رغم الانتقادات العديدة التي كانت توجه لاتفاق "سايكس-بيكو"، الذي قسم العالم العربي إلي مناطق النفوذ بين القوي الكبري آنذاك، بريطانيا وفرنسا، فإن هذا الاتفاق صار هو الأساس القانوني لحدود هذه الدول، بل صارت الدول تدافع عنه، وربما اقترب الوقت الذي يصبح المأمول فيه للعرب هو استمرار نظام "سايكس-بيكو" القديم، ترقبا وقلقا من اتفاق جديد علي شاكلة "سايكس-بيكو"، تكون فيه الدول العربية عرضة لتقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ.
لقد شكل اتفاق سايكس-بيكو في عام 1916 طعنة للتطلعات العربية نحو إقامة دولة عربية واحدة، أو خلافة عربية إسلامية، علي نحو ما كان يأمل الشريف حسين بن علي، أمير مكة، الذي تزعم الثورة العربية علي الخلافة العثمانية، بمباركة ووعود إنجليزية، في أن يصبح ملكا لآسيا العربية كاملة. وما إن تحققت أهدافهما بهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولي، تم تقسيم الشام بين نفوذ الدولتين فرنسا وبريطانيا، وتم تمهيد الطريق لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عن طريق وعد بلفور 1917. والغريب أن الشريف حسين ظل علي تحالفه مع الإنجليز حتي بعد اكتشاف مؤامرتهم عن طريق الثورة البلشفية في روسيا عام 1917.
ولكن ماذا لو كانت بريطانيا صدقت في وعودها للشريف حسين؟ هل كان ممكنا قيام دولة عربية كبري في المشرق العربي والحجاز يمكنها من التوحد مع جناح الأمة الآخر في المغرب العربي؟
ماذا لو لم يقع الشريف حسين في الخديعة البريطانية، ورفض الخروج علي سلطان المسلمين العثماني؟ هل كان ممكنا استمرار الدول العربية تحت عباءة الخليفة العثماني في دولة إسلامية واحدة؟
أيا كانت الإجابة، فإن العبرة بالنتيجة. فالحقيقة أن القوي العظمي آنذاك قد تآمرت علي الشريف حسين، واعدين إياه بنقل الخلافة إلي العرب، في حال إعلانه الانفصال عن الخلافة الإسلامية العثمانية، التي سرعان ما سقطت رسميا عام 1924. وهذه القوي التي فعلت ذلك لم تكن لتسمح بقيام الدولة العربية الواحدة لأسباب عدة، أولها أنها ما كانت تسعي للإجهاز علي الرجل المريض "السلطنة العثمانية" التي أزعجت أوروبا لقرون، حتي تسمح بقيام عملاق بديل بزعامة العرب. كما أن قيام دولة عربية كبري ما كانت لتسمح بقيام دولة إسرئيل علي الأراضي العربية. كما أن ذلك كان يتناقض مع استراتيجية التوسع والاحتلال التي كانت تمارسها الدول الاستعمارية الكبري آنذاك، فمعظم العالم العربي كان واقعا فعليا تحت الاحتلال.
ومن سايكس-بيكو 1916 لسايكس-بيكو المحتملة 2016، أو ما يليها من سنوات، فقد تجذرت روح القطرية الوطنية علي حساب القومية العربية، ثم تجذرت الانتماءات الطائفية، والعرقية، بل والمذهبية، في العديد من الدول، وفشلت محاولات التوحد العربي البسيطة والاستثنائية، مثل الوحدة المصرية - السورية، بل منيت الأمة العربية بالعديد من الانكسارات، وحققت بعض الانتصارات الاستثنائية والرمزية، وظل الحفاظ علي سيادة ووحدة الدولة الوطنية العربية مبدأ رصينا من مبادئ وأهداف جامعة الدول العربية. لكن هذا الهدف يبدو أن الجامعة العربية ستتخلي عنه قريبا، فما أشبه الليلة بالبارحة، فالعالم العربي أصبح عاجزا عن إدارة ملفاته، بل أصبحت العديد من الدول العربية مهيأة لسيناريو التقسيم من جديد علي أسس طائفية وعرقية، وليس علي أسس وطنية، سواء كا ن ذلك في سوريا، أو العراق، أو ليبيا، أو اليمن. وإذا نجح سيناريو التقسيم في أي من هذه الدول، فإن العقد سوف ينفرط. حتي الدول المستقرة يقال إن هناك خططا دولية لتقسيمها أيضا. وفشلت النخب العربية الحاكمة في تحقيق مشروعها الوطني علي مستوي التنمية الاقتصادية والسياسية، بل عجزت عن الاستجابة لتطلعات الشعوب العربية نحو الديمقراطية والحرية، وسيطرت المصالح الفئوية، والعرقية، والمذهبية الضيقة علي المصالح العليا للأوطان، وتحولت هذه الدول إلي كيانات هشة غير قادرة علي بسط نفوذها وسيادتها علي كامل ترابها، في ظل سيطرة أطراف الصراع علي مناطق جغرافية معينة، تستند فيها إلي تفوق عسكري، أو عرقي، أومذهبي، فتحولت إلي كيانات شبه مقسمة فعليا بين أطراف الصراع من ناحية، وتنظيمات الإرهاب من ناحية أخري، مثل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" علي مناطق واسعة في سوريا والعراق. فإذا كانت الأطراف الخارجية في اتفاق "سايكس-بيكو" القديم سببا في تقسيم العالم العربي إلي مناطق نفوذ، فإن الأطراف الداخلية في مشروع التقسيم المحتمل ستكون سببا رئيسيا لهذا التقسيم.
كما أن الدول الكبري أصبحت منكبة علي مشاكلها ومصالحها الخاصة، وليس هناك ما يدفعها للتدخل في الأزمات العربية إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها. والمثال الأمريكي في عدم التدخل في سوريا كان واضحا. فإذا ما تعقدت فرص الحل في الأزمات العربية، فإن موافقة القوي الكبري علي تقسيم هذه الدول بين أطراف الصراع ستكون أمرا واردا، علي نحو ما حدث في البوسنة والهرسك، وفقا لاتفاق دايتون عام 1995. وفي اعتقاد بعض الدول الكبري أن تفتيت وتقسيم الدول العربية يحقق مصالحها، حتي لا تستطيع هذه الدول التوحد مرة أخري في مواجهة مصالح الدول الكبري. بل إن تفتيت هذه الدول يصبح في مصلحة إسرائيل، حيث لن تكون هناك دولة عرقية أكبر منها في المنطقة. كما أن تفتيت الدول سيجعلها ضعيفة، وسيجعل إسرائيل متفردة في الحفاظ علي أمنها القومي، فلن يجبرها أحد علي التخلي عن الأراضي العربية المحتلة. كما أن التقسيمات المحتملة تنهي واقعيا أي فرص للعرب للتوحد والتكتل.
لكن هناك وجهة نظر تقول إن تقسيم المقسم لن يكون في مصلحة الدول الكبري، لأنها تتعامل مع الدول الوطنية القائمة بأريحية ومرونة، فما بالك عندما تصبح هذه الدول عبارة عن جماعات عرقية أو مذهبية مختلفة؟ فضلا عن أن أسس التناحر والصراع ستظل قائمة بين هذه الكانتونات الصغيرة، وهذا بالتأكيد سيكون مدعاة لعدم الاستقرار الإقليمي. كما أن اتجاهات التقسيم تتعارض نظريا مع الاتجاهات الدولية السائدة نحو التكتل والتوحد في صيغه المتنوعة.
وبالعودة لاحتمالات التقسيم مجددا، فإن اتفاق "سايكس-بيكو" القديم كان سرا اتضح جزء منه في عام 1917 علي يد الروس، وتبلور في اتفاق سان ريمو 1920. إلا أن مشروعات التقسيم الحالية ليست سرا، بل هناك من روج لها، ومنها أفكار كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، عن الفوضي الخلاقة. كما أن "برنار باجوليه"، مدير المخابرات الفرنسية، صرح، في مؤتمر صحفي مشترك في واشنطن منذ عام مع نظيره الأمريكي جون برينان، بأن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهي إلي غير رجعة"، مشككا في أن يعود مجددا إلي ما كان عليه، ومشددا علي "أن دولا مثل العراق أو سوريا لن تستعيد أبدا حدودها السابقة".
كما أن أندرس فوغ راسموسن، الأمين العام السابق لحلف الناتو، قد قال في ندوة "حول كيفية الحل في سوريا" -عقدت بإحدي المدن التركية القريبة من الحدود السورية- ينبغي تقسيم البلاد في إطار التوزعات الإثنية والدينية عبر إقناع الرئيس الأسد بمغادرة السلطة علي غرار ما حدث في البوسنة.
لكن ماذا يمكن للعرب أن يفعلوا الآن، وهم يعلمون حقيقة ما يحدث؟ ما هي فرص العرب في الإفلات من سايكس-بيكو الجديدة؟ أم أنهم سيقعون فريسة لها علي نحو ما فعل السلف؟
المهمة بالتأكيد صعبة، لكن ليس هناك مستحيل، فقد تدفع الأخطار المتزايدة إلي مزيد من التوحد بين الدول العربية. فقد دفع التوصل إلي تسوية للبرنامج النووي الإيراني بين إيران والولايات المتحدة إلي توحد الدول الخليجية فيما بينها، وفيما بين أطراف عربية أخري.
كما أن هناك مسؤلية كبيرة علي الدول الرئيسية المستقرة في العالم العربي في العمل المثابر من أجل إيجاد حلول ودعم للتسويات السياسية التي يمكن أن تحفظ وحدة الدولة الوطنية، لأن النجاح في إيجاد تسوية لأزمة ما سوف يعزز فرص النجاح في تسويات أخري، فتسوية الأزمات العربية لن يكون إلا بأيد عربية.
كما يمكن العمل علي إعلاء المكون الوطني في الخريطة السياسية لبعض الدول مثل العراق، والاعتماد علي سياسات المواطنة، والبعد عن التمييز والتهميش الطائفي، وأن يعود العراق دولة لكل مواطنيها، وهذا لن يتم إلا إذا حدث توافق بشكل أو بآخر بين العرب وإيران، وعلي نحو أدق بين السعودية وإيران، ووضع حد للتنافس الحاد بين الدولتين في قضايا الإقليم.
وهناك ضرورة كبري لأهمية مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تسعي إلي هدم الدولة الوطنية، وإنشاء كيانات هشة موازية لسلطة الدولة.
ومن المهم أيضا مساندة الدول العربية المستقرة لتجاوزها للأزمات الطارئة، أو مساندة عمليات الإصلاح فيها، سواء كان إصلاحا سياسيا أو اقتصايا. فالمناعة الحقيقية للدول موجودة بداخلها، وذلك باحترام إرادة وحقوق وحريات الشعوب علي أسس سليمة من الديمقراطية والمشاركة التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق. وفي إطار سيادة دولة القانون، لابد من تأكيد وطنية النخب، سواء كانت حاكمة أو معارضة.
وهناك قطاعات واسعة من الشعوب تؤمن بأهمية الحفاظ علي وحدة الدولة الوطنية، بل إنها تؤمن بالوحدة بين الدول العربية. هذه القطاعات يمكن المراهنة عليها في رفض خطاب التجزئة والثورة عليه. فالسوريون الذين خرجوا مطالبين بالحرية والديمقراطية لا يمكن أن يقبلوا أن تقسم بلادهم. لذا، لابد من رفض تيار التجزئة، ونشر الوعي بقيمة التوحد الوطني، مقابل نقيصة الانقسام.
كما أن النظام الدولي الحالي الذي يتسم بالتعدية ليس نظاما أحاديا، فهناك قوي دولية قد تكون غير مهتمة أو متحفظة علي خطط التقسيم. لذا، فالولايات المتحدة لا يمكنها فرض مشروعات التقسيم فرضا، لكن يمكنها ذلك من خلال استراتيجيات التهيئة من الداخل، لأن الأطراف الداخلية للصراع يمكن أن تسهم في وجود تقسيم واقعي علي الأرض. ويزيد من خطورة الأمر أن الأطراف الداخلية للصراع في عدد من الحالات مرتبطة في قرارها ومصيرها بقوي إقليمية ودولية أخري تسهم في تعقيد الموقف، ولذا فإذا كان ثمة مجال للتقسيم، فسيكون بسبب الأطراف الداخلية أكثر منه بسبب الأطراف الخارجية.
"السياسة الدولية" من خلال نخبة من كبار الكتاب والمتخصصين تستدعي الذكري المئوية لاتفاق سايكس-بيكو لتقارن بين وضع العالم العربي آنذاك، والوضع العربي القائم، وتحاول الإجابة علي مجموعة من التساؤلات حول واقع الأزمات العربية في ظل ما يتردد عن تقسيمات سايكس بيكو جديدة أو محتملة، ومدي قدرة العرب علي مواجهة سايكس-بيكو، الجديدة، وتطرح مجموعة من السيناريوهات حول مستقبل خريطة الشرق الأوسط، وسيناريوهات النظام العربي، كما تطرح مجموعة من الأزمات العربية المرتبطة بسيناريوهات التقسيم المحتملة، مثل العراق، وسوريا، وليبيا.
إن العالم العربي في مرحلة حرجة، ولابد من حشد كل الهمم والطاقات في سبيل التوحد، وصيانة الأوطان، ولابد من الاستفادة من جميع الطاقات العربية لخدمة كل القضايا العربية.
رابط دائم: