيفتين وجود هذا القائد من عدمه. تتمثل الوظيفة الأولي في التشريع، أي تحديد قواعد التفاعلات، في إطار أي نظام دولي، وإطارها الحاكم الذي لا يمكن الخروج عليه. أما الوظيفة الثانية، فهي ضبط تفاعلات النظام الدولي المعني، والسيطرة عليه، وفقا لما تمليه تلك القواعد. وفي ممارسته لوظيفتيه هاتين، فإن القائد الدولي أمامه، نظريا، أحد خيارين يقعان متقابلين علي طرفي خط مستقيم، أولهما أن يلجأ إلي الاعتماد علي قدرته الذاتية المنفردة، ويفرض إرادته وقواعده، وفق منطق الجبر التام. أما ثانيهما، فهو أن يلجأ إلي بناء قواعد توافقية بالاشتراك مع القوي الدولية الأخري وبرضاها، وحينها تصبح قيادته بمنزلة قيادة الأول بين متساوين.
ولا يمكن عبر تاريخ العلاقات الدولية بأسره، قديمه وحديثه، تبين نموذج للقيادة الدولية يجسد وجودا نقيا لأحد هذين الخيارين بشكل صرف. فالخيار الأول، بما يتضمنه من أعباء، وتكلفة، ومعاملات إنهاك واستنزاف، تنوء أي قوة دولية عن تحمله بشكل منفرد، لذا تبحث دوما عن تأسيس ما يتاح لها من تحالفات دولية. بينما يعكس الخيار الثاني أسطورة التوافق الديمقراطي التام، والتي يستحيل تحققها علي صعيد السياسة الداخلية، فضلا عن أن تتحقق في فضاء العلاقات الدولية. وتبقي نماذج القيادة الدولية تنحصر في وسط ثالث بين هذين الخيارين بقدر ما قد يمتلكه القائد الدولي من فائض قوة يعزز فرصه لفرض إرادته جبرا، وبقدر ما يتاح له من قوة قيمية تمكّنه من بناء قدر من التوافق حول القواعد التي يرتئي أنها الأنسب لحفظ استقرار النظام، وضمان مصالحه في آن واحد.
ويبقي، في التحليل الأخير، حقيقة أن القائد الدولي يتعين أن يكون قوة إمبراطورية لها مصالح وطموحات تفرض عليها محاولة السيطرة علي النظام الذي تتحقق فيه هذه المصالح، وتتمثل فيه تلك الطموحات. لكن القوة الإمبراطورية لا يلزم، في المقابل وبالتبعية، أن تكون قائدا دوليا، إن لم تعن بتحقيق هذه السيطرة علي نظامها الدولي، وإنما يتركز سعيها فقط علي تحقيق مصالحها المباشرة، وخفض حجم التهديدات التي قد تطرأ لها. وعلي الرغم من معارضة تيار كبير في الولايات المتحدة وصف سياساتها بالإمبراطورية بالنظر، لأنها لم تمارس سياسات استعمارية وتوسعية بالمعني التقليدي، فإن تيارا آخر مهما يعدّ انتهاج الولايات المتحدة سياسات تستهدف إجبار الدول الأخري علي الخضوع لإرادتها، سواء من خلال أدوات عسكرية، أو اقتصادية، أو حتي ثقافية، ليس إلا ممارسة إمبراطورية.
ومن دون الدخول في جدل صحة توصيف السياسات الأمريكية بالإمبراطورية من عدمه، فإن الولايات المتحدة، في أفضل الأحوال، وحتي نهاية الحرب البادرة، لم تكن إلا قائدا للمعسكر الغربي، دون أن تتمكن من فرض قواعد تفاعلات عامة للنظام الدولي بأسره. ولم تطمح إلي لعب دور قائد النظام العالمي بأسره، فضلا عن أن يتاح لعب مثل هذا الدور، إلا مع نهاية الحرب الباردة، في مطلع تسعينيات القرن العشرين. وليست سيرورة السياسات الأمريكية وتطورها، منذ ذلك التاريخ، إلا تجسيدا لانهيار هذا الطموح، وإخفاقاته، سواء من خلال فشل محاولة تأسيس أسطورة انتصار نموذج قيمي أمريكي عالمي الطابع، أوالسعي لتطوير إدارة متعددة الأطراف للنظام العالمي، في ظل هيمنة أمريكية، خلال ولاية الرئيس بيل كلينتون الأولي، قبل أن يتراجع هو ذاته عن هذا التوجه في ولايته الثانية، ويلجأ إلي تبني سياسات أحادية الجانب في العديد من القضايا الدولية. ولم تكن ولايتا جورج بوش الابن إلا تجسيدا لفشل هذا النهج الأحادي الجانب الذي اعتمد علي بناء تحالفات عسكرية هشة خارج نطاق التنظيم والقانون الدوليين.
ثانيا- الجدال الغائب:
عانت الولايات المتحدة، خلال العقدين الكاملين اللذين أعقبا نهاية الحرب البادرة، تصاعد خمسة تحديات أساسية لمحاولتها تأسيس نموذج للقيادة العالمية، يمكن إجمالها فيما يأتي:
1- فشل الولايات المتحدة في تطوير أدوات تتيح لها قيادة النظام العالمي في ظل قبول القوي الدولية الرئيسية، أو حتي ضمان خضوعها. برز هذا الفشل، من جهة، علي المستوي القيمي/الثقافي، من خلال الرفض المتزايد لما بات يعرف بنموذج الأمركة، وما استتبعه من حركات مقاومة متعددة الأبعاد. وبرز، من جهة ثانية، في فشل النموذج الشبكي الرأسمالي في فرض هيمنة اقتصادية للمركز الأمريكي علي مفاصل النظام الاقتصادي العالمي. بل أضحي هذا النظام الشبكي سببا أساسيا لسرعة انتشار الأزمات الاقتصادية وتفاقمها عبر العالم. ومن جهة ثالثة، فشل نموذج الهندسة السياسية الإقليمية للعالم، الذي أخذ يبرز منذ منتصف عقد التسعينيات، مع تفكك يوغسلافيا، وتمدد حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا، مما أثار مخاوف روسيا، وعزز من فرص صعودها كقوة مناوئة ومراجعة. وتكرس هذا الفشل لاحقا في الشرق الأوسط مع الفشل في إحداث التغيير السياسي المأمول في أفغانستان والعراق. وأخيرا، اتضح فشل نموذج القيادة الأمريكي في عجز فائض القوة العسكرية الأمريكية عن احتواء النزاعات المتصاعدة عبر العالم، وأنماط التهديدات الجديدة من إرهاب وحروب غير متماثلة.
2- صعود قوي عديدة مناوئة ومراجعة عبر مناطق العالم المختلفة، تتحدي القيادة الأمريكية، وتحاول عزل نفوذها عن المجالات الحيوية لتلك القوي. وانخرطت تلك القوي في صراعات استنزاف حادة مع الولايات المتحدة، لم يفض أي منها إلي انهيار أي من تلك القوي بقدر ما أدت إلي تراجع النفوذ الأمريكي. ويبدو مشهد التحدي الأكبر في هذا السياق في توجه بعض تلك القوي لتكوين أطر تعاون فيما بينها لمواجهة النفوذ الأمريكي.
3- تنامي صراعات الهوية التي عززتها السياسة الأمريكية في محاولة لاستنزاف القوي الإقليمية المناوئة والمراجعة، من دون امتلاك القدرة علي فهم ديناميات تلك الصراعات، أو القدرة علي ضبطها، مما أدي إلي أن تداعياتها المختلفة، سواء ما يتعلق منها بانتشار الإرهاب العالمي، بأجياله ومشاريعه المختلفة، أو بتفجر غير قابل للضبط لظاهرة الهجرة غير المشروعة، أضحت خطرا يهدد استقرار النظام العالمي بأسره.
4- امتداد تداعيات هذه الأزمات جميعا بشكل غير مسبوق إلي الداخل الأمريكي، مما بدا في تنامي عدم الرضا الشعبي عن النخب الحاكمة، وتغلغل التطرف في بنية المجتمع الأمريكي، والأخطر تصاعد فكرة تحدي الدولة الأمريكية من قبل مكونات اجتماعية تعاني التهميش في الداخل الأمريكي.
5- تغير أنماط انتشار المصالح الأمريكية حول العالم، مما بات يقتضي تغيير خرائط نفوذها وحضورها الدوليين، والذي كان أبرز تجلياته استراتيجية الاستدارة شرقا التي تبنتها إدارة أوباما، خلال ولايته الأولي، لكنها استحثت معاملات مقاومة من قبل الصين في جنوب شرق آسيا، حيث كانت إدارة أوباما تريد تعزيز النفوذ الأمريكي، ومعاملات إعاقة في الشرق الأوسط الذي لم تمتلك تلك الإدارة رؤية واضحة، فضلا عن أن تكون كفئا، لخفض الانخراط الأمريكي فيه.
في ظل هذه التحديات، لم تكن ولايتا الرئيس باراك أوباما إلا محاولة لخفض أعباء فشل تطوير نموذج للقيادة الأمريكية حول العالم. ومع تعثر محاولات خفض الأعباء تلك، والتي تراوحت، خلال إدارة أوباما الثانية، بين محاولة تأسيس أنظمة أمن إقليمية متعددة الأطراف بهدف خفض عبء مجابهة التحديات الأمنية حول العالم، وعبء مقاومة القوي الإقليمية للحضور الأمريكي، وبين محاولة استنزاف تلك القوي، بحيث لا تتمكن من تعزيز قدراتها ونموها. وطرح هذا التراوح مشكلة مصداقية حقيقية باتت تهدد كل خطط بناء نماذج متعددة الأطراف للإدارة الإقليمية، بقيادة أمريكية، مثلما يبدو بجلاء في الشرق الأوسط، وفي شرق أوروبا، وفي جنوب وجنوب شرق آسيا.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن جوهر الجدل الحقيقي حول السياسة الخارجية الأمريكية، في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وأمام أي إدارة أمريكية، ليس هو، بأي حال، كيفية الاحتفاظ بدور القائد العالمي، بقدر ما أنه، بحسب ما يتبدي من خطابي المرشحين الرئاسيين، كلينتون وترامب، كيفية التراجع إلي حدود دور قوة إمبراطورية لا تُعني إلا بمصالحها المباشرة. ويبدو التحدي الرئيسي أمام أي تراجع من هذا القبيل هو مدي قدرة نخب السياسة الخارجية الأمريكية علي تقبل بناء نظام متعدد الأقطاب، متوازن لقيادة النظام الدولي، أو مواصلة سياسات الاستنزاف الحالية، والتي لا يمكن أن تنبئ إلا بتنامي النزعة المناوئة للحضور الأمريكي حول العالم، وبمزيد من انهيار نفوذ الولايات المتحدة، وتهديد مصالحها المباشرة عالميا. ولعل مآل خلاف كلينتون وترامب حول حدود التعاون الممكن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصين هو الحاسم في تحديد اتجاهات تطور السياسة الخارجية الأمريكية، والتي باتت تبدو مفاضلة بين السيئ والأسوأ.