تشهد الحياة السياسية الأوروبية نموا متصاعدا لأحزاب قومية متطرفة بشكل أثار القلق على مستقبل النموذج الديمقراطي الأوروبي، ليس فقط من حيث القيم والمبادئ الديمقراطية، التي تعد أبرز ملامح تلك القارة العجوز، بل أيضا من حيث التكامل بين دول الاتحاد، والذي أضحي مهددا تحت وطأة دعوات هذه الأحزاب الدائمة إلى ضرورة تفكيك الاتحاد، والخروج من منطقة اليورو.
وقد طرح ذلك التصاعد الملحوظ للأحزاب القومية تساؤلات حول طبيعة أفكارها، وتوجهاتها، وهل تمثل انعكاسا لواقع المجتمعات الأوروبية، واستجابة طبيعية لتطوراته، أم أن أفكارها ظهرت أولا، ثم تمت الاستجابة لها من جانب الأوروبيين؟ وما العوامل التي ساعدت على ظهور اليمين بهذه السرعة والقوة؟ وما تداعيات تلك الأفكار على النموذج الأوروبي الديمقراطي التكاملي في ظل السبل التي اتبعتها بعض الدول الأوروبية لمواجهته؟
تتباين توجهات وأفكار هذه الأحزاب في أوروبا نظرا لاختلاف البيئة، والسياق الثقافي، والسياسي، والاجتماعي الذي نشأت فيه تلك الأفكار. يكمن التباين بالأساس في مدي ودرجة حدة التطرف من دولة إلى أخري، ومدي إسهام البيئة في تعزيز تلك التوجهات.
بيد أنه يمكن رصد بعض الملامح العامة على أفكار وتوجهات الأحزاب القومية بشكل عام في أوروبا. ولعل أبرزها ما يأتي:
- العداء للمهاجرين والسعي للحد من الهجرة، بدعوي أن هؤلاء المهاجرين يهددون القومية الأوروبية، من خلال أسلمة أوروبا، بما يهدد الأفكار الأوروبية القائمة على العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، بالإضافة إلى أنهم يسيئون استغلال مزايا دولة الرفاه (كبرامج الإعانة وغيرها)، طبقا للفكر اليميني.
- الدعوة لاستخدام العنف والتدخل القسري للحفاظ على التقاليد، وحماية الأعراف والقيم داخل المجتمعات الأوروبية.
- العداء لفكرة الاندماج الأوروبي، والدعوة لتفكيك الاتحاد الأوروبي، والخروج من منطقة اليورو، لما لذلك من تأثير اقتصادي وأمني سلبي في دول الاتحاد، وتقليص الضرائب، ورفض التقشف، وتشديد عقوبات الجرائم، وعدم الاكتراث بالقضايا البيئية.
أولا - شواهد الصعود وأسبابه:
يتمثل أبرز ملامح صعود الأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة التي تمت على مستوى معظم دول الاتحاد، مثل السويد، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والنمسا، وهولندا، وسويسرا، والدنمارك، والتي حققت فيها هذه الأحزاب تقدما ملحوظا يوضح مدي تأثير سياساتها وأفكارها في المواطنين الأوروبيين.
ففي النمسا، التي كانت النموذج الأبرز والأكثر جدلا في هذا الإطار، كانت الانتخابات الرئاسية مثالا على ذلك الصعود البارز لليمين المتطرف. إذ تصدر نوربرت هوفر، مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف، الجولة الأولي للانتخابات الرئاسية في أبريل 2016 بحصوله على 36.4 من الأصوات. وبالرغم من أنه خسر في جولة الإعادة التي جرت في مايو 2016 أمام مرشح حزب الخضر فان دير بيلين، فإن خسارته كانت بفارق ضئيل لم يتجاوز بضعة آلاف من الأصوات.
وفي ألمانيا، برز حزب "البديل من أجل ألمانيا"مع الانتخابات الإقليمية التي عقدت في مارس 2016، ضمن ثلاث ولايات، وأسفرت عن فوز هذا الحزب، الذي تم تأسيسه في عام 2013، بنحو 12.5 من الأصوات في ولاية "راينلاند بالاتينات"، و15 في "بادن فورتمبيرج"، و24 في ولاية "سكسونيا أنهالت"(4). وهي النتائج التي تؤهله، أي الحزب، لممارسة دور قوي في السياسات التشريعية الألمانية. ومع تطور الأحداث مستقبلا، قد يحصل الحزب على أصوات أكثر بما يؤهله لتشكيل الحكومة الألمانية، وتغيير سياساتها العامة، سواء فيما يتعلق بالهجرة واللاجئين، أو ما يرتبط بالاندماج والتكامل الأوروبي.
وفي فرنسا، أحكم حزب "الجبهة الوطنية" سيطرته على 11 مجلسا محليا في الانتخابات المحلية التي أجريت العام الماضي. كما يشغل مقعدين في مجلس الشوري الفرنسي، وحصل على 25 من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2016، كما حصل على 27 من الأصوات في الانتخابات البرلمانية التي عقدت في ديسمبر 2015، ومن المتوقع مشاركة مارين لوبان في الانتخابات المزمع عقدها في2017.
في بريطانيا، حقق "حزب الاستقلال" انتصارات مشابهة بتفوقه في الانتخابات المحلية الأخيرة، ودخوله مجلس العموم لأول مرة. وتحقق الأمر نفسه مع "الحزب الديمقراطي" في السويد في الانتخابات التي أجريت في سبتمبر 2014 بإحرازه 13 من الأصوات. كما تقدم "حزب الشعب" في الدنمارك قائمة الأحزاب السياسية في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2016.
ثمة عوامل عديدة تكمن وراء صعود هذه الأحزاب في السنوات الأخيرة في أوروبا، بعضها يرتبط بالتطورات الداخلية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية داخل الدول الأوروبية، وبعضها الآخر يرتبط بالتطورات الخارجية التي أصبحت القارة الأوروبية في القلب منها. ومن أبرز تلك العوامل ما يأتي:
1- انتشار معدلات البطالة بشكل غير مسبوق في الدول الأوروبية، وتراجع مزايا دولة الرفاه التي تقدمها المجتمعات الأوروبية، حيث سجل الاتحاد الأوروبي في نهاية 2014 معدلات نمو اقتصادي لم تتجاوز 1.3 في دول الاتحاد، و0.8 بدول منطقة اليورو. من ناحية أخري، بلغ معدل البطالة الإجمالي في الاتحاد الأوروبي 9.4 في عام 2015، في حين أنه قبيل الأزمة المالية العالمية في 2008 كان يمثل 7 فقط. وفي حقيقة الأمر، فإن البطالة تفوق ذلك المتوسط في العديد من البلدان الأوروبية. إلا أن الاقتصاد الألماني، بحجم قوته العاملة، ومعدل بطالته المتدني عند 4.6 فقط في 2015، هو الذي رفع ذلك المتوسط الإجمالي. ففي 2015، بلغ معدل البطالة في فرنسا 10.4، وإيطاليا 11.6، وإسبانيا 22.1، واليونان 24.9، والبرتغال 12.6، وهي جميعها معدلات تفوق معدلات ما قبل الأزمة، وبأكثر من الضعف في بعض الحالات.
2- تزايد الهجرة للدول الأوروبية عقب ثورات الربيع العربي، وخصوصا في السنوات الأخيرة بمعدلات غير مسبوقة، فقد وصل عدد الواصلين إلى أوروبا عبر البحر بشكل غير شرعي في عام 2015 إلى 924.147 ألف، فضلا عن أن عدد طلبات اللجوء المقدمة لدول الاتحاد الأوروبي قد بلغت في العام نفسه ما يقرب من مليون و322 ألف طلب، منها ما يقرب من 500 ألف طلب لجوء لألمانيا وحدها.
والدليل على التزايد الملحوظ والمطرد في أعداد المهاجرين، خصوصا غير الشرعيين لأوروبا في السنوات الأخيرة، ما أعلنته المنظمة الأوروبية لمراقبة الحدود (فرونتكس)، التابعة للاتحاد الأوروبي، من أن عدد المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا ارتفع من نحو 100 ألف مهاجر غير شرعي خلال عام 2013 إلى قرابة 274 ألفا في عام 2014، كما زاد ذلك الرقم بنسبة 250 خلال شهري يناير وفبراير 2015، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2014. كما أنه منذ بداية عام 2016، وصل ما يقرب من 136 ألف مهاجر غير شرعي إلى أوروبا عن طريق البحر فقط.
وقد أسهمت زيادة معدلات الهجرة الوافدة في دعم مخاوف التحول الديموجرافي في أوروبا لمصلحة الجاليات المسلمة. فوفقا لإحصاءات صدرت عن مركز بيو الأمريكي للأبحاث، فإن الإسلام يعد الدين الأسرع نموا في القارة الأوروبية، حيث بلغ تعداد المسلمين في أوروبا عام 2010، مع استثناء تركيا، نحو 44 مليون نسمة. ويلاحظ أنه رغم عدم تجاوز نسبة المسلمين من إجمالي تعداد السكان في أوروبا نسبة 4، فإنهم بارزون ديموجرافيا في المدن الأوروبية الكبري، مثل باريس، بنسبة تتجاوز 10، وفي ستوكهولم، بنسبة 20، وفي برمنجهام البريطانية بنسبة 22.
3- ضعف خطط الإصلاح والتقشف الاقتصادي التي اتبعتها الحكومات الأوروبية، خلال السنوات الماضية، والتي نتج عنها تراجع في النمو العام للاقتصاد الإجمالي لأوروبا، وتراجع أكبر لكل دولة على حدة، فضلا عن اتساع الفجوة بين الدول الأوروبية نفسها من حيث النمو الاقتصادي.
4- تزايد الأحداث الإرهابية الأخيرة والتي جري ربطها بالمهاجرين المسلمين، سواء أحداث باريس، أو بروكسل، أو نيس، أو غيرها. وقد أسهمت في تدعيم الأفكار اليمينية المتطرفة الداعية إلى رفض المهاجرين بشكل عام والمسلمين بشكل خاص لما لهم من تأثير سلبي في أمن واستقرار المجتمعات الأوروبية، ليس فقط من الناحية الأمنية، بل أيضا من الناحية الاقتصادية، خاصة في ظل تراجع المستوى الاقتصادي العام.
وقد ساعدت كل تلك العوامل وغيرها في إعطاء قوة للخطاب الشعبوي المتطرف، خاصة في ظل رفضه لاستقبال المهاجرين، والدعوة لتفكيك الاتحاد الأوروبي، خاصة أن الأحزاب اليمينية لم تحقق تقدما ملموسا جراء ذلك التكامل. بل إن الوضع الاقتصادي زاد سوءا، وارتفعت نسب البطالة بشكل غير مسبوق في ظل معدلات نمو بطيئة.
أيضا، استغلت هذه الأحزاب تلك الأمور لانتقاد النخب والسياسيين، واتهامهم بالفشل في إدارة الدول، علما بأنهم لم يقدموا برامج إصلاح اقتصادي أو سياسي بديلة، مكتفين بالشعارات العامة المرفوعة، التي تتسم بالشعبوية، وتلعب على تأجيج مشاعر الأوروبيين من ناحية الاعتزاز بالقومية الخاصة، وتأكيد تخوفات التحول الديموجرافي، وانتشار الإسلام في أوروبا.
ثانيا - التطرف القومي ليس كتلة واحدة:
من المضلل وضع التطرف القومي في أوروبا كله في سلة واحدة، حتي وإن كانت توجهاته متشابهة فيما يتعلق بالهجرة، أو التكامل، أو الوظائف، أو حتي رد فعله على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها أوروبا خلال الفترة الماضية، وذلك لأن جذور الأيديولوجية مختلفة عن بعضها من المناهضة لتأسيس الاتحاد إلى الفاشية الجديدة، ومن القومية إلى مكافحة التقشف، ومن الاستبدادية إلى الشعبوية، ومن التحررية إلى الكاثوليكية المحافظة للغاية.
كذلك، تختلف "الوكالة الفرنسية للتنمية AFD" عن "التحالف المدني المجري Fidesz". كما يعادي كل من حزب الفنلنديين وحزب الشعب الدنماركي حزب الجبهة الفرنسية. وحزب الحرية الهولندي لا يقارن بحزب القانون والعدالة البولندي، والذي لا يوجد أي تشابه بينه وبين حزب الحرية النمساوي.
في عام 2011، صدر تقرير من مؤسسة "فريدريك إيبرت" الألمانية بعنوان: "التعصب والتحامل والتمييز .. التقرير الأوروبي" لدراسة درجات التعصب والتمييز في ثماني دول أوروبية هي: ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وبولندا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، والمجر. وقد توصل التقرير في نتائج المسح، الذي قام به على مواطني تلك الدول، إلى أن التعصب يصل إلى أعلاه في المجر وبولندا، فيما يكون أضعف في هولندا. كما توصل المسح كذلك إلى أن ما يقرب من نصف الأوروبيين يؤمنون بأن هناك الكثير من المهاجرين في بلادهم. كما يعتقد نحو 17 في هولندا، مقارنة بـ 70 في بولندا، في أن اليهود يسعون دوما لاستغلال المعاناة التي تعرضوا لها أيام الحكم النازي لتبرير تصرفاتهم. وأكثر من نصف الأوروبيين في الدول الثماني يرون أن الإسلام دين غير متسامح.
ظهرت تلك النتائج قبل تزايد موجات الهجرة والنزوح من مناطق النزاعات في الشرق الأوسط إلى أوروبا، وهو يبرهن على أن مكون العنصرية أصيل في الفكر الأوروبي، وليس منفصلا عنه تماما، وإن كانت درجته أقل وقتها. ومن ثم، حينما تنامي التطرف القومي، وتم تنظيمه من خلال أحزاب سياسية، كانت الاستجابة سريعة لها، بل وزاد الدعم لها في ضوء الأحداث الإرهابية، وما آلت إليه دولة الرفاه الأوروبية من تراجع أثر في أفكار وتوجهات المواطنين، وجعلهم يعيدون النظر، لا في سياساتهم، ونخبهم فقط، بل أيضا في النموذج الديمقراطي الغربي بالكامل، وما سيئول إليه خاصة وهم تحت تأثير الخطابات الشعبوية المتكررة، التي وجدت التطورات الأخيرة أرضا خصبة لنمو أفكارها وازدهارها.
ووصل الأمر إلى أن الدولة التي يمكن عدّها مثالا على النموذج الديمقراطي الأوروبي، وهي سويسرا، صعدت فيها الأفكار المتطرفة بشكل لافت، خاصة بعد الاستفتاء الذي تم إجراؤه في نوفمبر 2009 حول حظر بناء مآذن جديدة في سويسرا، والذي جاءت نتيجته مؤيدة لهذا الحظر، بنسبة 57.5. وهو ما يسئ إلى مدي تغلغل الاستراتيجيات الفكرية اليمينية المتطرفة داخل أعتق الدول الديمقراطية الأوروبية وما تبعها بطبيعة الحال في الدول الأخري.
ثالثا - تداعيات التطرف القومي في أوروبا:
يبدو جليا أن الفكر القومي المتطرف يتقدم بثبات وثقة داخل المجتمعات الأوروبية، بل ومن المتوقع أن يحقق نجاحات ومكاسب كبيرة في القارة الأوروبية في العام القادم، خاصة الانتخابات الفرنسية القادمة، في ظل تقدم ماري لوبان في استطلاعات الرأي بشكل ملحوظ.
جدير بالذكر في هذا السياق أن الجهود التي تبذلها النخب الأوروبية الحاكمة، والأحزاب الديمقراطية التقليدية في مواجهة الفكر المتطرف، لاتزال محدودة ومقصورة على تجاهل تلك الأحزاب، أو انتقاد أفكارها بعموميتها المفرطة، والعمل على الترويج لفكرة عدم امتلاك تلك الأحزاب لرؤية حقيقية للإصلاح الاقتصادي والسياسي لأوروبا. ولأن النخب والأحزاب التقليدية لا تقدم البديل، ولا تطرح حلولا لتردي الأوضاع الاقتصادية الأوروبية، فإن خطابها المضاد يظهر ضعيفا في مواجهة الأفكار المتطرفة. وهي تعتمد على وعي الناخب الأوروبي، وفهمه للديمقراطية والليبرالية والتكامل بشكل كامل. وكان استفتاء خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي رسالة، مفادها فشل ذلك الرهان، وأن القارة الأوروبية مقبلة على مرحلة غير واضحة المعالم قد تغير ملامحها تماما.
وقد بدأت بالفعل تأثيرات صعود التطرف القومي في الظهور، حيث لم تتوقف النزعة المتطرفة على المستوي الحزبي الرسمي، بل شملت أيضا المستوي الشعبي. ومن أبرز تجليات ذلك ظهور حركة Pegida المناهضة للهجرة وللوجود الإسلامي، ليس في ألمانيا فقط، بل في أوروبا بأكملها، لما تعدّه اعتداء على الهوية الثقافية الأوروبية، إضافة إلى الهويات القومية. وقد استطاعت تلك الحركة تنظيم مظاهرات أسبوعية لرفض وجود الجاليات المسلمة في أوروبا، واستطاعت الوصول بعدد المتظاهرين إلى 18 ألف شخص.
في السياق ذاته، برز العديد من مظاهر الاستقطاب في المجتمعات الأوروبية ضد المسلمين بشكل خاص، فتعددت حوادث إضرام النار في مساجد السويد، مع كتابة شعارات عنصرية، في ظل ارتفاع الجرائم في بعض الدول، والتي يتهم فيها المسلمون. كما أعلن بعض المصادر في الحكومة النمساوية أن وزيرة الداخلية، مع نحو 50 سياسيا آخر من الائتلاف الحاكم وحزب الخضر المعارض، تلقوا تهديدات بالقتل لسماحهم باستقبال لاجئين في البلاد وسط نقاش محتدم بشأن حقوق وواجبات المسلمين والمهاجرين في المجتمع ذي الأغلبية الكاثوليكية.
وفي ظل ذلك الزخم من الأحداث المتتالية، وفي ضوء التطورات المتلاحقة على القارة الأوروبية، ونظرا لاستغلال الأحزاب المتطرفة لكل تلك الأحداث والتطورات لترسيخ دعائم وجوده في الداخل الأوروبي، ثمة سيناريوهان يحددان مصير القارة الأوروبية، خلال السنوات القادمة، وهما:
السيناريو الأول: وصول الأحزاب المتطرفة إلى الحكم في الدول الأوروبية التي سيشهد أغلبها انتخابات برلمانية في عام 2017. وقد بدأت بوادر هذا الأمر تظهر فيما حققه "الحزب الشعبي" اليميني في إسبانيا في نهاية يونيو 2016، حيث استطاع الفوز بالأكثرية (بواقع 137 مقعدا من 350) في الانتخابات البرلمانية. وهو الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء المؤقت في البلاد ماريانو راجوي. ومن المتوقع أن يزداد هذا السيناريو ترجيحا بعد الانتخابات الفرنسية القادمة، وما قد يعقبها من انتخابات في ألمانيا، والنرويج، والسويد، وغيرها.
ومن شأن وصول الأحزاب المتطرفة إلى السلطة في أوروبا، أن يغير ملامح وسمات القارة الأوروبية التي اكتسبتها على مر السنوات، منذ نهاية الحرب الباردة، بحيث ستبدأ أفكار التكامل الأوروبي في التلاشي تدريجيا، وسيتهدد الاتحاد بالانهيار القوي خلال سنوات قليلة، خاصة أن معظم قوي اليمين في أوروبا كان مؤيدا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل ودعا لاستفتاءات مماثلة في بلاده للخروج من الاتحاد.
من ناحية أخري، ستبدأ أفكار التحرر والديمقراطية في التراجع، وستسود أفكار التحيز، والعنف، وغلق الحدود أمام اللاجئين. بل وستلقي مثل تلك السياسات تأييدا كبيرا إذا تزامنت مع إصلاحات اقتصادية تزيد من ثقة المواطن الأوروبي في قرارات تلك الأحزاب واختياراتها.
السيناريو الثاني: تراجع الأحزاب المتطرفة، وتفوق الأحزاب والجماعات التقليدية المعتدلة، بحيث لا تحصل الأحزاب المتطرفة على نسبة أصوات مرتفعة داخل البرلمانات الأوروبية بما يقيد إمكانياتها لتشكيل الحكومات مستقبلا، في ظل سيادة الأحزاب المعتدلة، وتقديمها لرؤي وإصلاحات اقتصادية تزيد من معدلات النمو الداخلية، وتسهم في رفع الأداء الاقتصادي، ومن ثم السياسي للدولة. ولعل المؤشر المبدئي على ذلك أنه لا يزال هناك 63 من الفرنسيين لا يؤيدون الجبهة الوطنية بقيادة لوبان، بحسب استطلاعات الرأي. وبالمثل يؤكد ساسة سويديون أن 87 من السويديين لم يصوتوا لحزب "ديمقراطيي السويد" اليميني المتطرف.
ثمة احتمال وسيط يقع بين السيناريوهين السابقين، هو أن تصعد الأحزاب المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية مقابل تراجعها ولو بنسبة أقل (بحيث لا يمكنها تشكيل الحكومة) في دول أخري. الدول المرشحة لصعود الأحزاب اليمينية فيها هي دول شرق وجنوب أوروبا، مثل بولندا، والمجر، وبلغاريا، وإسبانيا، وإيطاليا، مع استثناء مؤقت لسويسرا، فيما يقل صعود اليمين بنسب أضعف في دول شمال وغرب أوروبا، مثل السويد والدنمارك، والنرويج، وألمانيا، وهولندا، باستثناء بسيط أيضا لفرنسا وبريطانيا، نظرا لتطور دور اليمين بقوة فيهما.
وفي كل الاحتمالات السابقة، يظل الاتحاد الأوروبي برمته مهددا في المستقبل، لأن التطورات المتلاحقة التي يتعرض لها تسهم بقوة في تأجيج تلك النزعات الانفصالية داخل الدول. وتجد خطابات اليمين المتطرف صداها في الشارع الأوروبي، بما يحتم على الساسة وصناع القرار الأوروبيين ضرورة إيجاد مخرج سياسي فعال من حالة الاستقطاب الداخلية في بلادهم، والعمل على خطط إصلاحية جادة تعرقل نمو تلك الأفكار، وتعزز ثقة المواطنين في النموذج الأوروبي.