للأمريكيين فى كتابة التواريخ تقليد، لا أعرف ما إذا كانت دولة أخرى فى الدنيا كلها تشاركهم فيه، وهو أنهم عندما يكتبون تاريخ أمر لا يبدأون باليوم وإنما بالشهر، ويعقبونه باليوم، ثم السنة. وهكذا، عندما وقعت الواقعة الأشهر فى تاريخهم المعاصر فى الشهر التاسع من السنة، وفى اليوم الحادى عشر من الشهر، فإن الهجوم بطائرات مدنية على برجى مركز التجارة العالمى فى مدينة نيويورك، والبنتاجون مقر وزارة الدفاع فى فرجينيا، وفى حقل قرب مدينة شانكسفيل فى ولاية بنسلفانيا، أصبح مؤرخا 11/9، الذى يماثل رقم الطوارئ الأمريكى الشهير 911. كان ذلك هو العنوان الذى اختارته صحيفة «نيويورك تايمز» لذلك اليوم المشهود بحالة طارئة عنيفة هزت أرجاء الدولة الأمريكية حتى الأعماق. فقد كان أول هجوم على الأرض الأمريكية ذاتها لأكثر من مائتى عام، خاضت فيها أمريكا حربين عالميتين كاملتين ولم تصب أراضيها بخدش. هذه المرة فإن الهجوم تم على أشهر مدنها، وعلى وزارة دفاعها، وكان ممكناً أن يكون البيت الأبيض أو الكونجرس هو الهدف الثالث، لولا أن قام ركاب الطائرة بإحباطه.
كانت خسائر ذلك اليوم منذ عقد ونصف فادحة حينما خسرت أمريكا قرابة ثلاثة آلاف قتيل، وستة آلاف جريح، وقرابة ثلاثة تريليونات من الدولارات تكلفةً للخسائر المباشرة وغير المباشرة. وللحق فربما لن يمكن أبدا حساب خسائر ذلك اليوم، لأن ما نتج عنها من حروب فى أفغانستان والعراق ومن تكاليف أمنية مستمرة لحماية الموانئ والمطارات والسفن والطائرات والطرق والبضائع والسلع من هجمات إرهابية أو بيولوجية أو مشعة لن يمكن حساب تكلفتها الكلية، ولا تكلفة الفرصة البديلة لاستخدام هذه النفقات فى أمور أخرى أكثر أهمية للبشر. كل هذه التكاليف ربما قدمت حماية لأمريكا من المتطرفين والإرهابيين على شاكلة ١٩ عربيا قادهم المصرى محمد عطا؛ ولكنها لم تنجح مع الظاهرة الجديدة للذئاب المنفردة التى قامت بهجمات على سباق ماراثون الجرى فى مدينة بوسطن، والعاملين والمرضى فى عيادة طبية عسكرية فى مدينة فورتهود، وعلى الموظفين فى الإدارة المحلية فى مدينة سان برناردينو، وعلى الساهرين فى أحد الملاهى فى مدينة أورلاندو. وبينما خسرت أمريكا العشرات من القتلى، فإن المسلمين الأمريكيين خسروا خسارة كبيرة، وبعد أن كان مشهوداً لهم بالتسامح والنظافة ومقاومة المخدرات، فإنهم باتوا مصدراً للقلق، لا أحد يعرف متى سيتحول المسالم إلى قنبلة متفجرة تقتل نفسها ومن حولها عشرات أيضا؟.
العجيب أن الخاسر الأكبر مما حدث فى ذلك اليوم الأغبر كان الإسلام والمسلمين أنفسهم؛ فحتى وقوع الواقعة كان الإسلام أكثر ديانات العالم زيادة فى عدد المنتمين إليها. ولم تكن أمريكا التى يقال إن بها أكثر من ٣٨ ألف كنيسة ومعبد ومذهب استثناء من هذه القاعدة؛ ولكن ما جرى أدى إلى التراجع، خاصة أن العالم كله بدأ يعانى من الإرهاب، وبعد أن كان الإرهابيون يمثلون تنظيما واحدا هو «القاعدة»، فإن التنظيمات تعددت وتنوعت حتى وصلت إلى «داعش». وزاد التطرف بين المسلمين، ومعه تراجعت النزعات الوطنية للمتطرفين، وحلت محلها نزعات أممية، لا تجد مشكلة ولا ذنباً فى قتل النفس التى حرم الله قتلها، وفيهم شركاء فى الوطن وجيرة فى الحى. العجب الأكبر أن المسلمين ذاتهم شكلوا أكثر من ٩٥٪ من الضحايا، ومعهم ضاعت بلدان عربية وإسلامية، وبكل المقاييس كانت الخسائر فادحة، تجاوزت المليون قتيل، وثلاثة ملايين من الجرحى، و١٤ مليوناً من اللاجئين والنازحين. وفوق كل ذلك، جرى الشرخ الأعظم ما بين السنة والشيعة، والعرب والأكراد، وفى داخل كل منهم ما بين المتطرفين والأكثر تطرفا. وفى الوقت الذى أصبحت فيه أمريكا أكثر أمناً، وباتت الذكرى ممثلة فى برج للحرية حل محل مركز التجارة العالمى الذى انهار، فإن الخسارة، وبشكل يومى، باتت تتفاقم لدى آخرين.
فالحقيقة أن تاريخ الحادى عشر من سبتمبر لم يعد يخص أمريكا وحدها بل العالم كله، لأن حرباً عالمية ثالثة نشبت واستمرت عقداً ونصف العقد، أى أكثر من الحربين العالميتين السابقتين، ولا أحد يعرف متى تنتهى. والظن أنها لن تصل إلى نهاية حتى يتولاها المسلمون أنفسهم، فقد اختطف المتعصبون والإرهابيون الدين الإسلامى، وراحوا يشنون به حرباً على البشرية جمعاء، مستغلين الانكشاف الأمنى للعالم المعاصر القائم على الثقة والأخوة بين البشر. فوسط المدن المزدحمة، والمطارات التى تتواجد فيها كل الجنسيات، والأسواق الكبرى متعددة ألوان البشر، فإن الإرهاب لا يجد معضلة فى قتل العشرات والمئات، والأهم بالنسبة له إيقاف دورة الحياة عن دورانها المعتاد. وللحق فإن الرئيس عبدالفتاح السيسى فتح الموضوع على مصراعيه مطالبا رجال الدين بالمراجعة بحثاً عن الأسباب التى أدت إلى اختطاف دين. ولكن ورغم إعلانات كثيرة ورمزيات أكثر، فإن السباق بين المنظمات الإرهابية من ناحية، والعقلاء والمعتدلين من ناحية أخرى، لايزال لصالح الجماعة الأولى. صحيح أن المجتمع الدولى يقود معركة كبيرة لإسقاط «دولة الخلافة» المزعومة، ولكن سقوط الدولة لا يعنى انتهاء الخطر؛ فالمسألة كلها كامنة فى القلوب والعقول، وكسبها سوف يحتاج ما هو أكثر من الجهود المبذولة حاليا.
-----------------
* نقلا عن المصري اليوم، 17-9-2016